ما طبيعة العلاقة بين الجغرافيا السياسية للعالم والمهام التي تقوم سلاسل الإمداد العالمية؟
هل يمكن أن تؤثر العلاقات الجيوسياسية بين الصين وأمريكا على منظومة سلاسل الإمداد العالمية؟
تعتبر سلاسل الإمداد العالمية بمثابة حلقة جديدة في الصراع المحتدم بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، فمن الطبيعي أن يؤثر التوتر الواقع بين البلدين وبخاصة على الصعيد الاقتصادي على طبيعة المعاملات التجارية وتبادل المنتجات والسلع بين الجانبين.
ويعتقد الخبراء بأن الضغوط الاقتصادية التي تمارسها الولايات المتحدة على الصين سوف تتسبب في تعطيل المصالح الأمريكية المرتبطة بسلاسل الإمداد العالمية في المقام الأول، وهي الحقيقة التي يعتبرها بعض رجال الاقتصاد، غائبة عن واشنطن، ولكن الأثر البارز للعلاقات الجيوسياسية بين البلدين على طبيعة عمل منظومة سلاسل الإمداد العالمية قد يستدعي ضرورة مراجعة المواقف الدولية وإعادة هيكلة الخطاب المتبادل بين كل من الصين وأمريكا.
وبنظرة أكثر واقعية لمستقبل العلاقات الصينية الأمريكية في ظل التنافس الضاري بين البلدين، فهناك من يعتقد بأن نشوب أزمة اقتصادية عالمية محتملة قد يؤدي إلى تقلص الاقتصاد الصيني على نحو كبير وذلك بسبب ارتفاع حجم الواردات الصينية في الأسواق الأمريكية والعكس، فمن المتوقع في تلك الحالة ألا يتأثر الاقتصاد الأمريكي بشكل ملحوظ وذلك لأن المنتجات الأمريكية التي يتم توريدها إلى الصين تشكل فقط قرابة 0.5 % من إجمالي الناتح المحلي، ولكن بنظرة أكثر موضوعية فإن التنبؤ بالخريطة المستقبلية لشكل العلاقات الاقتصادية بين البلدين قد يبدو أمرا أكثر تعقيدا.
ما هي سلاسل التوريد العالمية؟ وكيف تعمل؟
قد يكون من الأحرى الإشارة أولا إلى طبيعة عمل وكيفية إدارة سلاسل الإمداد العالمية كي يتسنى لنا الوقوف على أبعاد مستقبل العلاقة بينها وبين التطورات التي يشهدها ملف العلاقات الجيوسياسية الصينية الأمريكية، وعليه فيمكن توصيف سلاسل الإمداد أو التوريد باعتبارها شبكة متصلة من الأفراد والمنظمات والموارد والأنشطة والتكنولوجيات المشاركة في عملية التصنيع وبيع المنتجات أو الخدمات بهدف وصول المنتج النهائي في صورته المثلى إلى يد المستهلك.
ويعد الحصول على المواد الخام أو الأولية اللازمة للتصنيع هي نقطة البداية بالنسبة لدورة عمل سلاسل الإمداد، لتتمثل الخطوة الأخيرة في حصول المستهلك على المعلومات أو الخدمات أو المنتجات، وبين البداية والنهاية، توجد بعض المراحل المعتمدة على أطراف متعددة كالمصانع والموردين والموزعين، وتساعد الإدارة المثلى لسلسلة التوريد على خفض النفقات وسرعة الرتم الخاص بدورة الإنتاج.
وتستعين الشركات الكبرى بسلاسل الإمداد من أجل تسهيل الصناعات المعقدة والتي تتطلب توفير العديد من المكونات والتقنيات والمعلومات، كما أن سلاسل الإمداد العالمية تتضمن فريق من المختصين بوضع تصورات عن الاحتياجات المستقبلية للشركات، الأمر الذي يساعد أصحاب الأعمال على تحديد نطاق احتياجاتهم من المواد الخام والأجزاء الخاصة بالصناعة، تجنبا لحدوث الفائض في المكونات التي قد تبقى دون استخدام.
وهناك بعض الخبراء ممن يعتقدون أنه قد يمكن تقديم تعريف نظري عن ميكانيزم سلاسل الإمداد العالمية، في الوقت الذي يبدو فيه من الصعوبة بمكان تقديم تصور عملي عن الطبيعة المادية المتغيرة لتلك المنظومة والتي تتألف من مجموعة من العمليات المعقدة، مما يجعلها غير قابلة للتحليل النمطي أو التنظير الثابت.
ومن البديهي أن تؤثر العلاقات الدولية على المهام التي تقوم بها سلاسل الإمداد العالمية، فقد يكون تعمد إعاقة المنظومة بأكملها هدفا للحرب الاقتصادية بين الصين وأمريكا، فالطبيعة المادية لعمل السلاسل العالمية قد يجعل استهدافها أمرا سهلا من قبل الأطراف المتنازعة، ولكن يبقى التحدي الوحيد الذي قد يحول دون إقحام السلاسل العالمية في دائرة الحرب الاقتصادية، ألا وهو الاعتماد على تقنية الانترنت والخدمات السحابية، والتي يمكن القول بأن السبيل الوحيد لاعتراضها في تلك الحالة ليس الحرب الالكترونية، ولكن إمكانية توجيه الصواريخ إلى مناطق تواجد الخوادم الرئيسية المغذية للشبكة العنكبوتية العالمية.
كيف أصبحت سلاسل الإمداد العالمية على الجبهة القتالية للحرب الاقتصادية؟
في تقرير سابق أعدته وكالة “بلومبيرغ” فإن القرارت الأمريكية بفرض رسوم جمركية على المنتجات والبضائع الصينية كنوع من الإجرءات الانتقامية يشكل تهديدا خطيرا لمصالح الشركات الكبرى وسلاسل الإمداد العالمية، هذا في الوقت الذي أعلنت فيه الصين عن نيتها إعداد دراسة تستهدف فرض رسوم جمركية عقابية على منتجات بتروكيماوية، مما قد يشكل ضربة للولايات المتحدة في مقتل.
ومن ناحية أخرى، يعتقد خبراء الاقتصاد العالمي بأن القرارات الأمريكية ضد الصين قد تنعكس سلبا على الاقتصاد الأمريكي ذاته، لأن الورادات الصينية التي كانت هدفا للعقوبات الأمريكية تشمل العديد المكونات التي تدخل في صناعة الصلب الأمريكية، الأمر الذي قد يهدد المجال الصناعي في الولايات المتحدة بوجه عام، حيث أن ارتفاع أسعار المنتجات الأمريكية في تلك الحالة سيشكل خطورة على تنافسيتها العالمية، مما قد يجعل من العقوبة الأمريكية ضد الصين خنجرا في صدر الصناعة الأمريكية.
وقد أثار الصراع الواقع بين الجانبين الأمريكي والصيني مخاوف العديد من الشركات متعددة الجنسيات التي لديها أعمال كبيرة في الصين، الأمر الذي اضطر سلاسل التوريد العالمية إلى دفع الكثير من الشركات الأجنبية نحو جمع منتجاتها في الصين بعد الحصول على المكونات الأساسية في دول أخرى، ومن ثم عرضها للبيع في الأسواق العالمية، الأمر الذي يضع تلك الشركات والسلاسل الكبرى في بؤرة الخطر في حال استمرار النزاع بين أقوى اقتصادين في العالم.
وبما أننا هنا بصدد الحديث عن مدى تأثير الجغرافيا السياسية على طبيعة عمل سلاسل الإمداد في ظل الحرب الاقتصادية العالمية، فلابد من الاعتراف أولا بأن المواقف الدولية للقوى السياسية لكل من الصين والولايات المتحدة هي الدافع الرئيسي لإشعال فتيل الحرب الاقتصادية، والتي يحذر الخبراء من وقوع سلاسل الإمداد والشركات الكبرى ضحية لأحداثها.
وإن كان الصراع بين كل من بكين وواشنطن يبدو تجاريا في المقام الأول، إلا أنه يمكن القول بأن المخاوف الصينية من الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة على بحر الصين الجنوبي باعتباره التهديد الأكبر لمنظومة سلاسل الإمداد الصينية، وكذلك التخوفات الأمريكية من التحركات الصينية في غرب المحيط الهادئ، هي السبب المباشر لتوتر العلاقات بين الصين وواشنطن، وعليه فإن مستقبل سلاسل الإمداد العالمية يبدو أنه بات مرهونا بالقرارات الاقتصادية التي يتخذها الطرفان في ضوء العلاقات الجيوسياسية بينهما.
وفيما يبدو أن هناك إجماعا بين الخبراء ومحللي الاقتصاد العالمي على أن إدارة الرئيس ترامب المسئولة عن القرارات التعسفية ضد الصين لم تضع في حسبانها مستقبل الاقتصاد الأمريكي على الإطلاق، فالشركات الأمريكية الكبرى باتت تعتمد بشكل كلي على سلاسل الإمداد العالمية في توفير كافة المكونات اللازمة لمنتجاتها، وعليه فإن التصعيد الاقتصادي ذو الخلفية العسكرية القائم بين الدولتين يهدد مصالح تلك الشركات والتي تعد جزءا لا ينفصل عن كيان الاقتصاد الأمريكي.
ويبقى التساؤل الأكثر جدلا، هل ستصمد الصين في وجه الضربات الأمريكية؟ أم أن القرارات العقابية الصادرة عن واشنطن ستتحول في الأخير إلى ضربة عكسية موجهة إلى الاقتصاد الأمريكي نفسه؟ فمن الطبيعي أن تتأثر كل من سلاسل الإمداد الصينية والأمريكية سلبا بالقرارات الخاصة بزيادة التعريفات الجمركية المفروضة على السلع والمنتجات الصينية، حيث أن تعطل الحركة التجارية العالمية سيؤدي إلى ارتفاع تكلفة كافة المراحل الإنتاجية التي تقوم بها سلاسل الإمداد، وبالتالي ارتفاع سعر المنتج النهائي الذي يصل إلى المستهلك، مما سيؤدي إلى تقلص حجم الطلب في الأسواق وتوقف عجلة الإنتاج.
رابط المقال الاصلي: اضغط هنا