إقتصادالاحدث

ورقة سياسات: العمال في عصر الذكاء الاصطناعي

المقدمة
يشهد العالم تحولاً جوهرياً في طبيعة العمل، مدفوعاً بتسارع تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي والأتمتة. بينما تُعَد هذه التقنيات حجر الزاوية في الثورة الصناعية الرابعة، فإنها تطرح أسئلةً حرجة حول مستقبل العدالة الاجتماعية والقدرة على مواءمة المهارات البشرية مع متطلبات السوق المتغيرة. تهدف هذه الورقة إلى تقديم تحليل نقدي متعدد الأبعاد لهذا التحول، مع اقتراح سياسات تعالج جذور التحديات، لا أعراضها فقط، مستندةً إلى أدلة من التاريخ والسياقات العالمية المعاصرة.

1. التحليل النقدي لتأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل
1.1 تفكيك مفهوم “الوظائف المعرضة للخطر”: بين المبالغة والواقعية
تشير البيانات إلى أن 47 الى 64% من المهام في قطاعات مثل التصنيع واللوجستيات قابلة للأتمتة، لكن هذا الرقم لا يعكس بالضرورة فقدان الوظائف بالكامل، بل تحولاً في طبيعة المهام. على سبيل المثال، في قطاع التصنيع، قد تختفي وظائف التجميع اليدوي، لكن هذا يقابله نموٌ في الطلب على فنيي صيانة الروبوتات، الذين يتطلبون مهاراتٍ تقنيةً وعمليةً متقدمة. هنا، تكمن المفارقة: ففي حين أن الأتمتة تُقلص الوظائف منخفضة المهارة، فإنها تخلق فجوةً مهاريةً جديدةً قد تستغرق سنواتٍ لسدها، خاصةً في الدول النامية التي تفتقر إلى بنية تحتية تعليمية مرنة.

1.2 الفرص الناشئة: بين الوعود والقيود الهيكلية
رغم الإمكانات الكبيرة للوظائف الجديدة (كمراقبة الأساطيل الذكية أو تحليل البيانات الطبية)، فإن هذه الفرص لا تتوزع بشكلٍ عادل. ففي قطاع الصحة، على سبيل المثال، يتطلب دور “متخصص أخلاقيات الذكاء الاصطناعي” مستوىً عالياً من التعليم والتدريب، مما يستبعد العمال منخفضي المؤهلات. هذا يطرح سؤالاً جوهرياً: هل يمكن للتدريب السريع أن يعوض الفجوة الهيكلية بين المهارات الحالية والمستقبلية؟ الإجابة ليست بسيطة، إذ تشير تجربة “SkillsFuture” في سنغافورة إلى أن النجاح يعتمد على تكامل الجهود الحكومية والخاصة، وليس على المبادرات الفردية وحدها.

1.3 الدروس التاريخية: ما الذي نتعلمه من الماضي؟
خلال الحروب العالمية، أدى نقص العمالة الذكورية إلى إدخال النساء إلى المصانع، وهو تحولٌ قسريٌ لكنه أسهم في كسر الحواجز الجندرية. اليوم، يواجه العالم نقصاً مهارياً (وليس عددياً) في العمالة، مما يستدعي سياساتٍ تستهدف إعادة تأهيل العمال الحاليين، لا استبدالهم. ومع ذلك، فإن المقارنة التاريخية لها حدودها: ففي الأربعينيات، كانت الحكومات تتحكم بشكلٍ مركزي في الاقتصاد، بينما اليوم، تتنازع الشركات الخاصة والحكومات على تحديد أولويات سوق العمل، مما يعقد عملية صنع السياسات.

2. التحديات والفرص: قراءة نقدية للواقع
2.1 التحديات الهيكلية: أبعد من “البطالة التكنولوجية”
الفجوة الرقمية المزدوجة: لا تقتصر الفجوة على نقص المهارات، بل تشمل أيضاً انعدام الوصول إلى التقنيات الأساسية. ففي أفريقيا جنوب الصحراء، يعتمد 60% من السكان على الزراعة التقليدية، مما يجعل الحديث عن “إعادة التدريب الرقمي” غير ذي صلة باحتياجاتهم المباشرة.
اقتصاد المنصات والاستغلال: تُروج شركات مثل “أوبر” لمرونة العمل، لكنها تتهرب من توفير التأمينات الصحية أو المعاشات، مما يخلق طبقةً عماليةً “رقميةً” بلا حماية.

2.2 الفرص: إعادة تعريف “القيمة المضافة” للإنسان
التكامل بين الذكاء البشري والآلي: في قطاع الرعاية الصحية، يمكن للذكاء الاصطناعي تشخيص الأمراض بدقة، لكن الطبيب يبقى ضرورياً لشرح النتائج للمريض واتخاذ قراراتٍ أخلاقية. هنا، يصبح دور الإنسان “مكملاً” لا “منافساً” للآلة.
الاقتصاد الإبداعي: مع أتمتة المهام الروتينية، تبرز الحاجة إلى مهاراتٍ إنسانيةٍ كالتفكير النقدي والإبداع، والتي يصعب برمجتها. دراسة أجراها “المنتدى الاقتصادي العالمي” تتنبأ بأن 65% من الأطفال الذين يدخلون المدرسة اليوم سيعملون في وظائف غير موجودة حالياً، مما يؤكد الحاجة إلى تعليمٍ يركز على “التعلم كيف تتعلم”. Learning how to Learn.

