لبنان بين ازمة الاقتصاد ومأزق صناعة السياسة
نشر اولاً في مجلة اسواق العرب اللندنية
يبدو أن المشهد الإقتصادي في لبنان يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. ففي ظل تخوّف المواطنين من احتمال إرتفاعٍ إضافي للضرائب، وعدم استقرار أحوال الليرة اللبنانية، وزيادة البطالة والتضخّم معاً والتوترات السياسية والعسكرية، أثارت ثلاثة أحداث جسام حصلت في العشرة أيام الأخيرة أسئلة مُقلقة تتعلّق بقدرة لبنان على التحمّل والصمود: تقارير مؤسسات التصنيف الدولية، قرار الخزانة الاميركية بفرض عقوبات على جمال ترست بنك والشركات الثلاث التابعة له، وبينهما الإعتداء الاسرائيلي على الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت وردّ “حزب الله” على هذا الإعتداء يوم الأحد الماضي.
ويُمكن القول بأن الضغوط التي يتعرّض لها الإقتصاد اللبناني قد وضعته بين مطرقة ضرورة إصلاح الإقتصاد داخلياً وسندان الوفاء بمتطلبات المجتمع الدولي، مما جعله يتحمّل أعباء محاولات التوفيق بين كلا الأمرين. ولعلّ ذلك الأمر قد يكون أصعب ما يواجهه صنّاع القرار السياسي في لبنان حالياً.
ان التداخل الواضح بين الشؤون الإقتصادية والسياسية في لبنان قد ألقى بظلاله على التساؤلات المطروحة حول مسار العقوبات الأميركية من حيث شقّها الإقتصادي ووجهها الآخرالمُتعلّق بالنواحي السياسية في الأساس، خصوصاً في ظل التوترات الواقعة في المنطقة إثر تنصّل الإدارة الأميركية الحالية من الإتفاق النووي الإيراني.
وبالتالي فإنه يمكن قراءة العقوبات الأميركية الأخيرة في ضوء الصراعات الإقليمية في المنطقة، والتي تبدو أنها جزء من مخطط كبير يهدف إلى توريط لبنان وتضييق الخناق عليه، أي قد يكون التشدّق بالدور الأميركي في ملاحقة الكيانات التابعة ل”حزب الله” هو جزءاً من سياق أكبر تتداخل فيه المصالح وتتعدّد حوله الرؤى. ففي الوقت الذي أكد مسؤولون أميركيون على أن هذه العقوبات لا تهدف إطلاقاً إلى الإضرار بالإقتصاد اللبناني، أصدرت وكالة “فيتش” (Fitch Ratings) للتصنيف الإئتماني، تقريراً دورياً، اعلنت فيه خفض تصنيف الدولة اللبنانية مرتبة واحدة إلى “CCC”، حيث أتى ذلك كله تزامناً مع سقوط طائرتين مُسيَّرتين إسرائيليتن في الضاحية الجنوبية معقل “حزب الله”، مما يعني أنه لا يُمكن النظر إلى القرارات الأميركية إزاء المصارف اللبنانية بمعزل عن الأحداث السياسية والتي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى مزيد من تعقيد الوضع داخل لبنان.
ومن ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى ان الطبيعة الطائفية للزعامات اللبنانية تحوّل في كثير من الأحوال دون حدوث توافقات لا غنى عنها في هذا الظرف العصيب، على العكس قد تنزع الطوائف نحو السير باتجاه نهج غير توافقي في ضوء المصلحة الخاصة بكل طائفة وليس تحقيقاً للمصلحة العامة. هذا الأمر شلّ القدرة الداخلية على اتخاذ القرار، وجعل العديد من الجهات الدولية تتحكّم بتنظيم الشؤون الإقتصادية، ومن بينها الإدارة الأميركية والمؤسسات الدولية كمؤسسات التصنيف وغيرها.
لا بدّ من الإعتراف بأن لبنان في حاجة ماسة حالياً إلى إنتاج سياسات إقتصادية حاسمة وسريعة تجعل الدولة قادرة على التصدّي للضغوط الخارجية. فلا بدّ من التغلّب على كافة الهواجس التي طرحتها مؤسسات التصنيف الدولية وصندوق النقد الدولي، ومن ناحية أخرى فإن لبنان بحاجة إلى تشكيل نظرة مستقبلية صلبة، حيث لا زالت الدولة تفتقد إلى وجود استراتيجية إقتصادية حقيقية.
في هذا الاطار، تجدر الإشارة إلى أن أمان المصارف اللبنانية على مدى عقود طويلة لم يكن إلّا انعكاس لاقتصاد قوي البنية وليس العكس. لذلك فان التعويل على القطاع المصرفي او السياسة النقدية وحدهما لا يكفيان، حيث لا بدّ أن تعمد الدولة إلى تنمية كافة القطاعات الإنتاجية كي تتمكن من إصلاح الأوضاع داخلياً من جهة، وتقديم صورة منطقية ومُقنعة للإقتصاد اللبناني أمام اللبنانيين والمجتمع الدولي من جهة اخرى.
ان لقاء بعض الإقتصاديين في القصر الجمهوري في بعبدا، والذي تبعه لقاء ممثلي الاحزاب المشاركة في السلطة، يُمكن اعتباره بمثابة نقلة جوهرية، وذلك من حيث حرص الدولة على الإستماع إلى آراء رجال الاقتصاد بشكل خاص. ولكن تبقى الحلقة المفقودة هنا هي عدم دعوة خبراء الإقتصاد وأهل الشأن ممَن هم خارج إطار العمل الرسمي والحزبي، مما يجعل صورة الخطط الإقتصادية منقوصة نظراً إلى غياب ضلعٍ مهم من الهيكل الفكري لاقتصاد البلد.
وفي ظل استمرار فرض السياسات التقشّفية على المواطنين، فمن الطبيعي أن يتنامى حجم الشكوك في مدى قدرة الحكومة على تحسين الأوضاع الإقتصادية، ومن ثم المعيشية للمواطنين. لذلك فان استعادة ثقة المواطن اللبناني في الأداء الحكومي تحتاج إلى إبرام نوع من العقد الاجتماعي بين الحكومة والمواطنين بهدف الخروج من الأزمة، فالمواطن ليس مضطراً إلى الصبر والتحمّل من دون أن يرى بعينه خطوة إيجابية حقيقية في سبيل الإصلاح الشامل. إن الجمود الإقتصادي الواضح في ظل سيطرة بعض أشكال العمل “المافيوي” وزبائنية القطاع العام وجشع رؤوس الأموال على المقدرات الإقتصادية في لبنان قد تدفع المواطن تلقائياً إلى فقدان الثقة في الدولة بأكملها.
لا بدّ من العمل على ثلاثة محاور جنباً إلى جنب، أولاً حلّ مشكلة قطاع الكهرباء، وثانياً محاسبة المُتهرّبين ضريبياً، وثالثاً إعادة هيكلة عمل الجمارك للسيطرة على المنافذ البحرية والبرية. ذلك هو المنفذ الحقيقي لترميم المالية العامة وللنفاذ للسيطرة على الفساد، وبذلك تتمكّن الدولة من تحقيق الإستفادة القصوى من مواردها.