في ظل الإنهيار الاقتصاديّ الذي يعصف بلبنان منذ سنوات، أصبح من الواضح أنّ البلاد لا يُمكنها العودة إلى الخارطة الدوليّة للاستثمارات والأسواق الماليّة العالميّة دون تنفيذ إصلاحات جذريّة وشاملة.
لقد تراجع المجتمع الدوليّ عن دعم لبنان بعد فشل السياسيّين في تنفيذ الإصلاحات التي تمّ الإتفاق عليها في مؤتمر “سيدر” الذي عُقد في باريس في نيسان 2018.
وفي تشرين الأول 2019، إندلعت احتجاجات شعبيّة واسعة النطاق ضد الطبقة الحاكمة إحتجاجاً على الفساد وسوء الإدارة وتدهور الأوضاع الاقتصاديّة. جاءت هذه الإحتجاجات كنتيجة طبيعيّة للضغوط الاقتصاديّة المتزايدة والسياسات الماليّة غير الفعالة التي عمّقت الفقر والبطالة.
منذ أن بدأ الاقتصاد اللبنانيّ بالإنهيار، تراجعت قيمة العملة اللبنانيّة بالنسبة للدولار الأميركيّ، ولكن لاحقاً حصلت الكارثة حيث توقّف لبنان عن دفع ديونه الخارجيّة في آذار 2020، وكان ذلك إشارة واضحة على الأزمة العميقة التي يُواجهها النظام الماليّ والاقتصاديّ؛ ففقدت العملة تدريجيّاً حوالى 98% من قيمتها، ومنعت المصارف معظم المودعين من سحب مدخراتهم، ممّا دفع بأكثر من 80% من السكان للوصول إلى تحت خط الفقر. وتفاقمت الأزمة أكثر بعد تهريب النافذين ثرواتهم بالدولار “الفريش” إلى الخارج وتجميد أغلبيّة ودائع المواطنين، ممّا أدى إلى فقدان الثقة في النظام المصرفيّ اللبنانيّ.
في الحقيقةً، لقد أدّى التوقّف عن سداد الديون إلى تفاقم الأوضاع الماليّة في البلاد، وجعل من الصعب على الحكومة الوصول إلى الأسواق الماليّة العالميّة. بالإضافة إلى ذلك، تسبّبت القيود الصارمة على كل السحوبات والتحويلات المصرفيّة بأزمة ثقة بين المواطنين والمصارف، ممّا أدى إلى انهيار الثقة في النظام الماليّ.
وفي نيسان 2023، وقّع لبنان مع صندوق النقد الدوليّ إتّفاقاً مبدئيّاً بهدف الحصول على دعم ماليّ ومساعدة تقنيّة، ولكن هذا الإتّفاق مشروط بتنفيذ إصلاحات حاسمة. نذكر من بين هذه الإصلاحات:
– إصلاح القطاع المصرفيّ عبر إعادة هيكلة المصارف اللبنانيّة وضمان الشفافيّة في عملياتها.
– إصلاح الماليّة العامة عبر تحسين إدارة الإيرادات والنفقات الحكوميّة وتقليل العجز الماليّ.
– مكافحة الفساد عبر تعزيز الشفافيّة والمساءلة ومحاربة الفساد المستشريّ في المؤسسات الحكوميّة.
– إصلاحات إقتصاديّة هيكليّة عبر تحديث وتنويع الاقتصاد اللبنانيّ ليصبح أكثر استدامة وقدرة على المنافسة.
لكن رغم التوقيع على الإتّفاق، لم تقم الحكومة ولا البرلمان اللبنانيّ بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة. ويعود ذلك إلى عوائق عديدة منها:
– الأزمة السياسيّة التي تتلخص بعدم القدرة على انتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة فعّالة تُعرقل تنفيذ الإصلاحات.
– الفساد والمحسوبيّة اللذان يقوّضان باستمرارهما أي جهود للإصلاح.
– المصالح الطائفيّة والسياسيّة إذ إنّ تباين المصالح بين الفصائل السياسيّة المختلفة يُعوّق اتّخاذ قرارات حاسمة.
وبدون هذه الإصلاحات، لن يتمكّن لبنان من جذب الاستثمارات الضروريّة لإنعاش اقتصاده، ولا يمكن استعادة ثقة المجتمع الدوليّ والمستثمرين، ممّا يؤدي إلى تدهور الظروف المعيشيّة التي يُعاني منها المواطنون اللبنانيّون.
ولقد هدد صندوق النقد الدوليّ بطريقة مبطّنة بإلغاء الإتّفاق المبدئيّ إذا لم يتمّ الإلتزام بالإصلاحات المطلوبة التي ذُكر في طليعتها إقرار خطة التعافي الماليّ التي تهدف إلى وضع الاقتصاد على مسار مستدام.
وكخبيرة وأستاذة جامعيّة اقتصاديّة، أعود وأؤكّد أنّ تنفيذ الإصلاحات المطلوبة ليس خياراً بل ضرورة ملحّة لإنقاذ لبنان من الإنهيار الكامل. ولذلك تتطلّب المرحلة القادمة:
– تحقيق الإستقرار الماليّ عبر إعادة هيكلة الديون وتعزيز النظام المصرفيّ.
– مكافحة الفساد عبر تعزيز الشفافيّة والمساءلة لضمان استخدام الموارد بفعاليّة.
– تحسين بيئة الأعمال لجذب الاستثمارات الأجنبيّة وتحفيز النمو الاقتصاديّ.
– تعزيز الحوكمة عبر ضمان اتّخاذ قرارات فعّالة ومبنيّة على أُسس علميّة ومهنيّة.
وما يؤكّد ذلك، أنّ البنك الدوليّ قد كشف في تقريره الأخير عن تدهور شديد في الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة في لبنان، وعن ارتفاع معدّل الفقر بشكل كبير، حيث ازداد ثلاثة أضعاف خلال عقد ليشمل واحداً من كل ثلاثة لبنانيّين. وأفاد التقرير بأنّ معدل الفقر النقديّ قفز من 12% في العام 2012 إلى 44% في العام 2022 في المناطق التي شملتها الدراسة، مثل عكار وبيروت والبقاع وشمال لبنان وجبل لبنان. لكن لم يتمكن البنك الدوليّ من الوصول إلى بعض المناطق مثل الهرمل وأجزاء من الجنوب يُعتدى عليها صهيونيّاً، ممّا يُفاقم الأوضاع الاقتصاديّة هناك.
وقد وصلت معدّلات الفقر بحسب تقرير البنك الدوليّ في بعض المناطق النائية، مثل عكار مثلاً، إلى 70%، حيث يعتمد السكان على الزراعة والبناء. كما أجبرت الأزمة الاقتصاديّة الأُسر على اتّخاذ تدابير تقشفيّة شديدة، بما في ذلك خفض استهلاك الغذاء والنفقات الصحيّة، ممّا قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على المدى الطويل.
ولذلك، أُشدّد من جهتي على ضرورة إقرار مشاريع تُحسّن وضع الفقراء وتوسّع برامج المساعدة الاجتماعيّة لضمان حصول الأسر المحتاجة على الموارد الأساسيّة، خصوصاً أنّ الأزمة الاقتصاديّة في لبنان تتفاقم بسبب وجود حوالى مليونَيْ لاجئ سوري يعيش حوالى 90% منهم تحت خط الفقر. ناهيك عن وجود نزوح داخلي كبير وأضرار للبنية التحتيّة اللبنانيّة والزراعة والتجارة نتيجة الحرب الإسرائيليّة على الجنوب والبقاع، ممّا أدى إلى تراجع السياحة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ خبراء صندوق النقد الدوليّ حذّروا مؤخّراً من أنّ الإصلاحات الاقتصاديّة الحالية في لبنان غير كافية للمساعدة في انتشال البلاد من أزمتها. فقد أشار رئيس بعثة الصندوق في لبنان، “آرنستو راميريز ريجو”، إلى أنّ أزمة اللاجئين المستمرّة والحرب مع إسرائيل على الحدود الجنوبيّة وتسرّب تبعات الحرب في غزة تؤدّي إلى تفاقم الوضع الاقتصاديّ المترديّ. وأشار رئيس البعثة إلى أنّ الصراع مع إسرائيل في جنوب لبنان، والذي تفاقم منذ أكتوبر 2023، تسبّب في نزوح عدد كبير من اللبنانيّين وتدمير جزء من البنية التحتيّة والزراعة والتجارة. وقد قدّر الرئيس الأضرار الناتجة عن القصف الإسرائيليّ على جنوب لبنان بحوالى 1.5 مليار دولار، إلى جانب تراجع السياحة اللبنانيّة. وأشار “ريجو” إلى أنّ الإصلاحات الماليّة والنقديّة التي نفّذتها وزارة الماليّة اللبنانيّة والبنك المركزيّ، مثل توحيد أسعار الصرف المتعدّدة لليرة اللبنانيّة واحتواء تراجع قيمة العملة، ساعدت في تقليل الضغوط التضخميّة. ولكن مع ذلك، فإنّ هذه التدابير لا ترقى إلى المستوى المطلوب لتمكين التعافي من الأزمة، لا سيّما أنّ الودائع المصرفيّة لا تزال مجمّدة، والقطاع المصرفيّ غير قادر على توفير الإئتمان للاقتصاد، والحكومة والبرلمان غير قادرين على إيجاد حل للأزمة المصرفيّة.
وبرأييّ، هنالك ضرورة للتعامل مع خسائر المصارف بطريقة تضمن حماية المودعين إلى أقصى حد ممكن وتقليل اللجوء إلى الموارد العامة الشحيحة وتخفيف الضرائب على الفقراء والمساكين الذين يشكّلون أغلبيّة الشعب اللبنانيّ، فهذا يُعد مهمّاً لوضع أُسس التعافي الاقتصاديّ.
وختاماً، لا يمكن للبنان أن يعود إلى الخارطة الدوليّة للاستثمارات والأسواق الماليّة العالميّة دون تنفيذ الإصلاحات الضروريّة للبنان، بما فيها إعادة حقوق المودعين وإقرار خطة التعافي الماليّ. أمّا الفشل في القيام بذلك فيعني استمرار الانهيار الاقتصاديّ، وانهيار قيمة العملة اللبنانيّة أمام الدولار، وإفلاس بعض المصارف. لا سيّما أنّ الإصلاحات التي تتناسب ومصلحة البلاد ليست فقط مطلباً من صندوق النقد الدوليّ، بل هي حاجة أساسيّة لضمان مستقبل مستدام وآمن للبنان وشعبه. وبدون هذه الإصلاحات، سيظلّ لبنان في دوامة من الأزمات التي لن تفضي إلّا إلى مزيد من الفقر المدقع والمعاناة والجوع وزيادة أحزمة البؤس.