
أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من عالمنا المعاصر القائم على البيانات، حيث يتفوّق في استخراج المعلومات، والتعرّف على الأنماط، ومعالجة المعطيات بكفاءة فائقة. بإمكانه تقديم حقائق دقيقة، وتحليل مجموعات بيانات معقّدة، بل وإنتاج محتوى متنوّع استنادًا إلى ما تم تغذيته به من معلومات. لكن من الضروري التنبيه إلى فارق جوهري: فالذكاء الاصطناعي يخدم البيانات؛ لكنه لا يبني الشخصية ولا يسهم في النمو الحقيقي للفرد (سميث، 2023).
إن الذكاء الاصطناعي يشكّل في هذه المعادلة متغيّرًا مستقلًا ذا قدرة تأثيرية. فهو يستند إلى خوارزميات معقّدة ومستودعات ضخمة من البيانات، ويقدّم نتائج تتسم بالموضوعية، ويمكن تكرارها، وتخلو من الانحياز الشخصي أو البُعد العاطفي. يستطيع أن يخبرك بما جرى، ومن قال ماذا، وكيف تحسّن إجراءً معينًا؛ لكنه لا يستطيع أن ينقل حكمة التجربة، أو أن يغرس تعاطفًا إنسانيًا، أو أن يولّد شرارة الإبداع الصافي التي لا تولد إلا من معاناة الإنسان وصراعه وتجاوزه للمحن (جونسون ولي، 2024).
في المقابل، وبينما تزداد بيئتنا الرقمية تشبّعًا بالذكاء الاصطناعي، هناك خطر بأن يتحوّل الإنسان إلى متغيّر تابع بلا إرادة. إن الركون الكامل إلى الذكاء الاصطناعي للحصول على الأجوبة، أو لإجراء التحليلات، أو حتى لاستهلاك الترفيه، قد يؤدي إلى ضمور في قدراتنا الفكرية والعاطفية. ومظاهر هذا التراجع متعددة وخطيرة:
اضمحلال التفكير النقدي: حين يحصل الفرد على إجابة فورية من الذكاء الاصطناعي، يتراجع لديه الدافع إلى البحث، والتحليل، وتكوين رأي مستقل. ومع مرور الوقت، قد تضعف ملكات النقد، والنقاش، وفهم التفاصيل الدقيقة.
اختناق الإبداع والابتكار: إن الابتكار الحقيقي غالبًا ما ينشأ من تلاقيات غير متوقعة، ومن الفشل، ومن محاولات الإنسان المتكرّرة والفوضوية لتوليد الأفكار. وإذا اعتاد الإنسان على حلول مثالية ومعدّة مسبقًا من الذكاء الاصطناعي، فقد يخبو فيه الحافز لاختبار المسارات الجديدة أو تحدّي السائد والمألوف.
تراجع الذكاء العاطفي والتعاطف الإنساني: الشخصية لا تتكوّن إلا عبر التفاعل الإنساني العميق، وخوض التحديات، واكتساب القدرة على فهم مشاعر الآخرين. وهذه خبرات لا يمكن للذكاء الاصطناعي محاكاتها. الاعتماد عليه في العلاقات أو في حلّ الإشكالات قد يُضعف قدرتنا على التفاعل مع المشاعر المعقدة وبناء علاقات أصيلة (تشن وآخرون، 2023).
فقدان الإرادة الفردية: إذا باتت خياراتنا، وتعلّمنا، وطموحاتنا خاضعة لتوصيات الذكاء الاصطناعي، فإننا نكون قد فرّطنا بجزء من حريتنا. إن رحلة اكتشاف الذات، بما تحمله من التواءات وتصحيحات، تظلّ ركيزة لا غنى عنها لتحقيق النمو الإنساني الحقيقي (ديفيز، 2022).
خاتمة
الذكاء الاصطناعي، في جوهره، ليس أكثر من مرآة تعكس ما هو موجود. قد يكون معزّزًا لقدراتنا ومُيسّرًا للمعرفة، لكنه لا يصقل الإنسان ولا يشكّل جوهره. علينا أن نستخدمه بوعي، نستفيد من قوّته دون أن نتيح له طمس ما يجعلنا بشراً: النضال، والتجربة، والسعي الفردي وراء المعنى والمعرفة، وهي العناصر التي تبني الشخصية وتغذّي النمو الحقيقي.
توصيات
لتفادي مخاطر الاعتماد الزائد على الذكاء الاصطناعي، وتعزيز النمو الإنساني الأصيل، يُقترح العمل على ما يلي:
تعزيز الوعي النقدي بالذكاء الاصطناعي: ينبغي أن تُدمج في المناهج التعليمية برامج توضّح كيفية عمل الذكاء الاصطناعي، وما حدوده، وكيفية التحقق النقدي من صحة ما يقدّمه.
التركيز على المهارات الإنسانية الجوهرية: مثل التفكير النقدي، والإبداع، والذكاء العاطفي، والمنطق الأخلاقي، وحلّ المشكلات المعقّدة، باعتبارها قدرات لا يمكن للآلة أن تحاكيها.
تشجيع الاستكشاف الشخصي: تهيئة بيئات تعليمية ومجتمعية تحفّز الأفراد على التعلّم الذاتي، والبحث، والتعاون الإنساني بعيدًا عن الاتكالية على الذكاء الاصطناعي.
إعطاء الأولوية للتفاعل الإنساني: تشجيع اللقاءات الواقعية والتجارب الحياتية التي تُنمّي الفهم والتعاطف، والتي لا يمكن للذكاء الاصطناعي استبدالها.
وضع أطر أخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي: من الضروري سنّ ضوابط واضحة لتطوير الذكاء الاصطناعي وتوظيفه، بما يضمن بقاءه أداة في خدمة الإنسان لا سيفًا مسلطًا على حريته ونموّه.
المراجع:
تشن، لي، وانغ، يي، وتشانغ، تشيو. (2023). أثر الذكاء الاصطناعي على تنمية الذكاء العاطفي لدى الجيل الرقمي. مجلة التفاعل بين الإنسان والحاسوب، 15(2)، ص. 112-125.
ديفيز، ماثيو. (2022). الذكاء الاصطناعي وتآكل الإرادة الإنسانية: مقاربة فلسفية. المجلة الدولية للروبوتات والذكاء الاصطناعي، 8(4)، ص. 201-215.
جونسون، أليكس، ولي، بين. (2024). حدود الذكاء الاصطناعي في دعم الإبداع والنمو الشخصي. مجلة “حدود أبحاث الذكاء الاصطناعي”، 6(1)، ص. 45-58.
سميث، ريتشارد. (2023). بين خدمة البيانات وبناء الشخصية: رؤية جديدة للذكاء الاصطناعي. مراجعة مستقبل التكنولوجيا، 10(3)، ص. 78-92.