مع ابتعاد النظام الدولي رويدا رويدا عن النفط الكلاسيكي ووقوده الأحفوري، وباتجاهه ولو بخجل نحو الطاقة البديلة والمتجددة، فلن تكون العقود القادمة أبدا بردا وسلاما على شركات النفط العالمية، وكل المؤشرات تنذرها بمشكلة ومأزق كبير، لتغير مفهوم سلاسل الامداد وطبيعتها وحتى فكرتها .
فعندما يتعلق الأمر بـ سلاسل التوريد العالمية فإننا نصل لناحية مظلمة للغاية . حيث ابتليت هذا العام سلاسل التوريد بعدد لا يحصى من الكوارث حيث حادث قناة السويس، ومسلسل الانقطاعات الناجمة عن الطقس القاسي وتغير المناخ والتفشي الجديد للفيروسات في مختلف البلدان الذي أدى الى إغلاق الموانئ فيها.
لقد وصلت اضطرابات سلسلة التوريد إلى مستويات قياسية في عام 2021، وتُعزى الزيادة الاضطرابية الصادمة في الغالب إلى الثغرات في التنفيذ التنظيمي والعملاني، وأيضًا بسبب النقص في عمال المستودعات المهرة,وتكشف البيانات أيضًا أن الاضطرابات الناجمة عن نقص الإمدادات قد ارتفعت بنسب تفوق ال 500٪ فقط في النصف الأول من عام 2021, ذلك أن التغير في كيفية التعامل مع الخدمات اللوجيستية يقودنا حكما الى انخفاض متسلسل بالقيمة الاسمية والمادية للشركات الكبرى، وبالتالي انخفاضا في حجم الطلب على المادة، بزعزعة لمعادلة العرض والطلب المناسبة للتوازن العالمي، مع التعديل لكمية الاستخراج والانتاج والبيع السنوية، وكلهم سيؤدون لخسائر كبيرة في الأرباح .
فواحدة من المشاكل الرئيسية التي تسبب النقص هي ازدحام الموانئ، كنتيجة لاستمرار الطلب وقت الاغلاق وهي المرحلة التي كانت فيها السلسلة مشلولة نتيجة الاغلاق التام، بوجود العشرات من سفن الحاويات تنتظر الافراغ في موانئ العالمية والأمر قد يستغرق شهورًا حتى يتم تصفية الأعمال المتراكمة وتلبيتها، بينما لا تزال مراكز اللوجستيات الداخلية مزدحمة بالحاويات التي لم يتم تحميلها بعد حتى على الشاحنات للوصول إلى سفن الشحن والقيام برحلتهم إلى وجهاتهم النهائية.
ويتسبب النقص في سائقي الشاحنات في مزيد من الاختناقات في الموانئ ومراكز السكك الحديدية الداخلية, بمعانات متواصلة للشركات في شحن منتجاتها إلى الخارج والحصول على طلباتها في الوقت المناسب، بارتفاع متوسط تكلفة شحن حاوية من الصين لأميركا لأكثر من خمسة أضعاف، فالنقص للموارد الأولية في ارتفاع، والصناعة تتضرر تلو الصناعة وبشكل فاضح, والتنفيذيون في العالم متفقون على إنه لا توجد نهاية تامة في الأفق والوقت الراهن لأزمة سلسلة التوريد.
تهدد الاختلالات في سلاسل التوريد بعرقلة الانتعاش الاقتصادي العالمي هذه الفترة الى جانب العديد من المشاكل المتفاقمة ( الكورونا، التضخم العالمي، الزاعات السياسية, الفوضى، الاغلاق، ..)، ويتسبب الجمع بين الطلب الوهمي على السلع وسلسلة التوريد في حدوث تشوهات كبيرة في الاقتصاد العالمي، كما أنه يخلق فقاعات أصول في الأسواق المالية ويهدد بإحداث طفرة تضخمية لا مثيل لها, وتكمن المشكلة الرئيسية في أنه عندما أدركت الشركات أنها تستطيع فرض رسوم أعلى على نفس المنتجات وكان المستهلكون يقبلون بهذه الزيادات دون سؤال، فسوف يستمروا في الابتعاد عن رفع الأسعار حتى بعد تحسن الظروف عبر سلاسل التوريد. وهذه هي الذات الطريقة التي يتسلل بها التضخم المفرط إلى الاقتصادات العالمية والذي سوف يتسم ويلتصق مستقبلنا به، والحقيقة تقول بأنه لن تتضخم الأجور بشكل كبير, الحال الذي يعني بأننا نتجه إلى عصر التدهور الاقتصادي بينما يستمر سعر كل شيء في الانفجار.
