إقتصادالاحدث

لبنان: التفاوُضُ مع صندوقِ النقد و”جوكر” سعر صرف السوق السوداء | كتب البروفسور بيار الخوري

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

دخلت البلاد في نقاشٍ عقيم حول قدرة الحكومة اللبنانية على عكس اتجاه سعر الصرف لمجرّد تشكيلها بعد أكثر من سنة على الفراغ الحكومي، باستقالة حكومة الرئيس حسّان دياب. بالنسبة إلى مَن يفهم الصورة الكبيرة، أو كيف تعمل الاشياء بالنسبة إلى سعر الصرف لم يكن هناك أيّ وَهم. مَنشأ الوهم كان في ثلاثة أنواعٍ من الناس الذين يُشكّلون القاعدة اليومية للعرض والطلب على القطع الاجنبي:

  • أولئك الذين يُريدون إسباغ أحلامهم على الواقع، وهُم في الحقيقة فئة كبيرة من الناس الذين يحتفظون بكمٍّ، صغير أو كبير، من الدولارات والذين يريدون تعظيم قيمتها بالاستفادة من تقلّبات سعر الصرف، إمّا لأَجلِ حاجاتهم الانفاقية الجارية، وإمّا لأنّهم يريدون سداد التزاماتٍ طويلة الأجل مُحَرَّرة بالليرة اللبنانية عبر الاستفادة من ظروف قصيرة الأجل. غالباً ما ينتهي هؤلاء بتأكل قاعدة رساميلهم القليلة.
  • فئةُ المُحَلّلين الخُبثاء الذين أرادوا دفع الناس لإخراج دولاراتهم من محاجرها لأهدافٍ مُتشَعِّبة، ولكن كلّها تصبّ في استغلال حَدَثٍ آني في رسم صورة طويلة الأجل تتقاطع مع أهدافِ حيتان المال والسلطة الذين حوّلوا العملة إلى أداةٍ قوية في تمويل استمرار الصراع السياسي على لبنان.
  • كبارُ تجّار العملة الذين تحوّلوا منذ العام الفائت إلى سلطة بديلة من المصرف المركزي بعدما تآكلت القاعدة المادية للعملات الصعبة لدى الأخير لأسبابٍ ترتبط بالأزمة، كما بسلوكٍ طويل الأجل للسلطة النقدية في سبيل حماية مصالح الطبقة السياسية وأرباح المصارف التجارية.

أمّا وقد انتهت تلك اللعبة الكرنفالية التي أخذت أكثر أبعادها الدراماتيكية بُعَيدَ تشكيل الحكومة، حيث لامس سعر صرف الدولار 13 ألف ليرة قبل أن يعود ويستعيد مستوياته قبل إعلان تشكيل الحكومة.

لماذا استعاد سعر صرف الدولار الأميركي اتجاهه التصاعدي؟

بدون الكثير من الجدل، دعونا نتّفق على أن الشروط التي يُمكن ان تعكسَ اتجاه سعر الصرف لا زالت غير مُتَوفّرة، منها السياسي والاقتصادي، ومنها الناتج عن الصراعات المُعَقَّدة في لبنان وحوله. لكن ذلك وحده لا يكفي، لأن ما هو ملاحظ دائماً هو أن حجم العرض الذي يؤدّي إلى انخفاضِ سعر الصرف والحجم المُقابِل من الطلب الذي يؤدّي إلى ارتفاع سعر الصرف لا يُمكن تفسيرهما بالمنطق الاقتصادي، ولا بمنطق التوقّعات المستقبلية الإيجابية مهما عظمت، خصوصاً أنّ حجمَ تذبذب سعر الصرف يحصل بمعدل 40% صعوداً وهبوطاً، وهذه سرقةٌ موصوفةٌ ولعبٌ لا مسؤول بالمُتغَيِّرات الاقتصادية في سبيل مصالح ضيّقة.

لا يمكن تحقيق تقلّبات بهذا الحجم في سعر الصرف بدون عناصر شديدة التأثير تأخذ مدىً زمنياً يمتد لسنوات ويستمر في اتجاهٍ واحدٍ (مثالٌ على ذلك ما حصل بعد الحرب الأهلية اللبنانية حيث استغرق انخفاضٌ بنسبة 40% أربع سنوات كاملة! كما أن تحسّن سعر الصرف بالتدريج بعد بداية الإصلاح الاقتصادي في مصر هو مثالٌ آخر).

لا نعلم إذا كانت الحكومة على دراية بخطورة ترك سعر الصرف عند هذا المستوى من الفلتان وما يمكن أن يُشكّله ذلك من عاملِ ضغطٍ على السياسات العامة، أكانَ سبب ذلك العامل التفلّت المُعبِّر عن العجز، أو ذلك المعبرعن سلوك قوى وازنة تريد استخدام سعر الصرف من أجل الدفاع عن مصالح سياسية واقتصادية ونفعية.

نحن الآن نتوجّه نحو تفاوضٍ مُعَقَّد وشاق مع صندوق النقد الدولي، والذي بات واضحاً للجميع أنه المخرج الوحيد المُمكن ضمن الظروف السياسية المعروفة. كما نتقدّم نحو اتفاقٍ حول توزيع الخسائر في القطاع المالي، وهو نقاشٌ أساسيٌّ حوله انقسام داخلي واسع وتنازع مصالح أوسع. فهل يتقدّم سعر صرف السوق السوداء ويجلس كـ”جوكر” بين المتفاوضين؟ ذلك أمرٌ مرجح، فلنتحضّر للأسوأ!

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى