بعد مرور سنة ونيف على بدايه أزمة شح الدولار، يبدو انّ الاقتصاد اللبناني دخل في مرحلة شح جديدة، اكثر خطورة واكثر ايلاماً، مع إلزام التعميم الوسيط الاخير لمصرف لبنان (الرقم 573)، مستوردي المواد المدعومة، تأمين نسبة 85 بالمئة من المبلغ الذي يموّله مصرف لبنان، عند السعر الرسمي للدولار او على سعر المنصة نقداً.
كما بات معلوماً، لم يعد في إمكان الشركات المستوردة اللجوء الى حساباتها لدى المصارف التجارية لتأمين السيولة اللازمة بالليرة اللبنانية والمقابلة للمبلغ المطلوب تحويله الى الخارج. كذلك رفع مصرف لبنان كلفة السحب النقدي للمصارف التجارية، عبر الزامها بتسييل شهادات ايداع او ودائع لاجل فوق سقوف معينة، بما يضغط على ربحية المصارف المتراجعة اصلاً، ويدفعها لتقنين سحوبات العملاء بالليرة الى الحدّ الأدنى الممكن.
اذا عدنا الى بداية ازمة شح الدولار، نجد انّ هناك تشابهاً في آلية حجز الحسابات الموجودة لدى المصارف التجارية. حصل ذلك آنذاك، لأنّ التدفقات النقدية للمصارف لم تعد قادرة على تأمين حجم الطلب على الاستيراد والتحويل الى الخارج والسحوبات النقدية للأغراض المختلفة.
خلال العام المنصرم، لعبت الليرة اللبنانية دور «تنفيسة» للسيولة في الاقتصاد الوطني. ورغم انّ هذه التنفيسة لم تكن عادلة، خصوصاً بعد اقرار سعر المنصة للسحوبات بالدولار الاميركي (وهو الذي شكّل حسماً من الدولارات الحقيقية تراوح حتى الآن بين 30 و50 بالمئة)، استمرت السيولة بالليرة في حل مشكلة شح الدولار، وان بطريقة مجتزأة غير عادلة. فما الذي تغيّر اليوم؟
انّ الليرة التي لعبت دور البديل المشوّه لغياب العملات الصعبة، كانت نتيجة لتوسيع حجم السيولة بالليرة اللبنانية بشكل اساسي، من خلال توسيع القاعدة النقدية، والمعروفة اصطلاحاً بعملية طبع العملة، التي قامت بخلق ثلاثة تشوّهات اقتصادية واجتماعيه عميقة:
اولاً: زيادة التضخّم، لأنّ طبع العملة يوسّع القدرة الشرائية دون الالتفات الى الزيادة في الناتج الوطني المصاحب لعملية التوسّع النقدي، بمعنى آخر، يخلق قوة شرائية اصطناعية، وهذا ما يؤدي الى زيادة الاسعار او التضخم.
ثانياً: أدّت هذه الزيادة في الكتلة النقدية المتداولة الى تأمين مزيد من القدرة على طلب الدولار في السوق السوداء، خصوصاً في ظلّ ما يُعرف باقتصاد الكاش، والخوف من المستقبل الذي يدفع الناس للاحتفاظ بالعملة الاكثر ثباتاً.
ثالثاً: زيادة الضغط على الاحتياطات المتناقصة التي كانت متوفرة لدى البنك المركزي.
منذ مدة غير بعيدة، تمّ الاعلان عن قرب رفع الدعم عن المواد الاساسية التي لا زالت تدعمها الدولة من خلال مصرف لبنان. لقد تمّ تعليل ذلك بقرب نضوب الاحتياطيات الحرّة للبنك المركزي من العملات الصعبة، وذلك يعني ضمناً امراً آخر، يُضاف الى رفع الدعم، هو انعدام التوازن بين الدولار الرسمي ودولار المنصّة من ناحية، ودولار السوق السوداء من ناحية اخرى. اي انّ المراكز المالية المتحكّمة بالسوق السوداء سوف تصبح هي المصدر الاساس لعرض الدولار في البلد. بناءً عليه، يحاول البنك المركزي اليوم، عبر اجراءات جديدة، لا تخرج عن اطر السياسة نفسها المتبعة منذ العام الماضي، ان يمنع تفلّت السوق السوداء، من خلال «تنشيف» السيولة بالليرة اللبنانيه من الاسواق.
