دخلت البلاد في نقاشٍ عقيم حول قدرة الحكومة اللبنانية على عكس اتجاه سعر الصرف لمجرّد تشكيلها بعد أكثر من سنة على الفراغ الحكومي، باستقالة حكومة الرئيس حسّان دياب. بالنسبة إلى مَن يفهم الصورة الكبيرة، أو كيف تعمل الاشياء بالنسبة إلى سعر الصرف لم يكن هناك أيّ وَهم. مَنشأ الوهم كان في ثلاثة أنواعٍ من الناس الذين يُشكّلون القاعدة اليومية للعرض والطلب على القطع الاجنبي:
- أولئك الذين يُريدون إسباغ أحلامهم على الواقع، وهُم في الحقيقة فئة كبيرة من الناس الذين يحتفظون بكمٍّ، صغير أو كبير، من الدولارات والذين يريدون تعظيم قيمتها بالاستفادة من تقلّبات سعر الصرف، إمّا لأَجلِ حاجاتهم الانفاقية الجارية، وإمّا لأنّهم يريدون سداد التزاماتٍ طويلة الأجل مُحَرَّرة بالليرة اللبنانية عبر الاستفادة من ظروف قصيرة الأجل. غالباً ما ينتهي هؤلاء بتأكل قاعدة رساميلهم القليلة.
- فئةُ المُحَلّلين الخُبثاء الذين أرادوا دفع الناس لإخراج دولاراتهم من محاجرها لأهدافٍ مُتشَعِّبة، ولكن كلّها تصبّ في استغلال حَدَثٍ آني في رسم صورة طويلة الأجل تتقاطع مع أهدافِ حيتان المال والسلطة الذين حوّلوا العملة إلى أداةٍ قوية في تمويل استمرار الصراع السياسي على لبنان.
- كبارُ تجّار العملة الذين تحوّلوا منذ العام الفائت إلى سلطة بديلة من المصرف المركزي بعدما تآكلت القاعدة المادية للعملات الصعبة لدى الأخير لأسبابٍ ترتبط بالأزمة، كما بسلوكٍ طويل الأجل للسلطة النقدية في سبيل حماية مصالح الطبقة السياسية وأرباح المصارف التجارية.
أمّا وقد انتهت تلك اللعبة الكرنفالية التي أخذت أكثر أبعادها الدراماتيكية بُعَيدَ تشكيل الحكومة، حيث لامس سعر صرف الدولار 13 ألف ليرة قبل أن يعود ويستعيد مستوياته قبل إعلان تشكيل الحكومة.
لماذا استعاد سعر صرف الدولار الأميركي اتجاهه التصاعدي؟
بدون الكثير من الجدل، دعونا نتّفق على أن الشروط التي يُمكن ان تعكسَ اتجاه سعر الصرف لا زالت غير مُتَوفّرة، منها السياسي والاقتصادي، ومنها الناتج عن الصراعات المُعَقَّدة في لبنان وحوله. لكن ذلك وحده لا يكفي، لأن ما هو ملاحظ دائماً هو أن حجم العرض الذي يؤدّي إلى انخفاضِ سعر الصرف والحجم المُقابِل من الطلب الذي يؤدّي إلى ارتفاع سعر الصرف لا يُمكن تفسيرهما بالمنطق الاقتصادي، ولا بمنطق التوقّعات المستقبلية الإيجابية مهما عظمت، خصوصاً أنّ حجمَ تذبذب سعر الصرف يحصل بمعدل 40% صعوداً وهبوطاً، وهذه سرقةٌ موصوفةٌ ولعبٌ لا مسؤول بالمُتغَيِّرات الاقتصادية في سبيل مصالح ضيّقة.
لا يمكن تحقيق تقلّبات بهذا الحجم في سعر الصرف بدون عناصر شديدة التأثير تأخذ مدىً زمنياً يمتد لسنوات ويستمر في اتجاهٍ واحدٍ (مثالٌ على ذلك ما حصل بعد الحرب الأهلية اللبنانية حيث استغرق انخفاضٌ بنسبة 40% أربع سنوات كاملة! كما أن تحسّن سعر الصرف بالتدريج بعد بداية الإصلاح الاقتصادي في مصر هو مثالٌ آخر).
لا نعلم إذا كانت الحكومة على دراية بخطورة ترك سعر الصرف عند هذا المستوى من الفلتان وما يمكن أن يُشكّله ذلك من عاملِ ضغطٍ على السياسات العامة، أكانَ سبب ذلك العامل التفلّت المُعبِّر عن العجز، أو ذلك المعبرعن سلوك قوى وازنة تريد استخدام سعر الصرف من أجل الدفاع عن مصالح سياسية واقتصادية ونفعية.
نحن الآن نتوجّه نحو تفاوضٍ مُعَقَّد وشاق مع صندوق النقد الدولي، والذي بات واضحاً للجميع أنه المخرج الوحيد المُمكن ضمن الظروف السياسية المعروفة. كما نتقدّم نحو اتفاقٍ حول توزيع الخسائر في القطاع المالي، وهو نقاشٌ أساسيٌّ حوله انقسام داخلي واسع وتنازع مصالح أوسع. فهل يتقدّم سعر صرف السوق السوداء ويجلس كـ”جوكر” بين المتفاوضين؟ ذلك أمرٌ مرجح، فلنتحضّر للأسوأ!