في الحلقة الأُولى من هذه الثلاثية قدمتُ لأَراغون وحكاية حبه الخالد مع حبيبته إِلْسَا. وفي الحلقة الثانية عرضتُ لثلاث مجموعات شعرية أَعادت “دار غاليمار” في باريس إِصدارها قبل ثلاثة أَسابيع (في 10 الجاري) احتفاءً بالذكرى الأَربعين لغياب الشاعر (1897-1982).
ويكون أَن الشاعر أَراغون كان سنة 1974 ضيف مهرجانات بعلبك (في دورتها التاسعة عشْرة) لمناسبة تمثيل مسرحيته الشهيرة “مجنون إِلْسَا” التي وضعَها عن “مجنون ليلى” في التراث العربي. كان في استقباله عتد مطار بيروت رئيسة اللجنة السيدة مي عريضة ومعها الشاعر جورج شحادة، ترحيبًا بالشاعر وفريق العمل الفني والتقني.
لم يكن ممكنًا إِذًا إِلَّا أَن أُخصِّصَ الجزء الثالث من هذه الثلاثية لاسترجاع هذا الحدث الأَدبي التاريخي في لبنان.
أَراغون بين الهياكل
صيف 1974 كان الشاعر لويس أَراغون “آخر عمالقة الشعر الفرنسي الأَحياء” يتمشى بين الهياكل في بعلبك، لُبْدةُ شعره الطويل تتطاير خلف رأْسه، وهو جاء ضيفًا على لجنة مهرجانات بعلبك ورئيستها السيدة مي عريضة، كي يشاهد عرض مسرحيته “مجنون إِلْسَا” بإِخراج آلان فيرنر، وكوريغرافيا فيليكس بْلاسْكا، وموسيقى باتريس مسترال، في عرضَين: الخميس 18 والسبت 20 تموز/يوليو 1974.
هي ليست أُوبرا ولا مسرحية، بل احتفالية من ستة فصول في حدَثَيْن: الأَول عن سقوط غرناطة المتزامن مع إِبحار كريستوف كولومبُس إِلى أَميركا (1492)، والآخَر حكاية قيس ابن الملوَّح مجنون ليلى العامرية، إِحدى أَجمل قصص الحب في العالم، تناقلتْها عن العرب شعوب كثيرة، بينها “ليلى ومجنون” للفارسي نظامي الكنجوي (1141-1209) في القرن الثاني عشر، و”روميو وجولييت” لشكسبير (1564-1616) في القرن السادس عشر، و”مجنون ليلى” لأَحمد شوقي (1870-1932) في القرن العشرين.
يومها نجح الصحافي فادي اسطفان في اقتناص حوار مع أَراغون لجريدة “لوريان لوجور”، تحدَّث فيه عن تمجيده المرأَةَ والحب، انطلاقًا من حبِّه إِلْسَا.
كان ذلك في فندق بالميرا (بعلبك) مساء السبت 20 تموز/يوليو 1974. حكى أَراغون عن انتمائه إِلى حركة الدادائيين والسورياليين والأَدب المعاصر، لكن أساس الحديث تركَّز على حبيبته إِلْسَا التي جعلَها تاجًا لجميع عناوينه، معتبرًا أَنها امرأَة استثنائية حتى الأُسطورة.
اعترافات أَراغون: زوجها “زير نساء”
قال أَراغون: “إِلْسَا هي حبيبتي وزوجتي. عشنا معًا 42 سنة، تعذَّبْتُ بما تعذَّبَتْ هي منه. كانت روسية من الاتحاد السوفياتي لكنها لم تكُن شيوعية. اتُهمتُ بأَنني عجزْتُ عن إِقناعها بالانتساب إِلى الحزب، لكنني أَصلًا لم أُحاول ذلك. كانت مضطَهَدَة في فرنسا من أَعداء الأَجانب، خصوصًا قبل زواجنا. نحن لم نتزوَّج باكرًا، وهي قبْل حياتنا معًا كانت تزوَّجت من الفرنسي أَندريه تريوليه، وحملت اسمه طيلة حياتها لتوقيع كتاباتها ومؤَلفاتها، ولم أُمانع في ذلك. كانت الشرطة تطاردها وكنتُ أَحميها، وأَحتمل نقد من كانوا يجدون سخيفًا أَن أَكتب قصائد حب في زوجتي. عشنا معًا 11 سنة بدون زواج، إِلى أَن طلبَت مني إِلْسَا ضرورة عقد زواجنا رسميًّا. كنتُ قبلذاك عرضتُ عليها الفكرة فرفضَت لأَن عليها النهوض باكرًا في التاسعة للذهاب لدى القاضي المولج، وتعلِّق: “لن أَغدو باكرًا لهذه الغاية. لا حاجة مُلحَّة لزواجنا”.
ولكنها في تشرين الأَول/أكتوبر 1938، بعد حادثة ميونيخ، شعرَت أَن الحرب قد تقع، فقالت لي ذات يوم: “تعرف؟ يجب أَن ننفِّذ عقد زواجنا”. ونهضَت قبل التاسعة وذهبنا وأَنجزنا الزواج. لم يكن صعبًا إِتمام طلاقها من زواجها الأَول لكنَّ السيد تريوليه سهَّل الأَمر وأَتاح لنا الزواج من دون أَن يطلِّقها، لسبب وحيد أَبلغنا إِياه، بأَنه يريد أَن يبقى “زير نساء”، حتى إِذا طلبَت إِحدى محظيَّاته أَن يتزوَّجها يرفض بحجة أَنه ما زال متزوِّجًا من إِلْسَا التي لا تريد أَن تطلِّقه. وهكذا تزوَّجنا في نهاية شباط/فبراير 1939 قبل أَشهر من انفجار الحرب العالمية الثانية. لكننا عشنا أَيامًا صعبة من المطاردة والتنقُّل هربًا من مكان إِلى آخر”.
“مجنون إِلْسَا” في التاريخ العربي
“مجنون إِلْسَا” صدرت سنة 1963 كتابًا من 425 صفحة حجمًا كبيرًا، في شقين: الأَول آخر ملوك العرب في الأَندلس وسقوطها في أَيدي الإِسبان مع إِيزابيل وفردينان وما نتجَ عن تلك الظاهرة من تضادّ بين الثقافة العربية الإِسلامية والغرب المسيحي، والشق الآخر يعالج قصة مجنون يرويها حكواتي يدور في شوارع المدينة.
أَما كيف بلغ أَراغون أَن يشكِّل “مجنون إِلْسَا” من قصة “مجنون ليلى”، فمن متابعاته ما ورد في كتُب المستشرقين وفي فلسفة ابن رشد والصوفي ابن عربي نسج نصه “مجنون إِلْسَا”. وكان نجاح العمل عرضًا عالميًّا أَول، على أدراج بعلبك، في أُمسية حملَت جمهورَها على أَجنحة الشعر والموسيقى والكوريغرافيا في ليلتَين كأَنهما من خارج هذا الكوكب.
كان احتفال “مجنون إِلْسَا” في بعلبك تكريمًا للشعر العربي على لسان شاعر فرنسي كبير، إِكرامًا للمرأَة عمومًا، لإِلْسَا خصوصًا، وللحب المجنون الذي توَّج إِلْسَا امرأَةً ارتفع بها شاعرُها حتى الأُسطورة.
لو أَنكِ معي في بعلبك
ختامًا، ولو استرجاعًا استعاديًّا، أَتخيَّل أَراغون، بعد انطفاء الأضواء في ختام العرض الثاني الأَخير، راح يتمشى وحده في العتمة بين هياكل بعلبك، مناجيًا حبيبةً غابت قبل أَربع سنوات، كتب لها أَجمل شعره، وكان يتمنى أَن تكون معه في لبنان، تحت سماء بعلبك، كي تشهد كيف شاعرُها غنَّاها على أَدراج المعبد، فسمعَت غناءَه النجوم، وردَّدَت معه اسمَ تلك الحبيبة التي هام بها شاعرُها حتى الجنون.
إِلْسَا، كان اسمها.
إِلسَا تريوليه.
ينشر المقال بالتزامن مع “النهار”