لكن «تنشيف» السيولة بالليرة من الاسواق سوف يعني شيئاً آخر وهو «تنشيف» مقابل لشرايين الاقتصاد من الدماء اللازمة لاستمرار عمله. لا دولار في البلاد، والآن لا ليرة، فكيف سيعمل الاقتصاد؟
لست بحاجه لتكون خبيراً اقتصادياً لتعلّم النتائج التالية:
اولاً: من المحتمل ان يبقى الدعم على المواد الاساسية (بصيغة او بغيرها)، ولكنك لن تجد ما يكفي من هذه المواد في الاسواق، لأنّ المستوردين والتجار وباقي الوحدات الاقتصادية، سيفقدون الحافز الاقتصادي للبيع، وعندها سندخل في سوق سوداء جديدة تؤمّن هذا الحافز. (طبعاً سيحصل ذلك في ظلّ الكثير من الفولكلور من قِبل دوريات قمع المخالفات السعرية)، ولكن هذا السوق سيستمر كما تستمر اليوم السوق السوداء للدولار الاميركي.
ثانياً: ستحوّل الدولة النقمة من ان تكون عليها وعلى سياساتها، الى نقمة على الصيادلة ومحطات المحروقات والافران والسوبرماركت، تماماً كما تحولت هذه النقمة في العام الماضي الى مدراء الفروع المصرفية وموظفيها.
ثالثاً: سوف نكون امام ظاهرة جديدة اسمها ليرة المصارف وليرة السوق، تماماً كما شاهدنا خلال عام دولار المصارف ودولار السوق، ينطبق ذلك بشكل خاص على تداول الشيكات بالليرة اللبنانية: بسبب الحاجة للسيولة النقدية، فإنّ الشيك بالليرة اللبنانية ستكون له قيمة مختلفة عن قيمة الليرة النقدية، اي اننا سننتقل من الـhaircut على الدولار الى الـ haircut على الليرة، بفعل قوة الامر الواقع، دون الاضطرار الى تشريع ذلك.
رابعاً: سنتأكّد من الآن فصاعداً انّ هناك سلطة نقدية خفية يديرها حيتان المال في السوق السوداء، تقابلها سلطة نقدية شرعية عاجزة وخزائنها فارغة خصوصاً في ظلّ استمرار الأزمة السياسية. سوف يحكم حيتان المال تسعير سوق الليرة، وسينزع سعر صرف الدولار في السوق السوداء الى اضطرابات اضافية، لأنّ ما سيحدّد سعر صرفه وقتها هو سوق العرض الاحتكاري، على عكس السوق الحرة للعملات (سوداء او غيرها) والتي تقوم على توازن العرض والطلب.
خامساً: سوف تستكمل عمليه شح الليرة هذه، مسار انتقاء الاقوى في لحظة غريزة البقاء بين المنتجين والتجار. واضافة الى كل المصالح التي اقفلت منذ عام حتى اليوم، يُخشى من توسّع ظاهرة اقفال المؤسسات، في غياب السيولة الضرورية لتمويل شرايين الدورة الاقتصادية.
سادساً: بانتظار وضوح آفاق المسار السياسي، هناك اموال دولارية بيضاء اختزنها القطاع المنزلي، تحسباً لليوم الاسود، ستكون عرضة للتسييل بسبب شح الليرة، بما سيترك هذا القطاع مكشوفاً على المجهول، في ظل اوضاع اقتصادية وسياسية تُنذر بالاسوأ.
رابط المقال: اضغط هنا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا