اجتماعالاحدث

أسس صناعة الخوف | كتب أمين طاهر

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

 

كل من قرأ التاريخ يعرف جيدا مسرور السياف، ذلك الجلاد المرعب الذي ارتبط بـ العهد العباسي، فقصص بطشه و جبروته لا يمكن حصرها أو عدها، و قائمة ضحاياها كثر اشتملت العوام و النخبة، و لم تسثني أحدا، فقد كان يمثل اليد الباطشة للسلطة ، والتي لا تعرف الرحمة و الشفقة، و حينما كان يؤمر بعقاب العصاة و زجرهم فهو لم يكن يبدي أي تهاون في تلك التعليمات الموجهة له، و لم يكن يهمه أن يعارض الأوامر المقدمة له حتى و إن بدت ظالمة أو مبالغ فيها ، و لعل أبرز الشواهد على ذلك قوله لجعفر بن هارون الرشيد أبوك أمير المؤمنين يفعل ما يشاء، حينما ثار عليه بعد إعدامه لمعلمه القاضي فضيل بن عمران الذي راح ضحية وشاية كاذبة .

ومسرور كان موظفا رسميا في البلاط العباسي، يدفع له من أموالها و يقتات من فضلها نظير عمله كسياف، و لا شك أنه كان حريصا على وضعه الاعتباري، ولهذا فقد كان سيفه مشهرا على الدوام، و جاهزا لفصل الرؤوس عن الاجساد بأبشع الطرق، وقد رافقت تلك المشاهد الدموية إصرار على حضور الجماهير، لأن الغاية ليست معاقبة الجاني فقط ،و إنما التحكم في عقول الافراد و غرس ثقافة الخوف في لاوعيهم الجماعي.

ونحن هنا لا نستدعي سيرته لشخصه فهو بعيد عن زماننا و لا تربطنا به ضغائن، وإنما غرضنا هو فهم ظاهرة القمع التي يمثلها في تراثنا الاسلامي، فالتجربة القمعية لا تزال كما هي بنفس خطورتها و بنفس غاياتاها ، وما استدعاؤنا لشخصه إلا لكونه أيقونة في تاريخنا لصناعة الخوف ،و لأن آفة حضارتنا الاستبداد، فما هذه الورقة إلا محاولة لفهم نمط من التحكم في الجماهيرما تزال الدولة العربية الحديثة تعيد رسمه كمشهد عام يميز طريقة تعاملها مع أفراد شعبها ، و إن بطرق و أساليب حديثة.

فلكل زمن مسرور السياف الخاص به، و حيثما وجد تمثلت آلة الترهيب و القمع، و طبعا ليس بنفس الوسائل فهو الآن يتخذ أشكالا مختلفة، و السؤال الاساس هوكيف تتحكم الدول الحديثة في مواطينها، و للإجابة عن هذا السؤال سنستعين بمنهج الفيلسوف الفرنسي فوكو في كتابه الشهير المراقبة و العقاب، إذ يرى بأن الدولة الحديثة قد تحولت من فرض سلطتها جسديا إلى فرضها نفسيا، وتتجلى في المنظومة البوليسية الرهيبة التي تتشابه فيها كل بلدان العرب شرقا و غربا، و حينما نقول المنظومة البوليسية فالمقصود بها ليس ذلك الجهاز القمعي الذي تستند إليه الدولة الحديثة للقيام بإحدى وظائفها الاساسية، أي العناية بحفظ الامن العام و تطبيق مقتضيات القانون، و إنما نعني به إطارا أوسع يشمل نمطا من الحكم يقوم على التسلط ، وإحتكار جهة معينة (فرد أو عائلة أو طائفة أو طبقة) للسلطة و الثروة ، و الحقيقة أن البناء الطبقي للدولة يجعلها موجودة أصلا لحماية مصالح الجهة المهيمنة بالدرجة الاولى لا أن تسخر لخدمة الجميع، و بالتالي في ظل هكذا الوضع تصبح العلاقة بين الطرفين بمثابة صراع مستمر بين أقلية متنفذة و أغلبية مقموعة، و لا يمكن معه إيجاد حلول توافقية تشمل مصالح الكل.

وفي ظل هذا الصراع، فالاقلية المهيمنة سعيا لإعادة إنتاج تلك الاوضاع التي تكفل لها ديمومة النفوذ، والتحكم في موازين القوة من خلال منع ظهور أي قوة أخرى منافسة له، فإنها تستعين بكل الادوات التي تحتكرها لتحقيق هذا الهدف ، وبما أن موضوعنا الأساسي هو صناعة الخوف، فسنسهب في استعراض بعض مظاهرها ما أمكن، و هي في الواقع خليط بين العنف و وسائل القمع الرمزي أو الناعم ممثلة في الاعلام و القضاء ،و يتم وفق إطار قانوني يوحي بالحداثة السياسية، و لكنه في العمق ليس إلا مظهرا شكليا.

و أجهزة القمع الرمزي المذكورة هذه من إعلام و قضاء في غالب الأحيان لا تقل ولاءا للسلطة، بل أن بعض أفرادها يفوقون في حماسهم لتمكين التسلط حتى أفراد الاجهزة الامنية نفسهم، و يمكن أن نفهم دوافعهم من منطلق أنهم ينتمون لشرائح عليا في الطبقة المتوسطة، و هؤلاء تحركهم الانتهازية، و ما تمقلهم إلا بغاية تحسين وضعهم الاجتماعي و حماية الامتيازات المادية التي يحصلون عليها مقابل خدماتهم، و بحكم قربهم من تلك الاقلية المتحكمة فإنهم يحصلون على مبتغاهم بسهولة.

ولفهم هذه المنظومة القائمة ، سنعرض بعض السلوكات التي توضحها بشكل جلي، من صميم ما نراه في أغلب البلدان العربية من توحش المنظومة الامنية أثناء قمع الاشكال الاحتجاجية، والتضييق على المجتمع المدني سوءا منظمات أو أحزابا أو نقابات، و التوجس منها في حال امتلكت هامشا من استقلالية قرارها، و بما أنها في الأصل وجدت لتمثل وتدافع عن شرائح اجتماعية واسعة من الطبقات الدنيا ، فإن ذلك يجعلها في مواجهة مع من أسميناهم بالطبقات العليا المهيمنة على الدولة، و إذا ما فشلت هذه الاخيرة في تطويعها و جرها لصفها، فأنها تلجأ لوسائل أخرى، بهدف تصفية قادة القوى المدنية المعارضة معنويا بتلفيق تهم جاهزة من قبيل التآمر على النظام العام أو التخابر مع هيئات خارجية، أو منع تمويل أنشطتها بقطع مصادرها الرسمية .

كما تستعين بأجهزتها القمعية الناعمة الذين تحدثنا عنهم سلفا ، من إعلام في معظمه غير مستقل، تستغله السلطة للتعبير عن توجهاتها حصرا، و فرض رأي و صوت واحد غير قابل للنقاش، والاعلامي كما الامني هو أداة للبطش، و دوره أخطر فهو من يضطلع بمهمة التشهير والنيل من الأعراض و توجيه الرأي العام ليقبل بدون نقاش توجهات السلطة، و تخويفه من مصير الخروج عن خط الطاعة، فليس هناك هامش للحرية إلا وفق ما تسمح به.

و كذلك يأتي جهاز القضاء ليكمل باقي المهمة، عبر فرض أحكام متشددة بناء على نصوص قانونية قابلة للتأويل و التحوير لتحتمل منطوقا آخر، فتحت مبرر النظام العام ينكل بالناشطين الحقوقيين، و بذريعة حالة الطوارئ تمنع الحريات العام، مما يحوله من جهاز المفروض فيه أن يمنع تسلط الدولة إلى مجرد ملحقة أمنية لا أقل و لا أكثر و أداة للردع قادرة على اخضاع الجماهير و تخويفها من

أن كل خروج عن الوضع القائم سيتم التعامل معه بصرامة شديدة حتى يكون ببساطة عبرة للجميع، و كل ذلك باسم القانون و المصلحة العامة.

و في المحصلة إن هذا النمط السلطوي يقود لخلق مناخ قهري، يمكن من ترويض الجماهير و إخضاعها، و يدفعها نحو ضبط سلوكاتها و أفكارها و قناعاتها، لتستجيب لما تمليه رغبات وتوقعات السلطة كنوع من فروض الولاء و الطاعة، وهذا هو أصل صناعة الخوف، فالغاية الاساس هي خلق فرد يشعر على الدوام بأنه مراقب على الدوام ، و تنعكس بدورها على المجتمع برمته حيث يتحول إلى كيان مستلب يتلذذ باضطهاده و يخشى من تبعات الفكر الحر أو إبداء سلوك يعارض التوجهات العامة، و يجعله فاقدا للثقة بنفسه أو إمكانية الخلاص.


المراجع:
  • ميشيل فوكو،المراقبة و العقاب.
  • مصطفى حجازي،التخلف الاجتماعي، سيكولوجية الانسان المقهور.

الكاتب أمين طاهر

أمين طاهر استاذ دراسات اجتماعية و كاتب مهتم بقضايا التاريخ و السياسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى