إقتصادالاحدث

من نصف تحرير سعر الصرف إلى نصف السجن الاقتصادي | بقلم د. بيار الخوري

في خريف عام 2019، كتبتُ في صحيفة «الجمهورية» مقالاً بعنوان «شُحّ الدولار: نصف تحرير لسعر الصرف»، متعرّضاً إلى التجلّيات الأولى لأزمة العملة التي كانت تلوح في الأفق، حيث بدأت ملامح الإنهيار تظهر مع شح الدولار وتراجع الثقة بالنظام المصرفي.

 

آنذاك، كان «نصف التحرير» لسعر صرف الليرة تعبيراً عن سياساتٍ اقتصاديةٍ هشّة، ترفض المواجهة الجذرية مع اختلالات النظام المالي والنقدي. اليوم، وبعد ما يقرب من 6 سنواتٍ على ذلك المقال، لا تزال الليرة اللبنانية عالقةً في فخِّ «النصف محرَّر»: لا تحرير كاملاً يُعيد توازن السوق، ولا ربطٌ بالدولار يُوقف الانهيار، ولا ثباتٌ يُطفئ نار التضخّم. بل صار المشهد تعبيراً صارخاً عن عجز السياسات وضياع الحلول، بل عن بؤس الخيارات التي تُدير الأزمة بأدواتٍ تشبه «المسكِّنات» الموقتة، بينما الجسد الاقتصادي ينزفُ منذ سنوات.

عندما طرح المقال فكرة «نصف التحرير» عام 2019، كان النظام المصرفي اللبناني قد بدأ يُظهر تشققاته مع شُحّ الدولار وانهيار الثقة. لكنّ الأحداث المتسارعة بعد 17 تشرين الأول 2019، مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية، كشفت زَيف أي إصلاحٍ جزئي. تحوَّل «التحرير الجزئي» إلى سقوطٍ حرٍّ لليرة، من 1500 ليرة للدولار إلى أكثر من 140 ألف ليرة في بعض الفترات، مع تعدديةٍ في الأسعار (سوق سوداء، وتعدّد أسعار رسمية) تعكس فوضى الإدارة. تحوَّلت البنوك من مؤسساتٍ حاكمة للأزمة إلى شبه مُفلسة، مع تقييد السحوبات وفقدان المدخرات، ما أدّى إلى تشرذم الطبقة الوسطى وانتشار الفقر بنسبٍ تجاوزت 80%. على رغم من الخطط المُقترحة (مثل خطة الحكومة 2020، ومفاوضات صندوق النقد الدولي)، بقِيَت الإصلاحات حبراً على ورق، بسبب تعطيل الطبقة السياسية لأي تغيير يُهدّد امتيازاتها. استمرّت الهيمنة السياسية-المالية عينها التي أوصلت لبنان إلى الأزمة، مع تحوّل الدولة إلى كيانٍ هشٍّ يعتمد على تحويلات المغتربين واستنزاف احتياطية العملات الأجنبية والقليل من الأموال الدولية المَشروطة، التي تبخّرت في دهاليز الفساد.

لم يكن «نصف التحرير» عام 2019 سوى ترميمٍ ظاهري لأعراض الأزمة، بينما الجذور باقية: سياسة مصرف لبنان المركزي (الاحتياطي المُنهار، الهندسات المالية الوهمية ومنصة صيرفة)، هيمنة المصارف التي حوّلت الودائع إلى ديونٍ مستحقة على الدولة، واقتصار الاقتصاد على الاستيراد والريع، من دون إنتاجية حقيقية. اليوم، صار «نصف التحرير» رمزاً لمسارٍ فاشل: لا السوق حرّة (بفعل تدخّلات المصرف المركزي لمصلحة مجموعات المصالح الخاصة خلال حاكمية سلامة)، لا الدولة قادرة على تثبيت العملة (بفعل انهيار الاحتياطيات)، ولا الثقة مُستعادة (بفعل غياب الإصلاح والمحاسبة).

أظهرت السنوات الـ6 أنّ الأزمة الاقتصادية هي في جوهرها أزمة حُكم. فبعد الاحتجاجات التي طالبت بإسقاط نظام المصالح الطائفية، تصاعدت الانقسامات السياسية، وعمّق الغياب الكامل للإرادة الإصلاحية مناخَ الانهيار. وتمسّكت الأحزاب بالسلطة عبر تحالفاتٍ هشة، بينما الشارع يُحاصَر بين الفقر والهجرة. وتحوّل البلد إلى نموذجٍ لـ«الدولة الفاشلة» اقتصادياً، وفق تصنيفات دولية. حتى الاتفاقيات مع صندوق النقد الدولي (2022) ظلت معلَّقة، لأنّ النخبة الحاكمة ترفض شروط الإصلاح (إعادة هيكلة القطاع المصرفي، إلغاء الدعم غير المُستهدف، محاسبة الفاسدين).

لبنان اليوم يعيش أسوأ سيناريو: لا هو بالمرتبط بعملةٍ قويةٍ فيحمي قيمة الليرة، ولا هو بالمتحرّر كلياً فيسمح بتشكيل سعر صرفٍ يعكس الواقع. هذا «المنزلق بين الاثنين» هو نتاج عقليةٍ سياسيةٍ تعيد إنتاج الأزمة لتحقيق مكاسبَ ضيّقة. فما كان في 2019 «نصف تحرير» صار اليوم نصف سجنٍ اقتصادي للمواطن بين تضخّمٍ جامح ومدّخراتٍ تبخّرت.

الخروج يتطلّب أكثر من «إصلاحات تقنية». يحتاج الأمر إلى قطع جذري مع نظام المحاصصة والفساد، وبناء عقدٍ اجتماعي جديد. لكن هل يُولد هذا «القطع» من رحم الانهيار نفسه؟ التاريخ لا يُجيب، لكنّ الوضع الراهن يقول إنّ الليرة، كالشعب، ما زالت تنتظر…

 

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى