إقتصادالاحدث

مصرف وطني للإنماء الصناعي: ضرورة صناعية وتنموية | بقلم حسان خضر

 ما يهمنا في الأمر هو الإصلاح الاقتصادي والمالي والذي أصبح منذ سنوات خلت شغل اللبنانيين الشاغل.

أما وقد تشكلت الحكومة اللبنانية بتاريخ 8 شباط/فبراير 2025 بعد خمسة وعشرين يوماً في مسيرة شهدت الكثير من المصاعب والعراقيل، وبغض النظر عن نوعية الوزراء وعددهم وتوزيعهم الطائفي أو الحزبي أو الجغرافي، فالمهم في الأمر كانت كلمة دولة الرئيس نواف سلام وقبل أن يجفَّ حبر توقيعه على مرسوم التشكيل مطلقاً عبارة “الإصلاح والإنقاذ” شعاراً للمرحلة المقبلة من عمر الحكومة. إذاً، هي حكومةٌ لإصلاح ما أفسده الدهر على أيدي بعض من سبقوه إلى السلطة، وعسى أن تكون حكومة إنقاذ لوطن وشعب ذاق الأمرّين خلال عقود من الزمن على نفس الأيدي وذات السياسيين.

إن ما يهمنا في الأمر هو الإصلاح الاقتصادي والمالي والذي أصبح منذ سنوات خلت شغل اللبنانيين الشاغل في لقمة عيشهم ومسكنهم وصحتهم وبيئتهم.

فالأوضاع المالية والاقتصادية الصعبة ومن ثم اندلاع الحرب واستمرارها وشمولها مناطق عديدة من لبنان أدت الى خسائر كبيرة وإلى تدمير وتعطيل كثير من المؤسسات الصناعية والى انكفاء وهجرة جزء من الرساميل الصناعية واليد العاملة المدربة والماهرة، وإلى تردٍّ كبير في حجم الإنتاج ومستوى الإنتاجية.

وها نحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة مليئة بالوعود الإصلاحية ومبشرة بالتفاؤل بأن يتحول هذا البلد من بلد استهلاكي ويعتمد بشكل كبير على الواردات من الخارج للوفاء بالطلب المحلي والذي سبب عجزاً في الميزان التجاري وفي ميزان المدفوعات. وعليه، فالمطلب المهم اليوم هو توسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد من خلال توفير الدعم اللازم لما تبقى من صناعات قائمة، وإعادة إحياء ما أقفل منها، وجذب صناعات جديدة وحديثة للبلد. فالصناعة اللبنانية صناعة متميزة في المنطقة والصناعي اللبناني ذو كفاءة عالية.

إن إحدى وسائل دعم الصناعة وتوفير المميزات والحوافز الضرورية اللازمة تكمن في توفير التمويل الميسّر لها والذي أصبح ضرورياً في ظل شح التمويل المصرفي. ومن هنا أهمية إعادة استحداث مصرف للتنمية الصناعية على غرار ” المصرف الوطني للإنماء الصناعي والسياحي” الذي أُنشئ في العام 1973 بناءً على قانون صادر في 1971/12/10 والذي حُددت مهمته بالعمل على انماء قطاعَي الصناعة والسياحة في الاقتصاد اللبناني عن طريق تمويل المشاريع الاستثمارية في إطار السياسة الاقتصادية للدولة وخططها الإنمائية، وكان رأسماله مشاركة بين الحكومة والمصارف التجارية. وقد اكتتبت الدولة بـ51 في المئة من رأسماله واكتتبت المصارف التجارية ببقية رأس المال. وبعد زيادة رأسمال المصرف فيما بعد اكتتبت الدولة بكامل الزيادة الأمر الذي كان سبباً لارتفاع حصة الدولة الى نحو 85 في المئة من مجموع رأسمال المصرف وتدني حصة المصارف إلى نحو 15 في المئة.

وكان قد صدر قانون خلال تسعينيات القرن الماضي قضى بتعديل رأسمال المصرف بحيث تزاد حصة القطاع الخاص فيه الى 80 في المئة وتدني حصة الدولة إلى 20 في المئة، إلا أنه تعذّر تنفيذ هذا القانون لعدم إقبال المصارف التجارية على المساهمة في زيارة رأس المال، ولاعتبارات تتعلق باعتراض القطاع المصرفي على إدارة المصرف وسبل تعاطي الوصاية الحكومية معه إضافة الى اعتراضات للقطاع الخاص حول موضوع معالجة الخسائر المتراكمة وتدخل الدولة في موضوع رسم سياسة الفوائد والاقتراض والتسهيلات المعطاة للمصرف وقضية إنشاء الفروع.

فكان أن صدر عن مجلس الوزراء قرار في 8 أيار/مايو 1997 قضى بتصفية المصرف وترك صلاحية إعطاء القروض للمصارف الخاصة على أن تتحمل الدولة جزءاً من الفائدة.  وللعلم، فقد تم شطبه عن لائحة المصارف بعد ثمانية وعشرين عاماً بموجب قرار رقم 7302 تاريخ: 1999/06/11 صادر عن حاكم مصرف لبنان آنذاك رياض سلامة.

وقد جرت لاحقاً عدة محاولات، وتم إعداد بعض الدراسات الرامية إلى إعادة إحياء المصرف، ولكنها باءت جميعها بالفشل. فقد بادرت المصارف التجارية العاملة في لبنان من جانبها بعد تصفية المصرف إلى إنشاء مصارف أعمال تابعة لها وهي تقوم بعمليات التسليف للقطاعات الإنتاجية، مباشرة وبالشروط التي تراها مناسبة لها. فلماذا تمت تصفية المصرف بدلاً من إحيائه وتنشيطه، ولماذا لا تكون هناك محاولة لاجتذاب رأس المال الخاص غير المصرفي لتعزيز رأسمال المصرف، علماً بأنه كان قد أدى، حتى انفجار الأزمة الوطنية الكبرى خلال الثمانينيات، دوراً مشهوداً في إطار المهمة الموكلة إليه، إلا أن تطور الأحداث حدّ من نموه وشلّ أعماله.

واليوم، وفي ظل القيادة الجديدة للبلد والتوجه الحديث في الإدارة والاقتصاد، وبعد 27 عاماً من تصفية المصرف الوطني (يساوي تقريباً فترة عمله) يتبين الحاجة الماسة إلى تطوير بنية جديدة لمصرف وطني للإنماء الصناعي وفق معايير جديدة وحديثة، وجعله مصرفاً قادراً على العمل بذهنية القطاع الخاص وأسلوبه بحيث يتمكن بدعم من الدولة من استقطاب مصادر مالية طويلة الأجل من المؤسسات والصناديق العربية والدولية للتمويل. وباعتباره محركاً رئيسياً للتحول الاقتصادي وضرورة للتنمية وتكبير حجم الاقتصاد من خلال بوابة الصناعة، ينبغي أن يكون لدينا مصرف للتنمية الصناعية يقدم الدعم المالي للشركات العاملة في القطاعات الاستراتيجية الرئيسية، كالرعاية الصحية والتكنولوجيا المتقدمة والصناعة والطاقة المتجددة والأمن الغذائي، فضلاً عن الصناعات الحديثة في التكنولوجيا والذكاء الصناعي وغيرها.

ونتيجة الحاجات المالية الطويلة والمتوسطة المدى واللازمة لإعادة تأهيل صناعات قائمة أو إقامة صناعات جديدة، فإنه من غير الممكن حالياً للمؤسسات المصرفية التجارية في لبنان – وحتى بعد إعادة هيكلة المصارف أو دمجها، وإعادة الأموال المهربة-  أن توفر  في الوقت القريب التمويل المتوسط والطويل الأجل وذلك بسبب طبيعة المصادر المالية المتاحة للمؤسسات المصرفية وندرتها والتي في معظمها عبارة عن ودائع قصيرة الأجل وتحت الطلب والتي هي أدنى بكثير من حيث كفاية الأموال الخاصة التي تمكن المصارف من تلبية ما يتطلبه القطاع الصناعي من توظيفات كبيرة وطويلة المدى.

وعليه، فإننا نقول للسيد وزير الصناعة، وهو على أعتاب استلام مهامه، إن الحاجة تبدو ماسة في الوقت الحاضر غلى توجيه اهتمام خاص لتنمية القطاعات الإنتاجية في البلاد وفي مقدمها الصناعة بغية تسريع وتيرة نمو الاقتصاد الوطني اللبناني وإيجاد فرص عمل جديدة تستوعب جحافل العاطلين عن العمل والتوصل تدريجاً إلى تقليص العجز المتفاقم في الميزان التجاري مع الخارج والمساعدة في النتيجة على حل الأزمة المعيشية الخانقة التي يرزح الشعب اللبناني بغالبيته العظمى تحت وطأتها. فمن الطبيعي أن يتم استحداث مصرف للتنمية الصناعية ليكون ذراع الدولة التمويلية في الإنماء الصناعي. وفي حال استمرت المصارف التجارية غير راغبة في المساهمة في مصرف تنمية صناعي متخصص، فلماذا لا تكون هناك محاولة لاجتذاب رأس المال الخاص غير المصرفي داخلياً وخارجياً أو بالاستعانة بشركات الاستثمار ذات العلاقات الواسعة إقليمياً ودولياً؟

المصدر : النهار .

حسّان خضر، باحث وكاتب لبناني

باحث في الشؤون الاقتصادية وله دراسات وتقارير مهنية معمقة تتصل باقتصادات مجلس التعاون الخليجي والاقتصادات العربية بشكل عام. عمل في مؤسسات اقليمية مرموقة منها بنك الكويت الوطني والمعهد العربي للتخطيط، ويعمل حالياً خبيراً في ادارة البحوث في بنك الكويت المركزي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى