هل تعمد ألمانيا إلى إخفاء المزيد من الأسرار عن مستقبل اليورو؟
ناقش صناع القرار في أوروبا خلال تواجدهم مؤخرا بمنتدى امبروسيتي للأعمال والذي أقيم بالقرب من شواطئ بحيرة كومو، مسألة انخفاض معدل النمو في منطقة اليورو والذي يهدد بالوقوع في فخ الركود الاقتصادي من جديد. وقد تكون التسهيلات المالية الجديدة للبنك المركزي الأوروبي بمثابة خطوة تصحيحية ولكنها غير كافية على الإطلاق، كما أن ألمانيا قد تتباطئ عن تقديم مساهمات مالية تحفيزية حتى فوات الأوان، ناهيك عن الانسحاب الوشيك للملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي Brexit والذي يراه كثيرون أمرا غير مرحب به في ظل تلك الأجواء الاقتصادية الملبدة بالغيوم.
وقد تمكن ماريو دراجي الرئيس الأسبق للبنك المركزي الأوروبي من إعادة صياغة القواعد الخاصة بالمعاملات النقدية مما ساهم بشكل كبير في إنقاذ اليورو من الانهيار في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي هزت العالم في عام 2008 حيث كان يؤكد دائما على أن انهيار العملة الموحدة سوف يؤدي إلى انهيار التكامل الذي حققته أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولعل كان ذلك هو السر في تمتع دراجي بمكانة مميزة في قلوب الكثيرين وبخاصة السياسيين الأوروبين ممن أصيبوا بالعجز التام عند وقوع الأزمة.
وقد استندت الاستراتيجية التي اتبعها دراجي في الأساس إلى مبدأ هام، ألا وهو أن البنك المركزي مستعد لفعل أي شئ في سبيل إنقاذ اليورو، ويعتقد البعض بأن قناعات دراجي كانت بمثابة دفعة قوية للخروج من الأزمة آنذاك.
وبالرغم منذ ذلك، فلازال هناك بعض القيود على إمكانية ظهور شخص مصرفي بارع قادر على إحداث المعجزات، فقد يقدم البنك المركزي الأوروبي على اتخاذ سلسلة من التدابير التوسعية، إلا أنه قد يتراجع أحيانا في ظل الضغوط الانكماشية. وفي ضوء التوجهات الحديثة لألمانيا حاليا، فإنه يمكن القول بأن اليورو لازال مشروعا غير مكتمل الأركان، حيث أن السياسات المالية لازالت متركزة بصورة أساسية في أيدي الحكومات الوطنية. فالميزانية الخاصة بمنطقة اليورو والتي أقرتها برلين تحت وطأة الضغوط الباريسية تعتبر محدودة للغاية.
وكنوع من البرهنة على التداخل الدائم بين الشئون السياسية والقرارات الاقتصادية، فقد يكون من الأحري هنا الاستشهاد بالملاحظة الهامة لـ جان كلود جونكر الرئيس الأسبق للمفوضية الأوروبية والذي قال عن السياسيين في أوروبا بأنهم يعرفون جيدا ما يجب عليهم فعله ولكنهم يتخوفون دائما من احتمال عدم انتخابهم مجددا، وقد جاءت ملاحظة جونكر في إطار حديثه عن الإصلاحات الهيكلية لزيادة الإنتاجية والتي تتعارض عادة مع الحقوق التقليدية للعمال، فالفجوة بين التدابير السياسية من جهة وسبل الارتقاء بالمستويات المعيشية للأفراد عادة ما تخيم على الأجواء الانتخابية.
ومن المبادئ الشهيرة للمستشار الألماني السابق هيلموت كول والتي يمكن تطبيقها على جميع الدول الدائنة في أوروبا؛ أن العملة الموحدة هي الآلية الأقوى من أجل تحقيق سياسة لم الشمل الأوروبي وتثبيت مكانة ألمانيا في الكيان الأوروبي مجددا، فاليورو هو السبيل الأوحد لتشكيل الملامح الجديدة لألمانيا الأوروبية والقضاء على فكرة ما يسمى بـ أوروبا الألمانية.
وربما كان الخطأ الوحيد الذي وقع فيه السيد كول هو عدم الحديث باستفاضة عن مزايا إقرار العملة الموحدة أمام الناخبين في ألمانيا، فحقيقة الأمر أن ألمانيا كانت المستفيد الأكبر من تحقيق التكامل بين دول أوروبا، حيث يوفر الاتحاد الأوروبي مظلة آمنة لتحقيق الاستقرار الديمقراطي والاقتصادي والذي كان الركيزة الأساسية لتحقيق الازدهار في أوروبا بوجه عام، ولعل فوائد انضمام ألمانيا إلى الاتحاد الأوروبي قد تجلت بوضوح في أن أصبح الاقتصاد الألماني -وهو الأكبر في أوروبا- مسئولا بشكل أو بآخر عن استقرار الكيان الأوروبي الجديد.
وفي الوقت الذي ظهرت فيه بعض المزاعم بأن ألمانيا ترفض فكرة الاتحاد الانتقالي، يبقى الخيار الحقيقي بين ظل ذلك الاتحاد الانتقالي المتمثل في الالتزامات العديدة للبنك الوطني المتراكمة لدى البنك المركزي فيما يعرف بـ الأرصدة المستهدفة، وإنشاء اتحاد اقتصادي يعترف بدور السياسات المالية في إدارة الطلب الاقتصادي.
ويمكن القول بأنه نادرا ما كانت الفرصة سانحة أمام أوروبا للاستثمار بشكل أفضل في المستقبل. فبعد انتهاء التضخم، أصبحت ألمانيا غارقة في الفوائض المالية وأصبحت تكلفة الاقتراض تساوي صفر، إلا أنه منذ تولي إيمانويل ماكرون رئاسة فرنسا، فإنه لابد من الاعتراف بأن ألمانيا قد أصبح لديها شريكا أظهر قدرته على اتخاذ قرارات استثنائية في بعض الأوقات العصيبة.
وحقيقة الأمر، فإن تقديم الدعم المالي لمنطقة اليورو لا يمكن اختزاله في محاولة ملء الثغرات فحسب، فهناك العديد من القضايا التي تحتاج إلى المناقشة. فعلى سبيل المثال تحتاج شبكات الاتصالات إلى إعادة الإحلال والاستبدال، كما أن قضية خفض مستوى الكربون في الغلاف الجوي تتطلب إعادة هندسة اقتصاد القارة بوجه عام، وهنا يجب الاعتراف بأن أوروبا لازالت تقبع خلف الولايات المتحدة في الصين في مجال الحوسبة والتعلم الآلي.
على أية حال، فإن الدول الأوروبية على يقين تام بأنه في حال الوقوع في فخ الركود مجددا فإن ألمانيا سوف تتصرف في الحال لإدارة الأزمة، ولكن مع الأسف الشديد فإن سيارات الإطفاء التابعة لبرلين لن تتحرك أبدا حتى تتأكد من أن النيران قد أتت بشكل تام على الأخضر واليابس، ولعل التباطؤ في التحرك الألماني حينئذ قد يخلف العديد من الخسائر داخل القارة الأوروبية.
رابط المقال الأصلي اضغط هنا