كيف سينجو لبنان في لحظة فقدان المناعة
ينشر بشكل متزامن مع صحيفة اسواق العرب الالكترونية اللندنية
لبنان اليوم في صلب عملية تحوّلٍ، من اقتصاد تابع يعمل وفقاً لآليات السوق، الى اقتصاد مُرتَهِن لإرادة الدول الخارجية،
يَندُرُ أن تجدَ طرفاً سياسياً لبنانياً لا يتّهم خصمه السياسي بالتَبَعيّة للخارج أو بالإرتهان لسياسات خارجية. ينسَحِب ذلك على ألسنة العامة ايضاً في انفصام شخصية يُجيد معه الشعب النظر بعينٍ واحدة.
والتَبَعيّة والإرتهان يستَخدمان المقصد السياسي نفسه رغم افتراق معناهما.
والحال أن التَبَعيّة السياسية، وهي أمرٌ لا يُجادَل فيه في بلد الأرز منذ لبنان الكبير الى الجمهورية في أيامنا هذه، قد امتزجت مع تَبَعيّة إقتصادية أقامت بُنى الإقتصاد الوطني على ارتباطٍ حاسم بالإقتصادات الإقليمية. وتُعتبَر القطاعات المالية والعقارية وتصدير العمالة الماهرة أكبر اشكال هذه التَبَعيّة.
لكن التَبَعيّة الإقتصادية، ورغم انها لا تنتج استدامة تنموية، وخصوصاً لبناء اقتصاد يمتلك مناعة ضد الإهتزازات الخارجية ويسعى إلى بناء قاعدة إقتصادية قويّة تتأثر بالخارج (لكن لا تترنّح معه)، فهي موضوع خلاف بين الإقتصاديين أنفسهم في الإقتصادات الصغرى، حيث يرى الكثيرون ان بعض أشكال التَبَعيّة هو الحلّ الأفضل للإقتصادات الصغرى رغم المخاطر المُرتبطة بها.
إن تَبَعيّة لبنان الإقتصادية تبدو واضحة وجليّة، لكنها كانت دائماً تَبَعيّة قائمة على اقتصادٍ مرن يتكيّف مع الشروط التنافسية للّعبة الإقتصادية حيث يُعظّم منافع البلد منها. فالقطاع المصرفي، على سبيل المثال، قد أمّن اجتذاب أموال ضخمة من دول الخليج، وقبلها من دول الإنقلابات العسكرية، بشروط السوق وبمهنية وحرفية وتنافسية. بذلك استطاع هذا القطاع ان يؤمّن المال اللازم كل سنة لتمويل عجوزات الحساب الجاري الخارجي ويزيد، الأمر الذي سمح تأمين فوائض تاريخية في ميزان المدفوعات اللبناني، وتحويل لبنان الى مركز مالي إقليمي رائد.
يَسري ذلك أيضاً على تحويلات المغتربين اللبنانيين، التي استطاع هذا القطاع ان يكسب ثقة اصحابها الذين حوّلوا فوائضهم الى مدّخرات في البنوك المحلية، وايضاً وفقاً للعبة السوق الصافية.
مع ذلك، شكّل تنامي الدين العام إنسحاباً تدريجياً للعبة السوق من تمويل الإقتصاد اللبناني الى أشكال مُتعدّدة الادوات من التمويل المرتبط بالشروط السياسية، أو بشروط الإذعان الإقتصادي بديلاً من لعبة السوق.
فالدين العام، الذي بلغ مستوى ١٥٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي، عطّل آليات عمل الإقتصاد التقليدية، بخاصة في ظل ارتفاع الفوائد اللاعقلاني، وفي ظل انخفاض ثقة المستثمرين الى الحدّ الادنى، وتسلط القطاع العام على سوق الدين. باختصار لم تعد آليات السوق قادرة على إعادة تشغيل هذا الإقتصاد بفعل النمو اللاعقلاني واللامنتج للدين العام.
بذلك، لبنان اليوم في صلب عملية تحوّلٍ، من اقتصاد تابع يعمل وفقاً لآليات السوق، الى اقتصاد مُرتَهِن لإرادة الدول الخارجية، وهنا بعض المؤشرات الخطرة إلى ذلك:
١- نراهن اليوم على نصف مليار دولار سوف تَكتَتِب بها الدولة القطرية (وليس القطاع الخاص القطري) في السندات الدولية للبنان. كذلك أُفاد بعض المعلومات أن المملكة العربية السعودية (وليس القطاع الخاص السعودي) سوف تدعم هذه السندات إثر زيارة رؤساء الحكومات اللبنانيين السابقين الأخيرة للرياض.
٢- السياحة هذا العام مُرتبطة بقرار حكومي خليجي بالسماح بعودة السياح في ظل حضور لا يغيّر المعطى السياحي للسياح غير العرب.
٣- نحن نقف على أعصابنا بانتظار تقرير من مؤسسة تصنيف دولية، أو من الدول المانحة، او البنك الدولي او صندوق النقد الدولي. أذكر تماماً أن مصرف لبنان قد هَزِئ قبل أكثر من عشر سنين من اقتراح لبعثة صندوق النقد الدولي بتخفيض سعر صرف الليرة اللبنانية. اليوم يُذعن مصرف لبنان لكل فاصلة يقولها الصندوق: السبب واضح.
٤- تراجعت العمالة اللبنانية في الخليج لاسباب بعضها إقتصادي، ولكن بعضها الآخر سياسي. قد تكون للبناننين فرص عمل في مشروع “نيوم” في المملكة العربية السعودية بغض النظر عن حجمها. ولكن هل سيحصل ذلك من دون النظر الى تاثير السياسة السعودية في لبنان؟ كلنا يعرف الجواب.
٥- بشكل مفاجئ حطّ الموفد الأميركي ديفيد ساترفيلد في بيروت حاملاً معه مبادرة لحل النزاع مع إسرائيل على المربّعات النفطية الجنوبية في مقابل ترسيم كامل للحدود. لسان حال ساترفيلد كان يقول أنتم في قعر الأزمة الإقتصادية، تريدون مال النفط والغاز ولا مخرج لكم غيره. حسناً هاتوا الترسيم وخذوا الاستخراج. ربما اراد ساترفيلد الإشارة ايضاً الى ما حصل في اليابسة الشقيقة بعد اكتشاف النفط والغاز في بحرها.
تلك العناصر الخمسة تقابل وتناقض عنصراً سادساً هو مسؤولية الأمن الوطني المُناطة بمعظمها ب”حزب الله” في بلد منع زعماءه، قبل الخارج، تسليح جيشه منذ الإستقلال.
بين الأمن الوطني والإقتصاد تناقض صارخ في لحظة جوهرية من إعادة تشكيل الشرق الاوسط.
لا يعود مهماً من يفرض شروطه في الشرق الجديد، المهم كيف سينجو لبنان في لحظة فقدان المناعة. حمى الله هذا الشعب الذي أخطأ كثيراً بحق نفسه.