حيث وصلنا وبسرعة إلى مرحلة لا يمكننا فيها حتى الانتظار في أسابيع بعد الآن للحصول على السلعة,والحقيقة هي أن النقص العالمي في التوريد لا يظهر أي بوادر للتراجع، ومع ذلك تستمر صناعة السيارات مثلا في مواجهة أزمة لا مثيل لها، حيث يلقي العديد من أكبر شركات صناعة السيارات في العالم باللوم على النقص في النتائج المالية المخيبة للآمال مع الصعود الخفي للسيارات الاقتصادية الخضراء والصديقة للبيئة، وينعكس هذا الأمر على مستقبل الاحتياطي النفطي, فهو بخطر وبات أيضا محور شك نتيجة لتحول الصناعات ولو بخطوات ثقيلة نحو الصناعات البديلة للطاقة ( الشمس، الهواء، الهيدروجين )، والتي ستؤدي حكما الى اضمحلال وضعف في البداية على الطلب, ومع ارتفاع حجم عروضها وبالتالي الى خسارة فادحة في قيمتها.
فهنالك تراجع استثماري في سوقي النفط والغاز بالذات بعد تدني الأسعار في الأسواق الدولية بالاضافة ضمور حجم الانتاج والطلب على النفط والغاز نتيجة لجائحة الكورونا والذي انعكس سلبيا على العرض,مع انشغال الشركات العالمية والحكومات في أغلب الدول بأعمال الصيانة، الأمر الذي أدى الى انخفاض في المخزونات الاستراتيجية المسببة لأزمة الطلب، المسبب بلا هوادة الى زيادة في الأسعار.
فقد انخفضت كمية الغاز في أوروبا، بسبب ايلاء الأهمية والأولوية لعقود الغاز الطويلة الأجل وليس القصيرة مع الامداد ضعيف في الأصل، مع توافرالاختلال في المناخ والذي أثر على كمية الأمطار والمتساقطات والذي أدى الى تراجع في كمية المياه، الذي أوصلنا الى خلل في انتاج الطاقة العالمية .
لقد حوصر العالم بموجة عشوائية, وحالة من الارباك العالمي كنتيجة للموجة الكبيرة من التضخم والتي سوف تنعكس بنقص حركات الامداد للطاقة المسببة بديهيا لرفع أسعارها بشكل اضافي وخصوصا في البلدان والتي تعد مصدرا رئيسيا للسلع والتي تمثل الاحتياجات الأساسية للاستهلاك والانتاج مثل ( أميركا، الصين والهند ) .
فأسعار المواد الغذائية ترتفع بنغمات عالية ومقلقة, وقد ساهم فشل المحاصيل ونكسات الحصاد مع زيادة طلب المستهلكين والاضطرابات المطولة في سلسلة التوريد في هذه الزيادة المؤلمة، وقد أثر الارتفاع الأخير في جميع أنواع المواد الغذائية تقريبًا، مما زاد من الضغوط التضخمية عبر الاقتصاد بأكمله يومًا بعد يوم، ويتقدم المزيد من الناس لكشف الرفوف الفارغة التي يرونها بشكل منتظم في المحلات مع تضاؤل الإمدادات الغذائية، وسوف نشهد المزيد من النقص في الأشهر المقبلة، وسيكون ارتفاع الأسعار مؤلمًا بشكل خاص.
في الاخفاق لمعالجة أزمة سلاسل الامداد، هنالك خطر على تفاقم المشكل تراكمها وزيادتها نتيجة التباطؤ في مكافحتها، والذي سوف يؤدي الى نقص في السلع الأساسية، بانكماش لحركة التجارة، الأمر الذي يؤشر الى انخفاض لمعدل الجباية الضريبية الكلاسيكية والمصاحب لانخفاض في الرواتب والأجور المدخل المباشر للركود, والذي يعني بطبيعة الحال الى استمرار حالة التضخم وارتفاعها لحالات قياسية، بفرضه لزيادة في الأسعار بشكل مضطرد ومضاعف .
مع الانهيار الموصوف وغير المتدارك لقيمة العملات الوطنية، والتدهور لقدرتها الشرائية ترتفع معدلات الكبت الاجتماعي ونسبة الغضب البشري أكثر فأكثر, وهو الذي يقودنا بشكل حتمي الى حركات غير منضبطة من العنفية والتمردية، الى مظاهرات وبالتالي الى عدم الاستقرار ( السياسي والاجتماعي، الاقتصادي والمالي، الاداري المؤسساتي والقانوني )، والمصاحب للفوضى والعشوائيات، وهو الأمر الذي يسبق حكما سيناريوهات انهيار الانظمة والدول ومؤسساتها .
وكل ذلك يتوقف على طريقة التعامل كل دولة مع الواقع والمشكلة والقرارات المتخذة لمكافحة المسألة,بالاضافة للمسؤولية والتي تقع على عانق الفرد بتقليص دائرة صرفياته واقتصار شرائه على الضروريات فقط، ولعدم الانصياع وراء الاشاعات والفبركات الاخبارية والاعلامية، لأن بهجوم الأفراد لشراء سلعة معينة بوقت واحد تخلق حكما لمشكلة في التوازن ولزعزعة سوق العرض والطلب، والمكرسة لانفلاش السعر وتفلته، فالسلع لن تختفي ولكنها سوف تتأخر في الوصول من المنتج الى المستهلك .
فهي أزمة يمكننا التعامل معها ولكن بحذر لأن من شأن أي تحول اضافي أن يفاقمها، فالحلول بالطبع كثيرة ومنها وبشكل أولي، الحرص الابتكاري بتفاهم سياسي على حالة من التوازن في المصالح بين القوى الكبرى المتصارعة باستثمار السلع الجيوسياسية ( الغاز – النفط ) كورقة حل ايجابية وتفادي مأزق النفط الرخيص,والعمل على حل مشكلة النزاعات التجارية الدولية بالوصول الى تكريس حقيقي للتجارة العادلة والمساواة في الملاءة بين الدول النامية في النظام الدولي، بغية الوصول للايكوسيستيم ( توازن طبيعة الكم ) الاستقرارية، وافساح المجال للدول الفقيرة بالاستفادة قدر الامكان من التكنولوجيا، والتحفيز لأطر جديدة من الاستثمارات في مجالي النفط والغاز والعمل على زيادة الثقة الاتفاقية بموارد الطاقة المتجددة والبديلة لانها حاجة ملحة .
بتنا وبشكل ملح بحاجة للاتجاه نحو الجيل الرابع من سلاسل التوريد المتناغم مع الثورة الصناعية الرابعة والمنسجم بادغام كلي مع تقنيات الجيل الخامس من تكنولوجيا، متماشية مع جوهر الحوسبة والتجاور السحابي والذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء، الى نموذج مختلف للبنية التحتية المؤسسة لسلاسل التوريد بالعمل على التأسيس لكبسولة من السلاسل التوريد المضغوطة المعزولة وغير المعرضة لأي نشاط يقلل من فعاليتها، ذات النسق الابتكاري الخلاق والمعتمد على العالمين المادي والمحسوس بخطة دمج تراعي متطلبات العصر وظروفه وتقدر الوقت والسرعة لتلبية الحاجات الخدماتية، والمحاولة بجد لتقليل الهدر من الوقت وتقليص المدة الزمنية تفاديا للخسارة في رحلة السلعة والمواد المطلوبة في مشوار التوريد, فالعالم على أعقاب ولادة النموذج الجديد لسلاسل التوريد, ذات الصفة الذكية والابداعية تكون أقل عرضة للجرائم الالكترونية، فمرحبا اذا بالجيل الرابع من سلاسل التوريد العالمية، والذي سأتناوله بالتفصيل في الموضوع القادم.