
تُعدّ قوة العملة انعكاساً مباشراً لصحة الاقتصاد، إذ تشير العملة القويّة إلى أداء اقتصاديّ متين، بينما تعكس العملة الضعيفة وجود مشكلات اقتصاديّة عميقة تؤثّر على مختلف جوانب الحياة، من التجارة والاستثمار إلى المعيشة اليومية للمواطنين. وفي هذا الإطار، تحتل الليرة اللبنانيّة موقع الصدارة كأضعف عملة في العالم، إذ تراجعت قيمتها إلى ما يقارب 89,600 ليرة مقابل الدولار الأمريكيّ، ما يعكس عمق الأزمة الماليّة التي تعصف بلبنان.
العملة الضعيفة تُفهم على أنها العملة التي تفقد قيمتها مقارنةً بغيرها من العملات، وتُعزى أسباب هذا التدهور إلى عوامل عدّة، أبرزها تدخّلات متكررة من المصرف المركزي تؤدي إلى اختلالات في السوق النقدي، وعجز تجاري ناجم عن ارتفاع الواردات مقارنة بالصادرات، وارتفاع معدلات التضخم مما يضعف القوّة الشرائيّة للعملة. كما يلعب غياب الاستقرار السياسي، وارتفاع البطالة، والحروب أو الأزمات دوراً كبيراً في زعزعة الثقة بالعملة المحليّة.
الليرة اللبنانيّة هي المثال الأبرز لهذه الظاهرة، فقد تراكمت عليها أزمات عدّة منذ العام 2019، أبرزها الانهيار المصرفي، والسياسات النقديّة المربكة، والتدهور الاقتصادي العام، إلى جانب آثار الحروب والصراعات الإقليميّة، لا سيّما العدوان الإسرائيلي الذي ساهم في تعميق الانهيار المالي. كلّ هذه العوامل أدّت إلى تآكل تدريجي في قيمة الليرة، لتُصبح من أضعف العملات عالميّاً.
في المقابل، يحاول المصرف المركزي اللبناني كبح التدهور من خلال إجراءات مثل خفض الكتلة النقديّة من 80 إلى 60 تريليون ليرة، والامتناع عن تمويل الحكومة، وهي خطوات تُعدّ إيجابيّة نظريّاً في تقليص الضغوط على سعر الصرف. إلا أنّ المخاوف لا تزال قائمة، خصوصاً بشأن استغلال بعض المصارف لودائع المواطنين عبر آليات غامضة ومعقّدة، ما يسلّط الضوء على ضرورة تعديل قانون النقد والتسليف للحد من هذه الممارسات.
كما أن ضغوطاً إضافيّة تُمارس من قبل جهات حكوميّة، مثل وزارة الطاقة، التي تطالب باستخدام مليارات الدولارات من الاحتياطي لتمويل استيراد الوقود، وهو ما قد يؤدي إمّا إلى مزيد من انهيار الليرة في حال طُبعت الأموال، أو إلى استنزاف خطير في احتياطي النقد الأجنبي في حال الصرف بالدولار. هذه المطالب تعكس حجم التحديات التي تواجه السياسة النقديّة، وتجعل من الصعب الحفاظ على أي استقرار حقيقي.
يبقى السؤال الأهم: هل سيتمكّن البنك المركزي من الصمود في وجه هذه التحديات؟ الإجابة مرهونة بقدرة الدولة على تنفيذ إصلاحات جذريّة تشمل ضبط الإنفاق، تعديل القوانين الماليّة، مكافحة الفساد، وتحقيق درجة من الاستقرار السياسي الضروري لعودة الثقة بالاقتصاد. من دون هذه الإصلاحات، ستبقى الليرة تعاني، وسيبقى الاقتصاد اللبنانيّ في حالة هشاشة دائمة.
إنّ تدهور الليرة اللبنانيّة لم يكن محض صدفة، بل نتيجة مسار طويل من السياسات الخاطئة، الأزمات المتلاحقة، والغياب شبه التام للمحاسبة. استعادة الثقة تتطلب قرارات شجاعة وإجراءات فعّالة تتخطّى المعالجات المؤقتة نحو حلول مستدامة تعيد للبنان توازنه المالي والاقتصادي.