3. سياسات مقترحة: نحو نموذج تكيفي عادل
3.1 إصلاح التعليم: من التلقين إلى التمكين
إعادة هندسة المناهج: يجب أن تتحول المؤسسات التعليمية من نقل المعرفة إلى تنمية القدرة على التكيف. في فنلندا، على سبيل المثال، أُلغيت التخصصات التقليدية في بعض المدارس لصالح تعليمٍ قائم على المشاريع متعددة التخصصات.
الشهادات المرنة (Microcredentials): بدلاً من الاعتماد على شهادات جامعية طويلة الأمد، يمكن للعمال اكتساب مهاراتٍ محددة عبر دوراتٍ قصيرة معتمدة، كما في نموذج “جامعة Google المهنية”.

3.2 الحماية الاجتماعية: من الحقوق التقليدية إلى العقد الرقمي الجديد
توسيع مفهوم “العامل”: يجب أن تشمل التشريعات العمالة غير التقليدية (كعامل المنصات)، مع ضمان حصولهم على تأمين صحي وإجازات مدفوعة. في كاليفورنيا، قانون “AB5” يجبر الشركات على تصنيف العمال المستقلين كموظفين بدوام كامل، لكن تطبيقه يواجه مقاومةً شرسة.
صندوق الانتقال العادل: تمويله يجب أن يعتمد على آليةٍ مستدامة، كفرض ضريبة بنسبة 1% على أرباح الشركات التي تحل الآلات محل 10% من عمالتها، بدلاً من الاعتماد الكلي على التمويل الحكومي الذي قد يكون غير مستقر.

3.3 الحوكمة العالمية: توازن بين الابتكار والمسؤولية
النقابات الرقمية: يمكن لهذه الكيانات التفاوض على شروط استخدام البيانات الشخصية للعمال، وضمان شفافية الخوارزميات التي تُستخدم في تقييم الأداء. في ألمانيا، نجحت نقابة “IG Metall” في تخفيض ساعات العمل لموظفي القطاع التكنولوجي دون خفض الأجور.
ميثاق أخلاقي عالمي: تحت إشراف منظمة العمل الدولية، يمكن وضع مبادئ توجيهية لاستخدام الذكاء الاصطناعي، كمنع استخدام تقنيات التعرف على الوجه في مراقبة العمال، أو ضمان أن تكون الخوارزميات خالية من التحيز الجنساني أو العرقي.

4. خاتمة: نحو مستقبلٍ لا يُقاس بالوحدات الرقمية، بل بالكرامة الإنسانية
الذكاء الاصطناعي ليس قدراً محتوماً، بل أداةٌ يمكن توجيهها لخدمة الإنسانية. لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب جرأةً في طرح الأسئلة الصعبة: من يتحمل تكلفة الانتقال؟ كيف نضمن ألا تصبح التقنيات أداةً لتعميق الاستغلال؟ الإجابة ليست في سياسات “الترقيع”، بل في رؤيةٍ شاملةٍ تعيد تعريف العمل نفسه، حيث يصبح الهدف ليس الإنتاجية فحسب، بل تحقيق الذات والعدالة للجميع.

التوصية الاستراتيجية: اعتماد “مؤشر الكرامة الرقمية” لقياس جودة الوظائف الجديدة، يشمل معايير مثل الأجر العادل، والحماية الاجتماعية، وفرص التطوير المهني. فقط عبر هذه العدسة يمكننا بناء اقتصادٍ رقميٍ يُعلي من قيمة الإنسان، لا يُهمشه.

مركز السياسات والاستشراف المعرفي (مسام)

مركز السياسات والاستشراف المعرفي (مسام) هو وحدة بحثية تابعة لموقع "الملف الاستراتيجي"، تُعنى برصد وتحليل السياسات العامة، وتحولات الشركات الكبرى، والديناميات الجيوسياسية التي تسهم في إعادة تشكيل العلاقات الدولية والبُنى المؤسسية والاجتماعية على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. ينطلق المركز من منظور استشرافي علمي يهدف إلى تجاوز التحليلات الظرفية، من خلال تتبّع الأنماط الكبرى في السياسات والتحولات المعرفية، وفهم التفاعلات المعقدة بين الدول، والشركات العابرة للحدود، والمجتمع المدني، والمنصات الرقمية. يركز المركز بشكل خاص على دراسة السياسات الوطنية في دول الشرق الأوسط، وتحليل استراتيجياتها في مجالات الحوكمة، وإعادة التموضع الإقليمي، والتفاعل مع التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية العالمية. كما يعالج المركز القضايا المتصلة بمستقبل السيادة الرقمية والمعرفة، ودور الفاعلين غير التقليديين في التأثير على صنع القرار وتشكيل الفضاء العام. يعتمد المركز في إنتاجه المعرفي على مقاربة تحليلية حيادية تلتزم بالصرامة المنهجية والموضوعية، بعيدًا عن التحيزات السياسية أو الإيديولوجية، ويسعى إلى تقديم فهم مركب ومسؤول للتحولات الراهنة، بما يخدم الباحثين وصنّاع السياسات والمشتغلين في حقل التفكير الاستراتيجي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى