إقتصادالاحدث

فوكو في عصر الهيمنة الرقميّة: من البيوسلطة إلى استعمار الخوارزميات | بقلم خليل الخوري

عندما حلّل ميشيل فوكو السلطة الحديثة، رأى أنّها لم تعد تقتصر على القمع المباشر، بل باتت تعمل من خلال ضبط الأجساد والعقول، عبر ما سمّاه “البيوسلطة” (Biopower)، أي التحكّم بالحياة نفسها. لكن لو كان فوكو بيننا اليوم، لربما وسّع مفهومه ليشمل سلطة جديدة أكثر تعقيدًا: سلطة الخوارزميات والشركات التكنولوجية التي تتحكم ليس فقط في سلوك الأفراد، بل في وعيهم ورغباتهم، من خلال آليات غير مرئية من المراقبة وإعادة التوجيه النفسي والسلوكي.
من السلطة التقليدية إلى الهيمنة الرقميّة
إذا كان القرن العشرون قد شهد بروز أنظمة سلطوية تعتمد على القوة الصلبة، فإنّ القرن الواحد والعشرين يشهد صعود “الرأسمالية المراقِبة” (Surveillance Capitalism)، وهو مفهوم صاغته الباحثة شوشانا زوبوف لوصف الهيمنة الجديدة التي تمارسها الشركات التكنولوجية من خلال جمع البيانات وتحليلها واستخدامها في تشكيل السلوك البشري.
بحسب تقرير صادر عن شركة IBM عام 2023، فإنّ 90% من البيانات العالميّة قد تمّ إنشاؤها في العامين الماضيين فقط، وهذا يعكس مدى التسارع الهائل في جمع المعلومات وتحليلها. والأخطر أنّ 80% من هذه البيانات مملوكة من قبل أقل من 10 شركات تكنولوجية كبرى، على رأسها Google وMeta وAmazon وMicrosoft.
1. الخوارزميات والتحيّز التأكيديّ: كيف تتحوّل عقولنا إلى سجون فكرية؟
أحد أخطر الأسلحة الرقميّة هو “التحيّز التأكيديّ” (Confirmation Bias)، حيث تُبرمج الخوارزميات على عرض المحتوى الذي يتناسب مع قناعات المستخدمين، مما يعزز انعزالهم داخل “فقاعات معلوماتيّة” مغلقة. دراسة أجرتها MIT عام 2022 أظهرت أنّ الأخبار الزائفة تنتشر على تويتر بمعدل 6 أضعاف أسرع من الأخبار الحقيقية، مما يؤدي إلى استقطاب اجتماعي خطير.
أما تقرير فيسبوك الداخليّ الذي سُرّب عام 2021، فقد كشف أنّ 64% من المستخدمين الذين انضموا إلى مجموعات متطرفة على المنصة تمّ توجيههم إليها عبر خوارزميات المنصة نفسها، مما يبرز دور الذكاء الاصطناعي في تشكيل الأيديولوجيات والسلوكيات.
2. التكنولوجيا كأداة للهيمنة الأمريكيّة: الشركات العملاقة في خدمة السلطة
لم تعد الشركات التكنولوجية مجرّد مؤسسات اقتصادية، بل تحوّلت إلى أذرع جيوسياسية للقوى الكبرى. بحسب تقرير RAND Corporation، فإنّ الولايات المتحدة تستخدم التكنولوجيا ليس فقط لمراقبة مواطنيها، بل أيضًا للتجسس على حلفائها وخصومها. تسريبات إدوارد سنودن عام 2013 كشفت أنّ وكالة الأمن القوميّ الأمريكيّة (NSA) كانت تتجسس على أكثر من 35 زعيمًا عالميًا، بينهم رؤساء دول أوروبية مثل أنجيلا ميركل.
تقرير آخر صادر عن معهد أكسفورد للإنترنت أظهر أنّ الحكومة الأمريكيّة تنفق أكثر من 80 مليون دولار سنويًا على حملات التأثير الرقميّ، التي تشمل نشر الأخبار الزائفة واستهداف المجتمعات المهمّشة رقميًا.
إسرائيل والاستعمار الرقميّ: من “بيغاسوس” إلى التجارب على الفلسطينيّين
إلى جانب الولايات المتحدة، تلعب إسرائيل دورًا رئيسًا في منظومة المراقبة العالمية، عبر تطويرها برامج تجسس تُباع للأنظمة القمعية. على رأس هذه الأدوات نجد “بيغاسوس”، وهو برنامج طوّرته شركة NSO Group الإسرائيلية، وكُشف عن استخدامه في اختراق هواتف أكثر من 50 ألف شخص حول العالم، بينهم صحفيّون وناشطون وقادة سياسيون.
كما أنّ إسرائيل تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعيّ لتحليل أنماط السلوك الفلسطينيّ في الضفة الغربية، حيث يُعتبر الفلسطينيّون “حقل تجارب” لأنظمة المراقبة قبل تصديرها إلى دول أخرى.
الصين وروسيا: هل تقدّمان نموذجًا بديلاً أم نظام رقابة جديدًا؟
في مواجهة الهيمنة الأمريكيّة، تعمل الصين وروسيا على تطوير نماذج رقميّة خاصة بهما:
•الصين: طوّرت “جدار الحماية العظيم” (The Great Firewall)، الذي يمنع الشركات الأمريكيّة من السيطرة على فضائها الرقميّ. كما تمتلك نظام “الائتمان الاجتماعي”، الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعيّ لمراقبة سلوك المواطنين ومنحهم درجات تؤثر على فرصهم في العمل والتنقل.
•روسيا: تعتمد على بدائل مثل Yandex وVK، كما تستثمر في فرق إلكترونيّة متخصّصة في “حروب المعلومات”، حيث كشفت دراسة لمركز الأبحاث الأمريكيّ CEPA أنّ روسيا تمتلك أكثر من 3000 حساب إلكتروني مخصّص لنشر الأخبار الزائفة عالميًا.
لكن رغم هذه الاستقلاليّة النسبيّة، فإنّ الصين وروسيا تمارسان أنظمة رقابة صارمة، ما يثير تساؤلًا: هل هما بديل حقيقيّ، أم مجرد شكل آخر من أشكال التحكّم الرقميّ؟
خارطة طريق للاستقلال الرقميّ العربيّ
لكي تتمكن الدول العربيّة من مواجهة هذه الهيمنة، يجب عليها اتّباع سياسات رقميّة واضحة، منها:
1.إقرار قوانين لحماية البيانات، على غرار اللائحة الأوروبيّة (GDPR)، خاصة وأنّ تقريرًا صادرًا عن “Data Privacy Index” كشف أنّ 80% من مواقع الإنترنت في الشرق الأوسط تتبع بيانات المستخدمين دون إذنهم.
2.تطوير منصّات رقمية عربيّة، فحاليًا يتم استضافة أكثر من 95% من البيانات العربيّة على خوادم أمريكيّة أو أوروبيّة.
3.تعزيز البحث في الذكاء الاصطناعيّ، حيث تساهم الدول العربيّة بأقل من 1% في الأبحاث العالميّة، مقارنةً بـ32% للصين و44% للولايات المتحدة.
4.إدراج البرمجة في المناهج الدراسيّة، كما فعلت سنغافورة وكوريا الجنوبيّة، مما جعلها من الدول الرائدة في الأمن السيبرانيّ.
5.بناء تحالفات رقميّة مع قوى صاعدة مثل الصين وروسيا والهند، لضمان عدم الاعتماد الحصريّ على التكنولوجيا الأمريكيّة.
بين العبوديّة الرقميّة والاستقلال التكنولوجيّ
كما قال فوكو: “المعرفة سلطة”، لكن في العصر الرقميّ، فإنّ التحكّم بالمعلومات بات أقوى من أي سلطة تقليدية. نحن لا نواجه مجرد أدوات تكنولوجية، بل أنظمة هيمنة تعمل على تشكيل وعينا وسلوكنا بطرق غير مرئية.
المستقبل لن يكون لمن يملك القوة الاقتصادية فقط، بل لمن يملك السيادة الرقميّة. فإما أن نصبح مجرّد مستهلكين في عالم تسيطر عليه الخوارزميات، أو أن نبني أنظمتنا الرقمية المستقلّة ونستعيد السيطرة على بياناتنا وقراراتنا.
والسؤال المطروح: هل نحن مستعدّون لهذه المواجهة، أم أننا سنبقى مجرّد “بيانات” تبيعها الشركات الكبرى لمن يدفع أكثر؟

خليل جرجي الخوري، كاتب في الشؤون الاستراتيجية الدولية

خليل جرجي الخوري، كاتب وباحث متخصص بالشؤون الدولية. عمل على الملف الصيني الاميركي وموضوع نزعة السيطرة في السياسة الاميركية الدولية. له مجموعة واسعة من الدراسات والمقالات التي نشرت على مواقع لبنانية وعربية متخصصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى