ان الإجابة على هذا التساؤل ليس بالأمر السهل خاصة في بلد مثل لبنان حيث ان الشفافية ومصارحة الرأي العام بالأرقام والوقائع ليست من العادات المتبعة عبر الحكومات المتعاقبة حتى تاريخنا هذا فما يحصل في كواليس السياسة واروقة السياسيين وأصحاب القرار يبقى في ادراجهم لألف سبب وسبب.
منذ ان تشكلت حكومة الرئيس حسّان دياب بعد مخاض استمرّ 33 يوماً كانت الانطلاقة مع تكليفه في 19 ديسمبر/كانون الأوّل الماضي ومن ثم حصولها على ثقة البرلمان في 11 فبراير/شباط الجاري وحتى يومنا هذا أي بعد مضي حوالي 4 أشهر لم تقدم حكومة التكنوقراط والتي سميت بـ” فريق الانقاذ” اي اقتراح جدي او خطة عملية لمعالجة ازمة الدين العام ووقف الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي والاجتماعي.
ان جل ما قامت به حكومة الرئيس دياب حتى الآن هو اتخاذها القرار بتعليق دفع اليوروبوند التي استحقت في 9 مارس/آذار، مشددا على أن “الدين أصبح أكبر من قدرة لبنان على تحمله وأكبر من قدرة اللبنانيين على تسديد فوائده”.
إنها المرة الأولى في تاريخه التي تخلف فيها لبنان عن سداد ديونه وبذلك دخل في مرحلة جديدة من أزمة مالية تعصف باقتصاده منذ أكتوبر/تشرين الأول الفائت حيث فقدت الليرة نحو 40 بالمئة من قيمتها ودفعت البنوك لفرض قواعد قيدت التعاملات المصرفية وحدت من حركة المودعين في ودائعهم وقد أعلن الرئيس دياب ان السبب وراء هذا القرار الجريء هو إن الاحتياطات في العملة الأجنبية قد بلغت مستويات حرجة وخطيرة.
عودة على بدء, لفتني تصريح للرئيس دياب مفاده أن البلاد ستسعى لإعادة هيكلة ديونها بما يتناسب مع مصلحتها الوطنية عبر خوض مفاوضات مع الدائنين. ان هذا الاجراء الخطير وضع لبنان في خانة تصنيف Selective Default ”SD” اي التعثر الاختياري وبعد انقضاء فترة الاسبوع من هذا التاريخ دون المبادرة الى طرح اي خطة عملية لمعالجة ازمة الدين العام تحول التصنيف الى Default “D” اي تعثر تام وهذا سوف يكون له تداعيات سلبية جدا على الصعيد الاقتصادي المالي النقدي.
هنا يكمن السؤال: هل تم عرض ومناقشة اللجوء إلى شراء سندات برادي Brady Bonds”” لاستبدالها بالسندات المستحقة والتي سوف تستحق دوريا حتى 2037 من خلال خطة كاملة متكاملة تعيد هيكلة الدين العام وبشكل نهائي مما يعزز ثقة المجتمع الدولي بجدية الحكومة اللبنانية في المضي قدما بمعالجة الازمة الاقتصادية التي يرزح تحتها كافة الشعب.
احقاقا للحق لم نسمع على لسان أي مستشار من تكنقراطيي الحكومة او وزرائها طرح فكرة اللجوء إلى سندات برادي كسبيل لإعادة هيكلة الدين وذلك لسببين: اما يعلمون باهميتها وكيفية إدارتها ولا يريدون اعتمادها وهذه مشكلة بحد ذاتها أم من الناحية الاخرى لا يعلمون بوجودها وهنا المشكلة الاكبر.
ما هي سندات برادي؟
بغض النظر عن الأسباب التي تم ذكرها ومن باب التذكير ان سندات برادي تحمل اسم وزير الخزانة الاسبق نيكولاس برادي الذي اقترحها للمرة الأولى في مارس/آذار 1989 في عهد الرئيس ريغان وبعده جورج بوش الأب كمبادرة حل لأزمة الديون المتعثرة التي عصفت في معظم دول أميركا اللاتينية حيث تخلفت تلك الدول عن سداد ديونها السيادية تجاه دائنيها الاجانب.
ان سندات برادي تلك لاقت رواجا كبيرا في الأسواق النامية والدول قيد التطور وكانت المكسيك أول دولة تلجأ اليها لاعادة هيكلة دينها سنة 1989 إنما سرعان ما حذت حذوها الأرجنتين والبرازيل وكوستاريكا مرورا بنيجيريا والاردن و شاطئ العاج وصولا الى روسيا وبولندا والفيليبين وغيرها من بلدان.
بشكل مقتضب وبهدف إعطاء صورة واضحة عن آلية العمل بسندات برادي لقد استخدمت البيان الرسمي أدناه والذي يوضح العملية من ألفها الى يائها. بداية بعد التفاوض مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وعرض الخطة الاقتصادية يقوم هذا الأخير بإقراض الدولة بطريقة غير مباشرة عبر الخزانة الاميركية التي تصدر بدورها سندات خزينة أمريكية تعتبر ضمانة للدائنين حيث تبادر الدولة إلى استبدال سنداتها المستحقة والغير مدفوعة بسندات برادي الجديدة والمعززة بضمانة سندات الخزينة الأمريكية مما يعتبر حافز أساسي للدائنين بالقبول باستبدال السندات بأخرى أقل قيمة منها.
ويبقى السؤال من هم الرابحون والخاسرون ؟
ان كافة الاطراف سوف تخرج من هذا الاتفاق بنوع من الرضى والمكاسب الاقتصادية ولو بحدها الادنى. اولا سوف تتمكن الدولة اللبنانية من اعادة هيكلة الدين والنهوض مجددا بالاقتصاد بعد تنفيذ خطة اقتصادية مدروسة إضافة الى تسديد قيمة مخفضة للدين بنسبة ما بين 30 إلى 40% أي ما يعرف بـ “Hair Cut”. من جهة الدائنين ان استبدال سندات مستحقة من دولة مصنفة متعثرة باخرى مضمونة من قبل الخزينة الاميركية وباعلى تصنيف سوف يعزز وضعية المستثمرين وماليتهم اضافة الى تمكنهم من تعويض الحسم ” Discount” على أساس السندات من خلال التداول بالسندات الجديدة ” Brady Bonds” في السوق الثانية “Secondary market” ضمن إطار نادي باريس ” Paris Club”. اخيرا، ان جدولة الديون المستحقة ومساعدة الدول المتعثرة على معالجة اوضاعها المالية والاقتصادية هي من ابرز مهام واهداف صندوق النقد والبنك الدولي وبتلك المساعدة مقابل تامينات على اصول مقترحة من قبل الدولة اللبنانية يكون قد حقق أهدافه.
ختاما، ارجو ان تبادر الحكومة مسرعة الى التفاوض الجدي مع الدائنين تفاديا للسيناريو الاسوأ حيث يعمد هؤلاء المستثمرون الى اللجوء الى التحكيم وليس المقاضاة لأنه بذلك سوف يتمكنون من الحجز على أصول الدولة اللبنانية ضمن الأراضي اللبنانية إذا جاء قرار المحكم الدولي لصالحهم. عندها سوف تدفع الدولة مجبرة القيمة الكاملة للسندات والفائدة المترتبة عليها وقد نخسر حسم جزء من الدين يساوي 40% من قيمتها والسلام.
رابط المقالة على Banking Files
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
اقرأ للكاتب
من الاستقلال الكبير 1920 إلى الانهيار الكبير 2020 …هل لبنان يستحق الحياة؟