
عند ولادة السيد المسيح كانت الهند تحتل المرتبة الأولى اقتصاديا على الصعيد العالمي، تتبعها الصين ثم الإمبراطورية الرومانية. ولم يمر طويل وقت حتى أزاح الصينيون جيرانهم عن العرش، في حين ظلت الدول الأوروبية تتصارع على المركز الثالث، لتحسم بريطانيا الصراع مع انطلاق الثورة الصناعية الكبرى. واحتكرت بريطانيا الزعامة لفترة طويلة حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، لتبرز من بعدهما الولايات المتحدة الاميركية كقوة اقتصادية وعسكرية وعلمية مهيمنة، دون أي منافس يذكر؛ الا ان نذر تراجعها وعلامات التفسخ بدأت بالظهور على دورها لتخلي الساحة الدولية أمام استعادة كل من الصين والهند المراتب الأولى في ظل نمو سكاني وقدرات علمية واقتصادية آخذة في التصاعد.
يستميت الرئيس الاميركي دونالد ترامب في معاركه المتعددة الأوجه والاتجاهات للحفاظ على زعامة الولايات المتحدة الاميركية للعالم وتأبيد هيمنتها العسكرية والاقتصادية والعلمية. وقد بدأ معاركه مع ترشحه للانتخابات الرئاسية الاميركية حيث كان شعار حملته “جعل اميركا عظيمة مجددا”. والمفارقة ان كل ما رفعه من شعارات في اثناء حملته لم يكن بهدف دغدغة مشاعر الناخبين وحثهم على التصويت له، بل سعى جاهدا غداة تسلمه مهامه الرئاسية لوضع وعوده موضع التنفيذ، فناوش دول الاتحاد الأوروبي اقتصاديا، وفتح معركة الرسوم الجمركية والحمائية مع الصين، ونقض الاتفاق النووي مع إيران ، وانسحب من معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى مع روسيا، وحاول جاهدا تفكيك بنية العلاقات الدولية التي ارستها المنظمات الدولية والمعاهدات والاتفاقيات والتفاهمات التي تلت الحرب العالمية الثانية.
الهيمنة العسكرية
على الرغم من التحولات الكبرى التي طرأت على موازين القوى الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، يحاول دونالد ترامب الحفاظ على تفوق اميركا العسكري النوعي، وهو لا يعترف بأي دوائر نفوذ إقليمية لأي قوة عسكرية أخرى غير الولايات المتحدة الاميركية، ولا يرضى بأي شكل من الأشكال ان تكون “الأولى بين متساوين” في علاقاتها مع القوى الدولية الأخرى .
يكمن التهديد العسكري لموقع أميركا حالياً في دولتين اثنتين وهما روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية اللتين تسعيان لبناء منظومة صواريخ متوسطة المدى تحمل رؤوسا نووية والاعتماد على أسلحة نووية تكتيكية والحرب السيبرانية كجزء من خيار هجومي قليل الكلفة وشديد الفاعلية، بالنظر لعدم قدرتهما المادية والعملانية على مقارعة الولايات المتحدة في حرب قادرة على خوض غمارها بمنتهى اليسر والسهولة على امتداد الكرة الأرضية ، وعلى حدودهما حتى، مستعينة في ذلك بأساطيلها البحرية أو قاذفاتها الاستراتيجية أو قواعدها العسكرية المنتشرة في عشرات البلدان وفي مختلف القارات.
الهيمنة الاقتصادية والعلمية
تعيش أوروبا على امجاد تاريخها الاستعماري، وهي قد بنت اقتصادها من خلال حفاظها على علاقات مميزة مع مستعمراتها السابقة ، أو في التنافس على انتاج ماركات عالمية شهيرة على صعيد المواد الغذائية والمشروبات الروحية والألبسة والسيارات الفارهة. أما روسيا فلا تزال تعاني من ارث الشيوعية الثقيل، في حين يسير كل من العملاقين الاميركي والصيني بخطى ثابتة نحو التفوق الاقتصادي القائم على الصناعات الثقيلة والصناعات الإلكترونية المتطورة.
فعلى الصعيد العالمي، تتقاسم الولايات المتحدة الأميركية والصين الشركات الخمس عشرة الرقمية الكبرى الأولى، ولا نرى سوى ثماني شركات أوروبية فقط ضمن قائمة المئتي شركة الأولى، فيما تنفرد الولايات المتحدة في المراتب الخمس الأولى ( آبل، مايكروسوفت،الفابيت، أمازون،فايسبوك) التي تهيمن على السوق الرقمي هيمنة شبه كاملة، ما يمنع أي منافسة محتملة في المدى المنظور.
لقد استطاعت الصين أن تبني اقتصادا سيصبح أكبر بشكل مستدام من الاقتصاد الأميركي، دون أن تتخلى عن قبضة النظام الحاكم أو أن تتحول إلى الليبرالية، وهذا ما دفع الساسة الاميركيين إلى اتهامها بأنها تستغل العولمة ومؤسساتها دون الالتزام بقيمها وشروطها، كالتسليم بالقيادة الاميركية كما تفعل سائر القوى الاقتصادية الكبرى كأوروبا واليابان والهند والبرازيل.
تنبأ دينغ زياو لينغ بالانتهاء من عملية تحديث الصين والهيمنة على العالم خلال نصف قرن من بداية توليه رسميا رأس السلطة والحزب الشيوعي الحاكم في الصين عام ١٩٧٨، وكان أساس برنامجه الإصلاحي اقتصاد السوق الاشتراكي القائم على تأسيس حكومة نظيفة، أمينة، غنية بالكفاءات والمواهب والطاقات السياسية والاقتصادية والإدارية المتميزة، بقيادة جماعية ممثلة في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الحاكم التي ترسم سياسات الدولة بالاعتماد على مراكز الأبحاث الجامعية والخاصة وبنوك المعلومات.
وعت الصين أهمية قيادة الدولة للتغيير وتثوير المجتمع وإمساك النظام بمفاصل الاقتصاد ، دون ان تطغى مساوىء الاشتراكية وبيروقراطيتها وجمودها وبطء معالجاتها على الاقتصاد،في حين نحت اميركا والدول الغربية مناحي أخرى قائمة على الليبرالية الاقتصادية، كمرحلة أولى، وصولا إلى النيوليبرالية الحالية التي أدت إلى اللامساواة بين أفراد المجتمع وتراجع الأجور وتغول الشركات الكبرى وضمور الطبقة الوسطى وتجويف الديمقراطية من مبادئها. فنرى حاليا ان من يحكمون دول الغرب هم التكنوقراط بنفس معولم، بحيث ان المصالح الاقتصادية حلت مكان العقد الاجتماعي، وبات المواطنون محكومون باقتصاد السوق وليس بتنظيم الدولة التي ترعى شؤونهم وتجهد في سبيل ارساء العدالة الاجتماعية وترويض الأسواق وتأمين المساواة وتحقيق الرفاهية.
الثورة الرقمية
يدخل العالم حاليا مرحلة الثورة الصناعية الثانية وهي الثورة الرقمية التي سيكون تأثيرها أعمق وأكبر من الثورة الصناعية الأولى التي شهدها القرن التاسع عشر. ومن يفز في هذا السباق المحموم سيتمكن من بسط نفوذه وهيمنته على القرية الكونية التي نعيش فيها. ففي يومنا الحاضر يهيمن من يملك الصواريخ الأطول مدى والأكثر فتكا وتدميرا، أما في السنوات الخمسين المقبلة فان من سيتحكم في مصيرنا سيكون من يمتلك المعلومة الأذكى والأجهزة الفائقة الذكاء الاصطناعي.
كما أدت الثورة الصناعية الأولى إلى نشوء طبقة وسطى وأخرى عاملة نازعت الأولى من اجل تحقيق مكتسبات اجتماعية، ستكون للثورة الصناعية الثانية تداعيات خطيرة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، كما ستكون الأعظم والأعمق اثرا في تاريخ البشرية على مر العصور. فالثورة الرقمية سترتكز على الذكاء الاصطناعي، حيث ستتوفر اجهزة وبرمجيات قادرة على الحلول مكان الدماغ البشري، وستؤدي كل الأنشطة البشرية المعروفة حاليا والتي تعجز الآلات عن القيام بها دون تدخل بشري، من الكتابة والتأليف إلى العمليات الجراحية الدقيقة والتشخيص الطبي إلى الأعمال الزراعية والحرفية والفنية…، مع ما يعني ذلك من حرمان مئات الملايين من البشر من العمل، والذين سيجهدون في منافسة غير متكافئة مع آلات قادرة ليس فقط على الحلول مكانهم دون اجر أو تعب أو توقف، إنما على الإبداع والابتكار أيضا .
لا مكان للمنافسة في الأسواق الرقمية، فالاكفأ يستأثر بكل شيء، ولا يترك للمنافسين أي حصة سوقية، كما في السلع التقليدية حيث تتنوع اذواق المستهلكين.
فالمستهلك الرقمي يبحث عن الأسرع بغض النظر عن التكلفة، ولا مجال لتنوع الأذواق والخيارات. من هنا يشهد السباق في المجال الرقمي منافسة محمومة بين الشركات الصينية والاميركية.ان من يقود الاكتشافات حاليا هو اميركا، في حين ان الصين تقود التنفيذ.
وعلى الرغم من تكبدها خسائر بمئات ملايين الدولارات (٣٧٠ مليون دولار عام ٢٠١٧) تستمر شركة ديب مايند التي تمتلكها غوغل ” في مهمة علمية طويلة الأمد لحل معضلة الذكاء واستعمالها لإفادة العالم” كما صرح مديرها التنفيذي .
هل انقضى زمن الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة الأميركية؟
سؤال يحاول العديد من الباحثين ان يجيبوا عنه بالإيجاب ، غير اننا نرى ان هيمنة الولايات المتحدة ما تزال قوية على الرغم من حدة المنافسة التي تمثلها الصين لزعامتها، فاميركا ما تزال تملك القوة العسكرية الهائلة والتفوق التكنولوجي غير القابل للمنافسة والعملة المعولمة للبقاء في مركز الصدارة، بينما تسعى الصين من خلال التخطيط والمثابرة والبعد عن الصراعات من اجل إزاحتها.
لمن ستكون الغلبة؟
حتى الآن يمكننا القول انه للمرة الأولى، بعد الحرب العالمية الثانية، تشعر اميركا بأن دولة هي على قاب قوسين أو ادنى من اللحاق بها ، لذا ستفعل المستحيل من اجل منعها من تشكيل أي خطر مستقبلي عليها، حتى ولو اضطرها الأمر إلى خوض صراع عسكري في سبيل ذلك!