مقدمة :
ثمة موجة العنف الاعمى التي اجتاحت العديد من المناطق والمجتمعات في العالم العربي والإسلامي ، من أهم المعضلات والمشاكل التي تعاني منها هذه المجتمعات وأخرت مشروعات البناء والتنمية وادخلت هذه الدول والمجتمعات في دوامة العنف التي دمرت العديد من المكاسب .. وأبانت هذه موجة العنف ومتوالياتها المتعددة ان التعصب والتطرف الديني والاجتماعي هو الذي يقف خلف موجة العنف الاعمى التي عانت منها بعض المجتمعات والمناطق في العالميين العربي والإسلامي ..
وفي سياق العمل على تفكيك ظاهرتي التعصب والعنف بكل مستوياته ، ثمة حاجة ماسة لمعرفة أسباب نشوء هذه الظاهرة والآفة الخطيرة التي دمرت العديد من المكاسب وأوقفت مشروعات البناء والتنمية وأدخلت بعض المناطق في أتون العنف والعنف المضاد وساهمت في تخريب الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي .. لعل من الضروري القول ان مستقبل المنطقة العربية والإسلامية بكل مجتمعاتها ودولها مرهون الى حد بعيد على القضاء على موجة التعصب والقطيعة التامة معها ، حتى يتسنى لهذه الدول والمجتمعات الاستقرار السياسي والاجتماعي ..
والانطلاق في مشروعات البناء والتنمية بعيدا عن نزعات التطرف والتعصب والعنف التي دمرت كل الإمكانات لبناء المجتمعات العربية والإسلامية بعيدا عن هذه النزعات المدمرة والمجهضة لكل مشروعات البناء والتنمية ..
وحين التفكير العميق في تحليل ظاهرة جماعات العنف و الإرهاب في المنطقة العربية , نكتشف أن هذه الجماعات , هي بذاتها , و وفق تكوينها الثقافي و المعرفي و الاجتماعي , هي جماعات انشقاقية , تتكور حول ذاتها , و تزرق في عقول أفرادها نزعات الكره و البغض لمحيطها الاجتماعي و السياسي , و تجعل من الانتماء إليها و الالتزام بمقولاتها و برامجها المختلفة , هو معيار الحق و الصواب .
و ما عداها هو خروج عن الصواب و انحراف عن الطريق المستقيم .. لذلك فإن جماعات العنف و الإرهاب في كل البيئات الاجتماعية التي تتواجد فيها , تزرع الانشقاق , و تحفر أخاديد من التباينات والخلافات التي تتولد باستمرار , مما يدمر النسيج الاجتماعي و السياسي .
لذلك نجد أن هذه الجماعات باستمرار تبحث عن الجغرافيا البشرية , التي اهترأت فيها الدولة و أضحت غير متماسكة , و سادت الفوضى , لأن هذه البيئة التي لا راعي لها و لا ناظم فيها , هو الذي يناسب فكرها الانشقاقي و العنفي , لتحويل هذه الجغرافيا إلى ساحة مفتوحة للتدريب الأيدلوجي و العسكري , لكي تستمر في مشروع القتل و التدمير و إنهاك المجتمعات العربية سواء على مستوى علاقاتها البينية بين مكوناتها المتنوعة , أو على صعيد أوضاعها الأمنية و السياسية ..
لذلك من الطبيعي اعتبار هذه الجماعات بصرف النظر عن أيدلوجياتها , هي خطر محدق للمجتمعات العربية و أمنها و استقرارها و تلاحمها الداخلي .. و ماتقوم به هذه الجماعات الإرهابية في أكثر من بلد عربي , هو مؤشر عملي على طبيعتها و منظومة أفكارها التي تبرر لذاتها القيام بأبشع الإعمال و أشنعها .
و ما تقوم به في بعض المدن السورية الواقعة تحت سيطرتها , يؤكد هذه الحقيقة , و يعبر بشكل ملموس أنها جماعات تعيش على القتل و التدمير , و أنها لا تكتفي بمحاربة النظام السياسي الذي تشكلت من أجل مواجهته و محاربته , و إنما طبيعتها العنفية و الانشقاقية يدفعها إلى مقاتلة كل من يخالفها أو يقف موقف الرفض لمشروعاتها و خياراتها الأيدلوجية و الاجتماعية . لذلك تتكرر الأخبار الغريبة و المذهلة التي تقوم بها ( داعش ) في مدينة الرقة السورية . فهي جماعات تدمر ولا تبني , تفكر بمشروعها دون الاهتمام بمعطيات الواقع , تستسهل عملية القتل و الإعدام حتى لو حكمت مدينة أو قرية بدون أهلها , لا تعرف إلا لغة العنف و كأنها كتلة بشرية لتنمية الأحقاد و الأغلال بين الناس ..
و الشيء المهم الذي ينبغي لكل الدول العربية أن تلتفت إلية , و تراكم من فعلها الأمني و السياسي و الثقافي في مواجهة جماعات العنف و الإرهاب , هو أن هذه الجماعات و بفعل ذهنيتها الانشقاقية و منهجها الإرهابي الأسود , هي من أهم التحديات و التهديدات التي تواجه وحدة العرب كجغرافيا و كشعوب . لذلك نتمكن من القول و على ضوء تجارب هذه الجماعات في مصر و سوريا و اليمن و العراق , أنها تهديد مباشر لوحدة الدول العربية و المجتمعات العربية . لأنها تفكر بذهنية اقتطاع رقعة جغرافية ذات خصائص معينة , و تعمل لتحويلها إلى قاعدة متكاملة للانطلاق و الانقضاض ضد المناطق و المدن الأخرى. هذا ما فعلته هذه الجماعات الإرهابية في اليمن و العراق و سوريا , و هذا ما تحاول أن تقوم به في أي دولة تقوى فيها , و تتوفر لها حاضنة اجتماعية .
فهذه الجماعات تشكل قوة أيدلوجية و عسكرية مضادة لواقع الوحدة بين العرب و المسلمين , و مدمرة للنسيج الاجتماعي في كل البيئات , و تسعى باستمرار لتأسيس جيوب لها تضمن فيها حرية الحركة و القدرة على الانقضاض المسلح ضد بقية الشعب و المناطق غير الخاضعة لها .
و ما جرى من أحداث في العراق , أدت إلى سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم داعش يؤكد هذه الحقيقة و يعكس طبيعة التهديد الذي تشكله هذه الجماعات و التنظيمات الإرهابية على وحدة الدول و الشعوب العربية .
و على ضوء ذلك ثمة ضرورة قومية و وحدوية في كل الأقطار العربية , للوقوف بحزم ضد هذه الجماعات , لأنها أضحت تهديد حقيقي على المستويات كافة . و الوقوف موقف المتفرج من هذه الأحداث و التطورات , يعني المزيد من الانهيارات العربية و المزيد من التآكل الدامي في الجسم العربي .
و في سياق العمل للوقوف ضد هذه المخاطر و التحديات التي تطلقها جماعات العنف و الإرهاب ضد استقرار الدول العربية و وحدتها الجغرافية و البشرية , نود التأكيد على النقاط التالية :
1ـ إن المجتمعات المتنوعة و المتعددة أفقيا و عموديا , لا يمكن أن تدار بعقلية الغلبة و استبعاد أحد المكونات و التعبيرات , و إنما تدار بتطوير نظام الشراكة الذي يضمن لجميع الأطياف حقوقها السياسية و المدنية بدون افتئات على أحد , أو إقصاء لأي طرف .
و تعلمنا التجربة السياسية في العراق , أن التراخي أو التلكؤ في بناء نظام سياسي , تشاركي , تعددي , لا يقصي أحدا , فإن نتيجته المباشرة هو بروز حواضن اجتماعية عديدة لخيارات العنف و الإرهاب , تكون محصلة هذه الحواضن الدائمة المزيد من الانهيار الأمني و وقوع التفجيرات و القتلى من الأبرياء .
فالأمن الحقيقي لا يبنى إلا ببناء نظام الشراكة , و الرهان على قدرة أحد المكونات على حسم معاركه السياسية بوحده , أضحى من الرهانات الخاسرة التي لم تنتج إلا القتل و الدمار.
إننا في هذا السياق ندعو شيعة العراق قبل سنته , و عرب العراق قبل كرده , إلى الالتفات إلى هذه الحقيقة السياسية إلا و هي أن نظام الشراكة المتساوية في الحقوق و الواجبات لكل الأطراف و المكونات , هو الذي يجلب الأمن و الاستقرار , و هو ( أي نظام الشراكة) وحده قادر على تفكيك كل شبكات العنف و الإرهاب التي بدأت بالانتشار في محافظات العراق ..
أما إذا استمرت الأوضاع على حالها ,فإن الأحداث ستتسارع باتجاه المزيد من الانهيار الأمني و السياسي , مما يهدد وحدة العراق شعبا و أرضا .
و على النخب السياسية من كل الأطراف و الأطياف ,أن تدرك أن الضامن الوحيد لوحدة العراق اليوم هو طبيعة النظام السياسي المراد تشكيله في العراق . فإذا كان أحاديا و لا يعبر عن جميع حساسيات الشعب العراقي , فإن المآل الأخير لذلك هو تقسيم العراق , و هو من الخيارات الخطيرة على العراق و المنطقة العربية بأسرها .
2ـ توضح الأحداث و التطورات في أغلب البلدان العربية المذكورة أعلاه , أن استدعاء جماعات العنف و الإرهاب , أو غض النظر عنها , لا يهدد فقط خصم اليوم , و إنما يهدد الجميع . لأن هذه الجماعات بطبعها جماعات غير تسووية و تبحث عن حلول نهائية وفق منظورها في كل المناطق التي تتواجد فيها . لذلك من الضروري القول : أن من مصلحة جميع الأطراف في المنطقة العربية الوقوف معا ضد جماعات العنف و الإرهاب , و إن لعبة الاستقواء و التخويف بهذه الجماعات سترتد سلبا على جميع الأطراف . لذلك ثمة حاجة في كل هذه الدول العربية للوقوف العملي و الفعلي ضد كل التشكيلات الإرهابية و العنفية , لأنها تشكيلات تهدد المنطقة العربية في استقرارها الداخلي و وحدتها السياسية و البشرية . و تجربة ( داعش ) في تهديد وحدة العراق و وحدة سوريا شاخصة للجميع .
3ـ حينما تتفشى الغرائز المذهبية و الطائفية في المجتمعات , تتجه بعض العواطف إلى أقصى أنواع و أشكال التحريض و الكراهية . و العلاقة بين تفشي غرائز الكراهية و التحريض و ممارسة العنف و الإرهاب , هي ذات العلاقة التي تربط عالم الأسباب بعالم النتائج . لذلك ثمة ضرورة عربية لرفع الصوت ضد عمليات التحريض المذهبي و الطائفي , لأن هذه العمليات تؤسس بطريقة أو أخرى للمناخات الاجتماعية و الثقافية المحضرة لاستخدام العنف ضد المختلف المذهبي أو المغاير الديني , و هذا بدوره يفضي إلى اتساع دائرة العنف و الإرهاب .
و خلاصة القول : أن جماعات العنف و الإرهاب , تعيش على مناخات التحريض المذهبي و الطائفي , و من يريد محاربة جماعات العنف و الإرهاب , فعليه أيضا الوقوف ضد كل أشكال بث الكراهية بين المواطنين لاعتبارات لا كسب للإنسان فيها .
- العرب ومحنة العنف والإرهاب :
لا يمكن أن يغادر العنف مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، بدون إرساء معالم وحقوق الإنسان في الفضاء الاجتماعي العربي والإسلامي . فحينما تسود في مجتمعاتنا قيم حقوق الإنسان، تتراجع كل موجبات وعوامل العنف السياسي.
لذلك فإن ظاهرة العنف السياسي، لا يمكن مواجهتها فقط بالوسائل الأمنية. لأن هذه الوسائل بوحدها ومن خلال تجارب الكثير من الشعوب والمجتمعات، هي التي تفاقم من الأزمات، وتزيد من حدة التوترات.
من هنا فإن معالجة ظاهرة العنف، بحاجة إلى رؤية سياسية – مجتمعية مركبة، قوامها صيانة حقوق الإنسان، وتعميم ثقافة العفو والتسامح والبر والقسط والحوار وحق التعبير والاختلاف، وإطلاق مشروع سياسي وطني، يتجاوز مآزق الراهن، ويجيب على تحديات المرحلة.
وعليه فإن إنهاء مسلسل العنف من مجتمعاتنا، يتطلب العمل على بناء حياة سياسية وثقافية جديدة، تستند في مشروعاتها وإجراءاتها إلى قيم العدالة والبر والتسامح وحقوق الإنسان.
فالعلاقة جد عميقة بين مبدأ العدالة ومفهوم حقوق الإنسان. حيث أن العدالة بكل ما تحتضن من قيم ومتطلبات، هي الحاضن الأكبر لمشروع حقوق الإنسان. ولا يمكن أن تتوفر حقائق حقوق الإنسان، بدون العدالة السياسية في المجتمع. فهي بوابة نيل الحقوق وصيانة كرامة الإنسان.
لذلك جاء في الحديث الشريف أن [ العدل حياة الأحكام ] إذ لا حياة لأحكام وقيم الدين إلا بحياة أهدافه وغاياته. لذلك جاء في الحديث [ أن الناس يستغنون إذا عُدل بينهم].
ويقول أحد المفكرين في هذا الصدد “إن أحد أسباب تخلف الأديان، من وجهة نظر علم النفس الديني، هو انتقال القائمين على الدين نوعا من التناقض بين الدين والحاجات الطبيعية، وخاصة عندما تتبلور تلك الحاجات في أوساط الرأي العام .
بينما الحقيقة أن الإيمان بالله يقوم على ثقافة العدل والحقوق الذاتية للناس، ولا يمكن إقرار الحقوق الذاتية والعدالة الواقعية إلا مع الإيمان بالله تعالى، بعيدا عن الفرضيات والاتفاقات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإيمان بالله أفضل ضامن لتنفيذهما. “.
لذلك من الضروري أن نعتني بخلق الوعي الحقوقي، القادر على رفض وفضح كل الانتهاكات التي يتعرض إليها الإنسان في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
إذ أن الخطوة الأولى في مشروع صيانة حقوق الإنسان، هي الوعي بهذه الحقوق، ورفض كل المحاولات التي تتجه إلى انتهاك حق من حقوق الإنسان الأساسية.
ولا بد أن يدرك الجميع في الإطار العربي والإسلامي، أن انتهاك حقوق الإنسان، لا يفضي إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي، وأن قيم الدين العليا لا يمكن أن تشرع للعسف والإكراه وانتقاص حقوق الإنسان.
لذلك من المهم أن نرفع الغطاء الديني والسياسي والاجتماعي، عن كل تلك الممارسات والأفعال الـــتي تنتقص مـــن كـــرامة الإنسان وحقوقه، ونتعامل معها ( بصرف النظر عن القائم بها ) باعتبارها ممارسات تناقض بشكل صريح قيم الإسلام ومبادئه الأساسية، ولا تنسجم ومتطلبات الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي.
ولا يمكن إقصاء العنف السياسي من المجتمعات العربية والإسلامية بالمزيد من القمع وانتهاك حقوق الإنسان، لأن هذه الممارسات تزيد من فرص العنف، وتوفر المناخ الملائم لبروز نزعات التطرف بكل مستوياتها وأشكالها.
لهذا فإننا نتمكن من وأد ظاهرة العنف من واقعنا، بالمزيد من الإصلاحات السياسية والأنظمة والإجراءات التي تصون كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية. وهذا يتطلب منا أن نولي أهمية خاصة، إلى العمل الثقافي المتواصل، الذي يعزز حقوق الإنسان اجتماعيا وسياسيا، ويعيد تأهيل تصورات المجتمع تجاه حقوق الإنسان الجوهرية.
فالإنسان أو المجتمع الذي يتعرض إلى اعتداءات على حقوقه ومكتسباته ومنجزاته الحقوقية، لا يمكن أن يدافع عن حاضره الذي هو أحد ضحاياه. لذلك فإن انتهاك حقوق الإنسان، لا يفضي إلى الأمن والاستقرار، بل إلى المزيد من التوترات والاضطرابات. من هنا فإن التطلع إلى الأمن والاستقرار، يقتضي بذل الجهود الحقيقية للحفاظ على حقوق الإنسان وصيانة كرامته. لأن الإنسان القابض على حقوقه، والممارس لحريته، هو القادر على الدفاع عن المكتسبات. فإذا أردنا الأمن، فلتتوجه كل الجهود والمشروعات إلى تنمية الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته.
فتنمية الإنسان هو سبيلنا الحضاري لإنجاز الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي. ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن يكون انتهاك الحقوق، هو طريق الأمن والاستقرار، بل هو طريق الأزمات المتلاحقة والحروب المفتوحة على كل الأشكال والاحتمالات.
لذلك فإن الاستقرار السياسي اليوم، يقتضي العمل على خلق الشروط الأساسية من أجل حياة سياسية جديدة، قوامها الديمقراطية والحريات السياسية وحقوق الإنسان. والعدالة السياسية طريقها الدائم، هو تكريس قيم وحقائق المواطنة في الفضاء السياسي والاجتماعي.
فالظلم بكل مستوياته وأشكاله، لا يحقق مواطنة متساوية، بل يساهم في تدمير المنجزات وإضاعة المكاسب. وممارسة القوة العارية ضد قوى المجتمع وتعبيراته السياسية والثقافية، لا يصنع استقرارا، ولا يخلق أمنا، بل على العكس من ذلك تماما، حيث أن ممارسة القوة العارية، تزيد من تناقضات المجتمع، وتسرع من وتيرة المواجهة بين مختلف المكونات والتعبيرات.
وتعلمنا تجارب الأمم والشعوب المختلفة، على أن الأمن بمعناه الحقيقي، هو نتاج شرعي للديمقراطية وسيادة القانون وصيانة حقوق الإنسان.
صحيح أن التحول الديمقراطي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تكتنفه العديد من الصعوبات والتحديات والهواجس، ولكننا نعتقد وبعمق أن هذا الخيار هو أسلم الخيارات وأقلها خسائر وتداعيات خطيرة.
وإذا تمعنا ودرسنا شهادات واعترافات أهل التطرف والعنف، نجد أن القمع والاعتقال التعسفي وممارسة التعذيب في السجون بحقهم، هو أحد الأسباب الذي قادهم إلى تبني خيار العنف.
وإن الأمن الحقيقي بحاجة إلى رؤية جديدة ومعالجة حضارية، تتجاوز تلك الرؤى والمعالجات التي تفاقم من الأزمات، وتوفر لها أسباب جديدة للتجذر والتمدد والانتشار.
من هنا لابد من القول : أن المحن والتحديات السياسية والأمنية، بحاجة إلى معالجة جذرية، تزيل كل الأسباب والعوامل المفضية إلى هذه المحن. ولن نجد ومن خلال تجارب العديد من الأمم والشعوب، أفضل من خيار المعالجة الحضارية لعلاج أزمات واقعنا وتحدياته، القائم على سيادة القانون وفسح المجال القانوني والسياسي لجميع قوى المجتمع للمشاركة في الحياة العامة، وتأسيس حياة سياسية وثقافية جديدة قوامها الديمقراطية والمواطنة المدنية المتساوية وصيانة حقوق الإنسان.
وبكلمة واحدة : فإن العدالة بكل مخزونها الرمزي والمعرفي، ومضمونها السياسي والاجتماعي، هي سبيلنا لتجاوز محن الغلو والعنف والإرهاب .
وعلى ضوء ما ذكر أعلاه ، نود التأكيد على النقاط التالية :
1ـ ضرورة إشاعة الوعي ، وبلورة المفاهيم والأفكار المضادة التي تحاول أن تغرس في نفوس الناشئة العربية قيما ومفاهيم تقف موقفا مضادا وصلبا ، ضد كل القيم والأفكار التي تشرع للعنف والجريمة والإرهاب . وفي هذا الإطار ، تتحمل وسائل الأعلام العربية مسؤولية كبرى في إشاعة قيم التسامح والإخاء والمحبة ، ونبذ أفكار العنف والقهر والإقصاء . وإن خلق منظومة معرفية عربية مضادة لقيم العنف والجريمة ، من الضرورات الوطنية القصوى ، لأنها تساهم مساهمة كبيرة في وأد ومحاربة أفكار العنف والتطرف . كما أنه لا يمكن أن نواجه الغزو الفكري ، الذي يتعرض له عالمنا العربي والإسلامي اليوم إلا ببيان منظومة الإسلام الفكرية والقيمية ، التي تزرع في نفس الإنسان وعقله روح التحدي وتحمل المسؤولية ، ومقاومة كل فكرة وافدة تشكل خطرا على عقيدة الإنسان المسلم .
2ـ إن مواجهة هذه الأمراض الفتاكة ، من عنف مستشري ، إلى جريمة منظمة تستهدف تخريب الاقتصاد ، إلى عصابات القتل والتدمير ، التي تقضي على الإنسان العربي ، وتنهي عقله وتحبس إرادته وقدرته . إن مواجهة كل هذه الأمراض ، ليست مسؤولية خاصة بقطاع دون آخر أو بمؤسسة دون أخرى ، وإنما هي مسؤولية الجميع كل من موقعه وخندقه الوطني ، ينبغي أن يمارس دورا ، فرعاية الأب لأبنه ومراقبته في سلوكه الاجتماعي ، ومنعه من مصادقة أصدقاء السوء لبنة من لبنات الدفاع الوطني القومي . كما أن رفع مستوى تعليم العائلة وتثقيف عناصرها بالثقافة السليمة من الواجبات الوطنية ، التي تحول دون استشراء هذه الأمراض .
3ـ إننا اليوم أحوج ما نكون إلى البرامج والأطر والإستراتيجيات الفعالة ، التي تعتني بطرق استيعاب الشباب ، وتأهيلهم نفسيا وثقافيا واجتماعيا ، للانخراط الإيجابي في شؤون مجتمعاتهم وأوطانهم . وذلك بفعل أن من الأخطار الجسيمة والتي تدفع بالشباب إلى الالتحاق بركب الانحراف والخروج عن الجادة ، هو الفراغ . وعدم اهتمام المؤسسات الرسمية والأهلية بهذا القطاع يشكل خطرا كبيرا ليس على الحاضر فحسب ، وإنما على المستقبل أيضا . لذلك فإن المطلوب دائما وفي كل الظروف العمل على تطوير مستويات استيعاب الشباب في برامج ترفيهية وعملية مفيدة وإيجابية للطرفين ، الشباب والمجال الاجتماعي العام . فكل مواطن عليه إبداع وسائل وأساليب الدفاع عن وطنه ، من المخاطر التي تهدد هذه الوطن في أعز ما يملك وهو الإنسان .
فالغيرية في العقائد والأفكار , لا تنفي حقوق المواطنة , بل تؤكدها . وليس من شروط المواطنة المطابقة في الأفكار والقناعات .
ومن يبحث عن المطابقة , فإنه لن يجدها . فالمواطنة بقيمها وهياكلها ومؤسساتها , هي الإبداع الإنساني لحفظ الحقوق , وصيانة المكاسب , وإدارة التنوع بعقلية حضارية وإدارة حكيمة . ومبدأ الولاء والبراء , لا يعني ممارسة العدوان والحرب على الآخرين , وإنما وجود موقف نفسي يحول دون تأثير الآخر ( المحارب والمعتدي ) على أخلاقنا ونسيجنا الاجتماعي..
وعليه فإننا نعترف بالاختلافات بكل مستوياتها , وندعو إلى احترام الخصوصيات , ولكننا نعتقد أن تحويل الاختلافات من مصدر قلق وحذر إلى مصدر للإثراء الثقافي والاجتماعي , بحاجة إلى تكريس قيم المواطنة في الفضاء الاجتماعي .. وذلك لأن المواطنة هي الوعاء القانوني والسياسي والدستوري الذي يستوعب كل المبادرات والخطوات , ويعمل على إدماج كل التنوعات في منظومة الحقوق والواجبات المتساوية . فالمواطنة هي الحد الفاصل بين كل الاختلافات والتباينات في الدائرة الاجتماعية والوطنية .
فالاختلاف مهما علا حجمه , لا يبرر الانتقاص من مواطنة الإنسان . والتعدد مهما اتسعت دوائره ومستوياته , يضبط بالمواطنة بواجب الوحدة والانسجام وبحق التعبير وتحمل المسؤولية والمشاركة في صناعة الحاضر وصياغة المستقبل . وهكذا يكون الآخر , مشروعا للتعارف والحوار والتواصل والتعاون والتنمية وتطوير الجوامع المشتركة .
ظاهرة العنف الديني.. مقاربة ثقافية
على المستوى التاريخي هناك ارتباط وتلازم بين حياة الإنسان في هذا الوجود وبين العنف بوصفه ظاهرة إنسانية.
لذلك نجد أن الملائكة أبدوا استغرابهم حينما أخبرهم الباري عزّ وجلّ بأنه سيخلق بشراً من طين، وأمرهم بالسجود له. ويسجل الذكر الحكيم عملية الاستغراب هذه بقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(1).
وقبل أن تعرف المجتمعات البشرية العنف والقتل، يروي لنا القرآن الحكيم كيف قتل قابيل أخاه هابيل، وما هي الظروف والحالة التي انتابت القاتل لكونه لم يعرف ماذا يصنع بجثة القتيل..
يقول تبارك وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)}(2).
واستمرت البشرية في ممارسة العنف بكل صوره وأشكاله في مختلف مراحلها وأطوارها التاريخية؛ بحيث إننا لا نجد حقبة من حقب التاريخ دون ظواهر العنف الفردي والجماعي، الرمزي والمادي.
لذلك هناك ترابط بين هذه الظاهرة وتاريخ الإنسان على وجه هذه البسيطة. هذا الترابط المتواصل عبر حقب التاريخ يدفعنا إلى التساؤل عن: ما هي الحوامل والحواضن الثقافية والمعرفية في حياة الإنسان، والتي تفرّخ العنف وتولّد ظواهر النبذ والإقصاء، وممارسة القوة العارية والخشنة في العلاقات الإنسانية.
والعنف الملازم لتاريخ الإنسان بنوعيه: المباشر؛ كالقتل والتعذيب والاعتداء والضرب، وغير المباشر؛ كالحرمان من الحقوق والازدراء والإكراه لتغيير الرأي أو المعتقد، والتمييز بكل صوره وما أشبه، كل هذا من مفردات حقيقة العنف الملازمة لتاريخ الإنسان. وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن العنف في الحياة الإنسانية قدر مقدر، وإنما هناك، وعبر التاريخ، إرادة ربانية وجهود إنسانية للحد من هذه الظاهرة، وضبطها في حياة الإنسان الفرد والجماعة؛ وذلك عبر التشريعات والنظم الإلهية والقوانين الإنسانية، التي عملت على ضبط هذه الظاهرة، ومنع حدوثها في العلاقات بين بني الإنسان.. لذلك يقول تبارك وتعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}(3).
وعلى المستوى الإنساني والعلمي، فإن كل العلوم الإنسانية ترى أن العنف بوصفه ظاهرة هو من اختصاصها واهتمامها؛ ففي الجانب الفسيولوجي يجري العمل والبحث عن معرفة العوامل والأسباب ذات الصلة بدافع الغضب الذي يتحول إلى عدوان أو إلى طاقة تدميرية؛ لذلك تعرف العدوانية على الصعيد الفسيولوجي، >أي في إطار نظرية الكيمياء الحيوية للانفعالات تندرج ضمن مفهومين مختلفين، فهناك من جهة العدوانية – الغيظ، والغضب أي السلوك العدواني في فترة الانفجار. وهناك من جهة ثانية العدوانية – الحقد، أي التوتر العدواني الدائم الكامن والمستمر
وفي الجانب السيكولوجي تم الاهتمام بمعرفة الأسباب الحقيقية والعميقة لظاهرة السلوك العنيف، والمؤثرات المفضية إليه، وتأثير وقائع الحياة الخاصة في ذلك. >كما عمدت بعض الدراسات النفسية إلى البحث عن الدوافع الحقيقية، أو الوهمية، التي تسيطر على إنسان في ساعة الغضب لمعرفة ما يرجع منها إلى اللاوعي، وما يرجع إلى المثير الخارجي. وإلى دراسة مشاعر الإحباط والقلق والانطواء، وعلاقتها بنشوء اتجاهات العنف والتدمير، وإلى الجهد الذي يبذله الإنسان لدفع العدوانية خارج ذاته من خلال إسقاط كل الشرور على الآخر لتبرير عدوانيتنا هذه. وكذلك فعلت الدراسات الاجتماعية على مستوى البحث عن العوامل الأسرية، والثقافية، والإعلامية التي تساعد على توفير بيئة العنف، بالإضافة إلى العلاقة بين العنف والانحراف، بين العنف والفقر، أو بين العنف والاضطهاد في داخل المجتمعات نفسها، أو في علاقة المجتمعات ببعضها
وفي الجانب السياسي يشغل العنف مكانة متميزة، حيث إن العلاقات الصراعية بين الأمم والشعوب وخيارات الحروب التي تلجأ إليها بعض الدول من أجل ضمان مصالحها أو توسيعها من خلال نهب ثروات الأمم الأخرى ومقدراتها. كل هذا يفضي إلى بروز ظاهرة العنف.
ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن الحقل السياسي من أبرز الحقول الإنسانية التي تبرز فيها ظاهرة العنف؛ لذلك يعمل علماء السياسة على تفكيك هذه الظاهرة وتحليلها من منظور سياسي استراتيجي.
وعلماء القانون من جانبهم يناقشون هذه الظاهرة، ويبحثون عن تأثيراتها على نظام الحقوق والقوانين المعمول بها.
وعلماء الاقتصاد يبحثون في ظاهرة ما يمكن تسميته بالعنف الاقتصادي وتأثيراته على حركة الإنتاج والتوزيع في المجتمع.
وعلى كل حال، فإن العنف بوصفه ظاهرة مجتمعية، عملت الكثير من الاختصاصات العلمية على دراستها وتحليلها وتفكيكها علمياً، وسبر أغوارها ببحوث متواصلة.
ويبدو من جميع المعطيات أن إنهاء هذه الظاهرة أو ضبطها في الحياة الإنسانية، لا يتأتى إلا بمعرفتها، وإدراك آليات عملها، وتموجاتها المتعددة.
لذلك -ومن هذا المنطق- نتساءل عن: ما هي الحوامل الثقافية لظاهرة العنف في المجال العربي؟ بإمكاننا أن نحدد الحوامل الثقافية لهذه الظاهرة أو الآفة الخطيرة من خلال النقاط التالية:
1- الفهم الضيق والحرفي لقيم الدين ومقاصده :
حينما يتم التعامل مع قيم الدين ومبادئه ومقاصده بعقلية متحجرة ورؤية أُحادية ضيقة، فإن هذه القيم تتحول في هذا الفهم أو في هذه الرؤية من مصدر للرحمة والتسامح وصيانة الحقوق إلى محفز ومحرض لممارسة العسف والغلظة والشدة ضد الآخرين.
فالفهم الضيق لقيم الدين وتشريعاته يقود إلى ضيق الصدر بالمختلفين والمغايرين، وهذا من جهته يؤدي إلى تأسيس الشروط النفسية والثقافية لممارسة الإكراه والعنف تجاههما.
فلا نجانب الصواب حين القول: >إن للمعرفة وطريقة التعامل معها دوراً واضحاً وأثراً كبيراً في توليد بعض أشكال العنف؛ حيث إن بعض الآفات الطارئة على الصعيد المعرفي، مثل الجزمية الفكرية، والتعصب والتصلب المعرفي، يفضي بأصحابها إلى اتخاذ مواقف عنيفة صارمة من كل معارض. ويحدث هذا النوع من المعرفة حالة التشدد والتطرف، ويسبب عدم إطاقة صاحبها لأي تعددية علمية، واختلاف اجتهادي يمثل أمراً طبيعياً جداً في المناخ الصحي والأجواء السليمة في تعاطي المعرفة والاجتهاد الحر المقونن
ولو تأملنا في طبيعة تشكل النواة الأولى لظاهرة العنف على هذا الصعيد، لرأينا أن الفهم الأحادي المغلق لمبادئ الدين ومثله العليا هو الذي يسمح لنا بإطلاق التهم والأوصاف المذمومة على المختلفين والمغايرين، وإلصاق تهمة الفسق والضلالة أو الكفر والإلحاد بحقهم.
إن هذه العملية هي البذور الثقافية الأولى التي تشرع للعنف والإقصاء ضد الآخرين.
فالرؤية الضيقة والأحادية للدين هي التي تدفع أصحابها إلى إرغام الآخرين على تبني هذه الرؤية. وهذه المسألة، بمتوالياتها وتأثيراتها المتعددة، قد شوهت صورة الإسلام وسمعته، ولا يمكن مواجهة هؤلاء بشكل فعال إلا برفع الغطاء الديني عنهم، وكشفهم على هذا الصعيد.
فالتفسير الديني المتطرف هو أحد الحوامل الثقافية والمعرفية لظاهرة العنف؛ وذلك لأنه حينما .. لا نحتمل رأي الآخر، أو تفنيده والرد عليه، وعندما نعجز عن إقناعه بما نريد، نلجأ إلى الاعتداء عليه، أو إلى قتله إذا كنا نملك مصادر السلطة أو القوة، أو إذا كنا لا نخشى القانون الذي يمنع عن مثل ذلك الاعتداء أو يعاقب عليه. وعندما لا تحتمل دولة ما سياسة دولة أخرى، تشن عليها حرباً، أو تقوم بمحاصرتها والتضييق عليها اقتصادياً وسياسياً لإلغاء مصادر قوتها، وعناصر ممانعتها. وعندما لا يمتثل الطفل لأوامرنا نوسعه ضرباً، وعندما يجرؤ أحد على انتقاد هذا النظام أو ذاك، يزج به في السجن، أو يفقد عمله، أو يقوم أحد باغتياله. وعندما يختلف عرق الآخر أو لونه، يتعرض للتمييز أو للكراهية أو للاحتقار والتهميش. ولقد دفعت البشرية، كما هو معروف، أثماناً باهظة جراء هذا العنف الذي مارسته مجتمعات، وحكومات، وجيوش على شعوب بأكملها
2- التعصب الأعمى للذات وأفكارها :
حينما نقوم بتحليل ظاهرة العنف من المنظور الثقافي، نكتشف أن التعصب الأعمى للذات وقناعاتها وأفكارها وتصوراتها، هو الأرض الخصبة التي تنمو فيها كل أشكال العنف واستخدام القوة في العلاقات الإنسانية.
والتعصب هنا لا يعني الرفض العلمي والرصين لقناعات الآخرين واختياراتهم السياسة والمجتمعية، وإنما هو >حالة معرفية تنطوي فيها الذات على ما أدركته، وترفض أن ترى سواه، أو تمنح غيره حق الوجود، ما تؤمن به الذات دون مراجعة أشبه بوجودها نفسه.
وَضْعٌ من الاكتفاء الذاتي الذي يستغني عن كل ما عداه ولا يتقبل أي مغاير له. وبقدر ما تنطوي الذات على إيمان مطلق بما تراه في هذه الحالة المعرفية، فإن إيمانها به يتضمن معنى الإطلاق الذي ينفي نسبية المعرفة وإمكان الخطأ.
فالمعرفة التي تنطوي عليها هذه الذات معرفة اليقين الذي لا يقبل الخطأ أو يعترف به، والاكتفاء الذي لا يتصور الزيادة أو يقرها، والتصديق الذي لا يقبل السؤال، أو يسمح له بالوجود، والجزم الذي يرفض الشك، ويرى فيه مظهراً للنقص. إنها معرفة الإجابات المحسومة ابتداءً، المدركة سلفاً، معرفة النهايات المغلقة، والأفق المنطوي على ما فيه، والبعد الواحد، إنها معرفة حدية، إطلاقية، يقينية، وحيدة الاتجاه، لا تعرف الحوار أو السؤال أو التشكك. وحضورها الذاتي مكتف بنفسه، بعيداً عن حضرة الآخر الذي لا يسهم في وجودها، ولا يملك سوى أن يتقبلها تقبل السلب ..
وبفعل هذا النمط من التعاطي مع الشأن الثقافي والمجتمعي، تُقمع الاجتهادات، ويسود سوء الظن، وتحاكم النوايا، ويضمحل الفكر الجاد، وتخبو أطر الحوار وفرصه، وتسود قيم العنف والقتل والاغتيال الجسدي والمعنوي.
وبالتالي؛ فإن حمل الناس على الفهم الواحد والرأي الواحد، يناقض حقيقة الاجتهاد والنواميس الكونية فيما يرتبط بالاختلاف البشري.
فالتعصب الأعمى الذي يُبقي كل طرف منغلقاً على ذاته، ومتشبثاً حد الهوس بقناعاته، هو الذي يولد مناخ العنف وثقافته والآراء التي تسوِّغ القتل والاغتيال لاختلاف في الفكرة أو الموقف، وهو الذي لا يفضي إلا إلى النبذ والإقصاء والعنف. وحيثما ذهبت ستجد أن خلف كل عنف تعصباً أعمى للذات أو أفكارها وقناعاتها. لذلك فإن التعصب -بما هو حالة معرفية- هو أحد الحوامل الثقافية لظاهرة العنف في المجال العربي.
3- إطلاق الأحكام الكاسحة على الآخر :
دائماً الحكم المطلق الكاسح (في أي تجاه كان) يصادر الحقيقة، ويُشرِّع لعملية إقصاء الآخر وجوداً ورأياً.
فهو نسق يحرم على الآخرين المشاركة في صنع الحقيقة والمعرفة، ويصادر منهم الحق في الاختلاف. له وحده (صاحب النسق المطلق) الحق في أن يخالفهم، وليس للآخرين أي حق في إبداء رأي مخالف له.
وحين يسود هذا النسق أيَّ واقع اجتماعي، فإنه تستباح الحقيقة، ويُزيَّف الواقع، وتنتهك السمعة والكرامة، ويرجم أصحاب الرأي المخالف؛ لأن الأحكام المطلقة في العلاقات الإنسانية، تجعل صاحبها منفصلاً بشكل دائم عن الذات ومسوِّغاً لكل ما يصدر عنها، والنقد المطلق لغيره، واتهامه وتجريحه في كل ما يصدر عنه.
فالنسق الثقافي الذي لا يؤمن بنسبية الحقيقة، ويتعاطى مع نفسه بوصفه مالكاً وقابضاً وحده على الحقيقة، هذا النسق الإطلاقي يترجم نفسه عبر نبذ الآخر المختلف، واتهامه بأشنع التهم، ويصادر حق الآخرين في الاختلاف في التصور والرأي والموقف.
ولا ريب أن هذا السياق والنسق، من الحواضن الثقافية لظاهرة الإقصاء والعنف؛ فالأحكام المطلقة والكاسحة لا تنتج إلا ثقافة حدية، عنفية، تسوغ لصاحبها إطلاق الأحكام المعيارية على الآخرين. فامتلاكك للحقيقة لا يشرع لك -بأي حال من الأحوال- ممارسة الجبر والإلزام والإكراه لإقناع الآخرين.
من هنا وقفت النصوص القرآنية ضد الإكراه والسيطرة، ودعت رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التحرك في أجواء الإبلاغ والإقناع بعيداً عن الجبر والسيطرة؛ إذ قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}(5)، وقال عزّ من قائل: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)}(6)، وقال تبارك وتعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(7).
فالوظيفة الكبرى هي هداية البشر، بوسائل عقلية، سلمية، بعيدة كل البعد عن كل أشكال الضغط والإكراه والجبر.
ولقد فك الأنبياء جميعاً العلاقة بين الفكر والعنف، فحرروا معركة الأفكار من معركة الأجساد، والله تعالى حمى الأجساد من أن يعتدى عليها من أجل الأفكار، فلم يعط لأحد الحق على جسد الآخر مهما كانت فكرته (12).
وفي سبيل نيل الحقوق والحريات، لم يشرع الله سبحانه وتعالى للأنبياء ممارسة الإجبار والإكراه، وإنما حدد وظيفتهم في الدعوة بالموعظة الحسنة والإنذار والتبشير.
فالحضارات لا تبنى بالإكراه، كما أن الأفكار لا تنتقل بالقسر والقهر. فما أكثر الإمبراطوريات التي انهارت وتلاشت، وأصبحت في ذمة التاريخ بفعل اعتمادها واستنادها على القهر والإكراه.
فالنسق الإطلاقي يعتمد في تعميم معرفته وأفكاره على الفرض والإكراه. ولا ريب أن هذا النسق من الحوامل الثقافية لظاهرة العنف.
فالعنف صنو الإكراه، والجبر قرين الإقصاء، ولا يمكن مواجهة العنف إلا بمواجهة أفكار الإكراه وثقافة الجبر والقهر والإلزام القسري.
4- الانغلاق الثقافي
لا شك أن النزوع إلى الانغلاق، والانكفاء الثقافي والمعرفي، بصرف النظر عن دوافعه، يفضي إلى العديد من المشكلات والأزمات في دوائر الحياة المختلفة، وذلك لأن خيار الانغلاق هو من الخيارات المأزومة، والتي تحمل علة إخفاقها في أحشائها؛ وذلك لأنها لا تراعي متطلبات العصر، وحاجاتنا إلى التفاعل مع منجزات الحضارة الحديثة ومكاسبها.
لذلك فإن الانغلاق الثقافي يدفع بأهله وأصحابه إلى الارتماء في هوة التعصب والعنف. فوهم المطابقة والانكفاء مميت للثقافة، ولا حياة ثقافية حقيقية دون أفق التواصل والتفاعل مع الثقافات الإنسانية الأخرى. وأية ثقافة تطرد من واقعها هذا الأفق بتأثيراته وممكناته ومتطلباته، فإنها ثقافة لا تاريخية، ولا تستطيع أن تبلور ثقافة ذاتية أصيلة أو تنشئها.
فتنمية أفق التواصل والانفتاح والتفاعل الثقافي هو شرط الأصالة والمعاصرة معاً. فلا أصالة إلا بجوهر التواصل والانفتاح الثقافي، كما أن المعاصرة لا تتحقق في السياق التاريخي والاجتماعي إلا بالتحرر من خيار الانكفاء والانزواء والانغلاق.
لذلك، فإن الانغلاق الثقافي وغياب مستويات التواصل الثقافي والمعرفي مع الثقافات الإنسانية الأخرى يفضي إلى تبني مواقف حاسمة وحادة من التفاعل الإيجابي مع الثقافات والمعارف الأخرى. هذه المواقف تؤسس لرفض عنيف لبعض الشرائح ومكونات المجتمع التي تتواصل وتتفاعل مع الثقافات الإنسانية.
فالانغلاق الثقافي، وعبر متوالياته النفسية والسلوكية، يساهم في توليد ظاهرة العنف وتجذير حالة المفاصلة الشعورية والعملية بين المختلفين والمغايرين.
فالبنية الثقافية المغلقة، والتي تتعامل مع مفرداتها وجزئياتها بنوع من الجزم والإطلاق والدوغمائية، هي مولدة لظاهرة العنف. وذلك لأنها لا ترى للآخرين من حظ في امتلاك الحق أو حيازة الحقيقة. وبالتالي فإن الانغلاق الثقافي، يعني فيما يعني رفض الآخر وعدم احترام التعدد والاختلاف.
ومن المؤكد أن من جذور التطرف وحوامل العنف رفض الآخر وعدم قبوله فكراً ووجوداً. فأهل العنف يتشددون في تمسكهم بما تَأَدَّى إليه فهمهم، ويرون دائماً أن ما عندهم هو الحق الذي لا خلاف فيه، وأن ما عند غيرهم هو الباطل الذي لا خلاف فيه. وعلى أساس هذا الفهم والإدراك، هم يرسمون مواقع جديدة تستنزف جهودهم وطاقاتهم.
وإن مواجهة هذه الحوامل وتأثيراتها المتعددة تتطلب العمل على تفكيك هذه البنى الثقافية والمعرفية، وممارسة النقد الجاد الحقيقي للمفاهيم الأساسية التي تستند إليها، وبناء منهجيات فكرية ومعرفية جديدة، وصياغة الفضاء الاجتماعي والثقافي على أسس التعددية والحوار والتسامح وحقوق الإنسان.
* التحليل الثقافي لظاهرة العنف الديني
مفتتح :
حين التأمل في الظواهر الإنسانية , نجدها دائما وليدة عوامل وأسباب مركبة ومتداخلة مع بعضها البعض , وتتطلب أكثر من منهجية معرفية لدراسة وتفسير هذه الظاهرة .
ولعل من أبرز الظواهر التي برزت في الآونة الأخيرة في واقعنا العربي والإسلامي , هي ظاهرة استخدام العنف لأغراض دينية أو لبواعث دينية .
فأضحت لدينا ظاهرة ما يمكن تسميتها بالعنف الديني . والمقصود بها هي مجموع الممارسات العنفية المعنوية والمادية والتي يمارسها الآحاد أو المجموع لبواعث دينية ومن أجل غايات وأهداف دينية .
ولا ريب أن أسباب وعوامل نشوء هذه الظاهرة , هي أسباب وعوامل متداخلة مع بعضها البعض . فثمة أسباب ثقافية وعوامل سياسية وبواعث أيدلوجية كلها مع غيرها , ساهمت في إنتاج وتوليد ظاهرة العنف الديني في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة . ولكونها ظاهرة إلى منهجية متكاملة وواسعة لقراءة هذه الظاهرة وتفسيرها التفسير الصحيح . لأننا نعتقد أن التفسير الصحيح للظواهر الإنسانية , هو الذي يقودنا إلى معالجات صحيحة وسليمة .
وإن الارتباك والتخبط على مستوى الحلول والمعالجة .
لذلك ثمة ضرورات معرفية واجتماعية وثقافية , للاعتناء ببناء تفسيرات دقيقة لكل الظواهر الإنسانية أو السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية , التي تبرز في واقعنا ومجتمعاتنا .
وتأسيسا على هذه القناعة العميقة , نحن نعمل في هذه الدراسة على تحليل وتفسير ظاهرة العنف الديني من زاوية ثقافية . بمعنى كيف نقرأ ظاهرة العنف الديني ثقافيا , وكيف تفسر المنظومات الثقافية ظاهرة استخدام العنف بكل مستوياته ببواعث وغايات دينية .
واستخدام مصطلح [ ديني ] , لا يعني هنا ألبته , أن قيم الدين الأساسية والجوهرية , هي التي تحرص على ممارسة العنف , وإنما المقصود أنه ثمة قراءات وتفسيرات لقيم الدين تشرع ممارسة العنف ضد المختلف والمغاير . فربط العنف بالديني هنا المقصود به هو أن بعض أشكال التدين المغيوش هو الذي يحرص على العنف ويسوغ استخدامه .
محاولة للفهم
وقبل الدخول في صلب الموضوع من الضروري القول : إننا ضد كل أنواع العنف والإرهاب ، لأنها من الوسائل التي لا تنسجم وقيمنا الإسلامية وأعرافنا الإنسانية وتقاليدنا العربية .. لهذا فإننا ننظر إلى ظاهرة العنف و الإرهاب ، بوصفها ظاهرة مرضية خطيرة ، ينبغي أن تدان من جميع الأطراف ، ولا بد أن يعمل الجميع من أجل تفكيك موجباتها وإنهاء أسبابها المباشرة وغير المباشرة ، مع يقظة أمنية وحزم أمني تجاه كل من يعبث بأمن الناس ومصالحهم المختلفة..
ولكن رفضنا لهذه الظاهرة الخطيرة ، لا يعني التغافل عن أهمية العمل لبناء تصور وتفسير علمي لهذه الظاهرة ..لأن التفسير الصحيح لهذه الظاهرة بكل ملابساتها ، هو الخطوة الأولى في مشروع مواجهتها والقدرة على إنهاءها والتغلب عليها ..
فنحن في الوقت الذي نرفض هذه الظاهرة ، ونحارب كل أشكالها ومستوياتها ، في ذات الوقت نشعر بأهمية العمل على خلق تصور صحيح عن أسباب هذه الظاهرة وعواملها المباشرة ، التي تفضي إلى خلق المزيد من الإرهابيين أو تمدد ظاهرة العنف الديني ، حيث تستخدم وسائل القتل والتدمير والتفجير تحت عناوين ويافطات دينية ..
والذي يؤكد أهمية العمل على بناء تصور صحيح لهذه الظاهرة ، هو حتى لا نبتعد عن أسبابها وموجباتها الحقيقية.. فحينما يحدث حدث إرهابي أو عنفي في أي دولة عربية وإسلامية ، تبدأ الأصوات المتهمة للخارج بالبروز مع تغافل تام عن احتمال أن هناك عوامل أو أسباب مستوطنة في البيئة الداخلية هي التي تنتج هذه الظاهرة ، وتمدها بكل أسباب الاستمرار والحياة ..
فالخطاب الدوغمائي والتبريري الذي يتهم الخارج دون التفكير في البيئة الداخلية ، هو خطاب يساهم في تزييف وعينا تجاه هذه الظاهرة الخطيرة ..
ونحن هنا لا ننفي دور الخارج التخريبي والإرهابي ، ولكن ينبغي أن لا يكون هو الشماعة التي نعلق عليها كل خيباتنا وإخفاقنا وعيوبنا ..
القرآن الكريم يعلمنا إنه إزاء كل ظاهرة سلبية ومرضية تصيب واقعنا وبيئتنا الاجتماعية وقبل أن نفكر في العوامل والأسباب الخارجية ، التي أوجدت هذا المرض أو تلك المشكلة ، أن نوجه نظرنا وتفكيرنا إلى الأسباب والعوامل الداخلية التي ساهمت في صنع هذه المشكلة أو ذلك المرض .. إذ يقول تبارك وتعالى [أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ]( سورة آل عمران 165 ) فما يعيشه العالم العربي من انفجار لهوياته الفرعية وتشظيه بعناوين طائفية ومذهبية وقبلية وجهوية ، هو نتاج طبيعي لبعض الخيارات السياسية والاجتماعية التي سادت في العالم العربي ، وعملت عبر وسائل قهرية لتغييب حقيقة التعددية الموجودة في المنطقة العربية ..
إن تغييب حقائق المجتمعات العربية بطريقة عنفية – قسرية ،هو المسئول الأول عن ما يشهده العالم العربي من نزاعات واحتقانات وتوترات ذات طابع فئوي أو طائفي أو جهوي.
والخارج هنا ليس محايدا أو بعيدا عن استثمار هذا الواقع لصالح أهدافه ومخططاته في المنطقة .. ولكن هذه الخيارات السياسية الخاطئة الشوفينية هي التي هيأت الأرضية الاجتماعية لبروز توترات وأزمات أفقية وعمودية في الواقع العربي ، عمل الخارج بدهائه ومؤامراته وأجهزته الأمنية المختلفة لاستثمار هذا الوضع ،والعمل على إذكاءه بما يناسب مصالحه وخططه الاستراتيجية في المنطقة العربية ..
فعمليات العنف الديني التي تجري في أكثر من قطر وبلد عربي ، هي من صنع بيئتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية ، وإن الصراخ الدائم باتجاه الخارج ، وكأن بيئتنا العربية خالية من هذه النزعة ، وبعيدة عن أمراضها وحواملها ، لا يساهم في توفير القدرة العربية على المواجهة الحقيقية لهذه الآفة الخطيرة التي تهدد العديد من بلداننا العربية في أمنها الوطني ونسيجها الاجتماعي واستقرارها السياسي ..
فالذي يفجر الكنائس في العراق أو مصر أو أي بلد عربي آخر ، ليس هو الأجنبي ، وإنما هو التيار العنفي – التكفيري الذي بدأ بالبروز في العالم العربي ..
والذي يقتل الناس في العراق على الهوية ، ويدمر دور العبادة ،ويستهدف الأبرياء في الأسواق والمنتزهات ، ليس هو الأجنبي ،وإنما هي الفئة الإرهابية المغالية في الدين ، والتي تمارس كل فنون القتل باسم الدين والدفاع عن مقدساته ..
العنف والتطرف أية علاقة
فالعنف الديني في المنطقة العربية ، هو نتيجة طبيعية لظاهرة الغلو والتطرف الديني .. وإن من يحارب العنف والإرهاب ، دون محاربة الغلو والتطرف ، فإنه لن يصل إلى نتائج حاسمة على هذا الصعيد .. لأن خيار الغلو والتطرف سيخلق المزيد من الإرهابيين .. ومن يسعى إلى محاربة الإرهابيين ، فعليه مواجهة أسبابه وحوامله وموجباته الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية .. لهذا فإننا نعتقد وبعمق ، أن فهم ظاهرة العنف والإرهاب بشكل صحيح وسليم ، هو الخطوة الأولى في مشروع مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة على حاضرنا ومستقبلنا..
فنحن ندين تفجير الكنائس والمساجد ودور العبادة ، كما ندين قتل الأبرياء أنى كانوا .. ولكن الإدانة والاستنكار بوحدهما ، لا ينهيان هذه الظاهرة ، بل سيستمر أهل العنف بعنفهم وأهل الإرهاب بإرهابهم ، لأن الإدانة بوحدها لن تغير من المناهج الثقافية والدينية التي تخلق الإرهابي ، ولأن الاستنكار بوحده لن يحول دون استمرار قافلة الإرهابيين من القتل والتفجير ..
فالاستنكار بوحده لا يكفي ، واتهام الخارج بهذه الأعمال ، يزيف الوعي ويساهم في غبش الرؤية واختلال نظام الأولويات ويحول دون العمل الصحيح لمعالجة هذه الظاهرة .. وأكرر هنا إنني لا أبرأ الخارج من هذه الأعمال فهو يوظفها لصالح مخططاته ومصالحه ..
التحالف الموضوعي
أي هناك مصلحة موضوعية وتحالف موضوعي بين القائمين بأعمال العنف والإرهاب في العالم العربي ، وبين الدوائر السياسية والأمنية للدول الكبرى .. حيث أن عمليات العنف والإرهاب ، تساهم في تفكيك النسيج الاجتماعي في العالم العربي ، وتزيد من محنه الداخلية وتوتراته بين مختلف مكوناته وتعبيراته .. ومن مصلحة الخارج أن يوسع من هذه التوترات ، ويضغط على العالم العربي في ملفات إستراتيجية وحساسة وهو يعاني الأزمات الداخلية المستعصية .. لهذا فهناك ما يشبه تبادل الخدمات بين الأطراف الدولية التي لها أجندة ومخططات سياسية وإستراتيجية في المنطقة والجماعات الإرهابية التي تمارس العنف والإرهاب باتجاهات مختلفة ، مما يزيد من التوترات والأزمات ، ويوسع من ثغرات الداخل العربي ..
فالتخادم الموضوعي المتبادل بين القوى الأجنبية وقوى الإرهاب والتطرف والعنف في المنطقة ، ينبغي أن يقودنا جمعيا للعمل على تطوير الأوضاع السياسية والقانونية والاقتصادية في مجتمعاتنا العربية ، حتى نتمكن من تحصين الأوضاع الداخلية العربية وفق أسس صلبة ، تحول دون تحقيق اختراقات أمنية سواء أجنبية أو إرهابية ..
فإصلاح الأوضاع وتطوير الحياة السياسية في كل بلد عربي هو الطريق الأسلم لإنهاء مخاطر العنف الديني في العالم العربي ..
ايدولوجيا العنف
لعلنا لا نجانب الصواب ، حين القول : أن كل نزعة أيدلوجية منغلقة ، هي بالضرورة صانعة أو حاضنة للتعصب ، وطرد المختلف ، ونبذ المغاير .. لأن النزعات الأيدلوجية المنغلقة بطبيعتها ووفق بنيتها الداخلية ، لا ترى الحق والحقيقة إلا لديها ، ولا يتسع عقلها وقلبها وحسها ، إلى مشروعات أو نظريات مغايرة أو مختلفة معها .. لذلك ثمة صلة عميقة تربط النزعات الأيدلوجية المغلقة بصرف النظر عن مضمونها وآفة التعصب الأعمى وكل مخزونها العدائي والإقصائي للآخرين ..
فالنزعات الأيدلوجية المغلقة الدينية أو الوضعية ، تكون ممهدة وراعية لكل النزعات التعصبية التي تنشأ إما من قلب هذه النزعات الأيدلوجية أو على ضفافها وهامشها ..وعليه فان هذه النزعات الأيدلوجية حينما حكمت وسادت في الفضاء الاجتماعي والسياسي ، فإنها استخدمت أدوات الدولة ومقدرات السلطة لتعميم قناعاتها ونظامها الفكري ، ومارست كل أشكال الحيف والقهر والظلم بحق كل الوجودات الاجتماعية المغايرة لها أو غير المنسجمة معها سواء على مستوى الأصول أو مستوى الفروع .. وذات الممارسة والسلوك ، مارست النزعات الأيدلوجية الدينية المغلقة والدوغمائية ، فإنها حولت الدين ومنظومته المعيارية كغطاء ومسوغ لطرد المختلفين معها ونبذ المتمايزين مع تفسيرها وقناعاتها المركزية والفرعية .. وما تمارسه الجماعات الأيدلوجية الدينية المغلقة والتعصبية من تكفير الناس وقتلهم والتفنن في إيذائهم المادي والمعنوي ، ما هو إلا تجسيد عملي للقناعة الفكرية الآنفة الذكر . أن كل منظومة أيدلوجية مغلقة بصرف النظر عن جوهرها الفكري ، هي بالضرورة صانعة للتعصب ، ومشجعة للمفاصلة الشعورية والعملية مع المختلفين مهما كانت درجة الاختلاف والتباين .. لأن المنظومات الفكرية المغلقة ، لا ترحب بالتعدد ، وتنبذ الاختلاف ، وتحارب ثقافة السؤال ، وترفض النقد والمراجعة .. وتغطي كل هذه الممارسات الشائنة بعقلية تعصبية ، تظهرهم وكأنهم الأحرص على قيم المجتمع والأمة ، وهم على المستوى العملي أول من ينتهك قولا وفعلا قيم الأمة والمجتمع .. لذلك فإننا نعتقد أن مواجهة ظاهرة التعصب الأعمى للذات وقناعاتها وتاريخها وأفكارها ، يتطلب رفض كل النزعات الأيدلوجية المغلقة سواء كانت حاكمة أو محكومة ، لأنها نزعات تستدعي كل أشكال التعصب ، وتمدها باستمرار بكل أسباب الحيوية والفعالية والاشتغال ..
لذلك لا يمكن محاربة ظاهرة التعصب ، إلا بالوقوف بوعي ضد كل النزعات الأيدلوجية المغلقة ، التي لا ترى إلا ذاتها وجماعتها ولا يتسع منطقها لمنطق التعدد والتنوع والانفتاح ..لذلك هي تحارب كل هذه القيم ، لأنها قيما مضادة لنهجها ومسيرتها الأيدلوجية والاجتماعية ..
المفارقة المعرفية
وحينما نرفض النزعات الأيدلوجية المنغلقة ، فإننا لا نرفض فكرة الالتزام الأيدلوجي ، لأنها بشكل عام من الحاجات الضرورية للإنسان ، بحيث من الصعوبة أن نجد إنسانا بدون منظومة أيدلوجية تشكل بالنسبة إليه هي معيار الخير والشر ، ومرجعيته الأخلاقية والسلوكية في الحياة .. ولكن ما نرفضه هي النزعات الأيدلوجية ، التي تتعامل مع قناعاتها وأفكارها بوصفها ، هي طوق النجاة والنجاح الوحيد ، وتمارس القهر والعسف لتعميم هذه القناعات والأفكار ، وتتعامل معها أي الأفكار والقناعات بوصفها متعالية على الزمان والمكان وغير خاضعة لشروطهما ومقتضياتهما .. فيتم التعامل مع قناعات الذات وكأنها حقائق علمية نهائية ، ليست قابلة للفحص والمراجعة والنقد ..
والذي يتجاوز أو يرفض هذه القناعات فكأنه تجاوز الحق إلى الباطل ، لذلك فهو سواء كان فردا أو جماعة ، يحارب في وجوده وحقوقه المعنوية والمادية ..
لذلك على المستوى المعرفي والاجتماعي ، العلاقة جد عميقة ووطيدة بين الأفكار والقناعات الدوغمائية المغلقة سواء كانت هذه الأفكار دينية أو دنيوية ، سماوية أو وضعية وبين ظاهرة التعصب ..
فالإنسان الذي يرى أن أفكاره تساوي الحق والحقيقة ، فإنه سيتعصب لها ويحارب من أجلها ، ويحدد موقفه من الآخرين انطلاقا من موقف هؤلاء من أفكاره وقناعاته .. ولا ريب أن هذه الممارسة التعصبية ، تتجاوز قيمة الالتزام .. فالإنسان من حقه أن يلتزم بأي فكرة أو نظرية أو أيدلوجيا ، ولكن ليس من حقه أن يتعامل مع أفكاره بوصفها هي الحقيقة الوجودية النهائية ، والتي يخالفها ، يخالف الحق ، وينصر الباطل ..
وإن الخيط الدقيق الذي يفصل بين الالتزام الأيدلوجي والتعصب الأيدلوجي المقيت ، هو حينما يمارس الفرض والقهر والحرب لتعميم أفكاره وقناعاته .. فحينما يمارس العنف بكل أشكاله ، لتعميم قناعاته فهو يتجاوز حدود الالتزام الطبيعي ، أما إذا اعتز الإنسان بأفكاره ، وعمل على تعميمها بوسائل سلمية – طبيعية ، وتعامل مع قناعاته بوصفها حقائق نسبية قابلة للصح وقابلة للخطأ في آن ، فإنه يمارس التزامه الطبيعي ، وهذا بطبيعة الحال من الحقوق الطبيعية لأي إنسان ..
من هنا فإننا أحوج ما نكون اليوم ، إلى خطاب ديني واجتماعي منفتح وإنساني وينبذ العنف ويحارب التعصب بكل أشكاله ..
لأن هذا الخطاب هو القادر على تدوير الزوايا ، وتنمية المساحات المشتركة بين جميع الأطراف والأطياف ، ويحول دون عسكرة المجتمعات واندفاعها صوب العنف وممارسته ..
لذلك فإننا نعتقد أن الخطاب الديني – الإنساني والمنفتح والمتسامح هو أحد ضرورات ومتطلبات انجاز وتعزيز الأمن الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الإسلامية المعاصرة ..
الواقع و ثقافة الاستئصال
كما ذكرنا أعلاه يعيش الواقع العربي اليوم , محنة جديدة و خطيرة , و تهدد الأمن و الاستقرار في جميع دول المنطقة إذ انتقلت الأحداث و التطورات من مرحلة انفجار الهويات الفرعية بكل تضاريسها وزخمها إلى مرحلة انفجار المجتمعات العربية ودخولها في مرحلة جديدة على مختلف الصعد والمستويات . فالجغرافيا السياسية لدول العالم العربي مهددة بالتغيير ليس لصالح مشروع وحدوي أكبر , وإنما للمزيد من التفتت والتشظي . والخطير في الأمر أن الذي يقود ويصنع هذه التطورات مجموعات إرهابية , عنفية , استئصاليه , توظف قيم الدين و شعاراته المتعددة لخدمة مشروعهم التكفيري , النبذي لكل ما عداهم .
و أمام هذه المرحلة الخطيرة التي تعيشها بعض دول العالم العربي , و تهدد بشررها و تأثيراتها استقرار و أمن كل الدول و المنطقة نود التأكيد على النقاط التالية :
1-إن الإرهاب و جماعاته و العنف و أحزابه , ليس هو الطريق السليم لتحسين الأوضاع السياسية أو تغيير المعادلات القائمة . لأن جماعات الإرهاب تقتل و تمارس العنف و الإرهاب بدون أفق سياسي , ومن يقبل أن تقوده هذه الجماعات العمياء , فإن مآله المزيد من المآزق و الأزمات و التوترات .
و المجتمعات التي تبتلي بوجود جماعات العنف و الإرهاب بينها , فإنها ستعاني الكثير من الويلات والاستحقاقات التي لا تنسجم وطبيعة حياتها وأولوياتها .
2- إن جماعات الفصل و الاستئصال بتكوينها الايدولوجي و أفقها الثقافي , ليست قادرة على إنجاز الاستقرار السياسي و الاجتماعي لمجتمعاتها , لأنها جماعات لا تبحث عن مشتركات و مساحات مشتركة للتفاهم و التلاقي مع المختلف و المغاير , و إنما تجعل الجميع محل الدعوة و الفرض و القسر للإيمان بخطابها وأيدلوجيتها . فهي جماعات لا ترى إلا ذاتها , ولا تتصور الآخرين إلا في موضع القبول بدعوتها و خطابها أو في موقع الخصم الذي ينبغي محاربته .
و هكذا جماعات لا تبني استقرارا , ولا تصون مجتمعات و مصالح.
فجماعات العنف و الإرهاب لا صديق لها , ومن يعتقد أن المصلحة الموضوعية له التقت مع الجماعات الإرهابية و يراهن على هذا الالتقاء , فإنه لن يحصد من هذا الالتقاء إلا المزيد من الأزمات و المشاكل .. فجماعات الإرهاب مثل النار , إذا لم تجد ما تأكله سوف تأكل محيطها القريب وحاضنها الاجتماعي أو السياسي . فلا أمان و أمن مع جماعات العنف والإرهاب , لأنها بطبعها تغدر و تفجر ولا تبحث إلا عن مصالحها الضيقة .
و هي دائما مصالح لا تتعدى حدود هذه الجماعات وفي بعض الأحيان لا تتعدى حدود رأي الزعيم الديني لهذه الجماعات ..
3- تمر علينا هذه الأيام ذكرى مرور مائة عام على الحرب العالمية الأولى , التي دفعت فيه البشرية ملايين القتلى و الجرحى . و تجربة هذه الحرب ـ الكارثة ومتوالياتها السياسية و الأمنية و الاقتصادية و الاجتماعية , تؤكد و بشكل لا لبس فيه . أن سفك الدم و إشاعة القتل و التدمير , لا ينفع أحدا و إن الناس إذا لم يبادروا لمقاومة نزعات القتل و التدمير , فإن هذه النزعات ستصل إليهم وتهدد مصالحهم و مكاسبهم . و المعادلات السياسية والاجتماعية , التي تبنى على قاعدة القتل والتدمير لن تستقر على حال . لأن الدم يستدعي الدم , و القتل يقود إلى القتل , وهكذا يخضع الجميع في دوامة العنف العبثي الذي يدمر الأوطان , ولا يبقى مجالا للفهم و التفاهم وتطوير نظام الشراكة بين الناس . فمن يسعى إلى تحسين ظروفه السياسية و الاقتصادية والاجتماعية , فعليه أن لا يتوسل بوسيلة العنف و الإرهاب , لأن هذه الوسيلة تؤسس للمزيد من الدمار الذي يدخل الجميع في أتون الحروب العبثية التي تدمر الجميع بدون أفق حقيقي لأي طرف من الأطراف .
هذا ما تؤكده تجربة الحرب العالمية الأولى وكل الحروب وعمليات القتل التي تمارس لأغراض أيدلوجية و سياسية .
4- ثمة ضرورات وطنية وقومية ودينية في كل البلدان العربية والإسلامية , للقيام بمبادرات للوقوف ضد جماعات العنف و الإرهاب التي بدأت بالبروز في المشهد العربي والإسلامي . لأن الصمت أمام هذه الظاهرة الخطيرة , سيكلف المنطقة بأسرها على كل الصعد والمستويات , لذلك ثمة حاجة ماسة لرفع الصوت ضد ظاهرة الإرهاب و العنف و تفكيك موجباتهما , وتعرية خطابهما , ومواجهة الحامل البشري لهما .
ونحن هنا لسنا من دعاة تهويل خطر الإرهاب على أمن المنطقة واستقرارها , و لكننا نعتقد وبعمق أن جماعات العنف و الإرهاب من أخطر التحديات التي تواجه المنطقة في اللحظة الراهنة . وإن مواجهة هذه الآفة الخطيرة , يتطلب تضافر جميع الجهود و الطاقات للوقوف بحزم ضد هذه الآفة على المستويات الأمنية و الثقافية و السياسية والاقتصادية والاجتماعية . لأن تمكن هذه الآفة سيهدد الجميع , وسيغير من قواعد اللعبة السياسية القائمة في المنطقة , وستدمر ماتبقى من وحدة النسيج الاجتماعي في أغلب البلدان العربية و الإسلامية .
فمن يربي وحشا في بيته , فإن هذا الوحش لن يتحول إلى حيوان وديع و أليف , سيبقى وحشا كاسرا , وحينما يجوع سيفترس من جلبه إلى بيته .
جماعات الإرهاب كالوحوش المفترسة , ولايمكن أن تتحول إلى حمل وديع , ولا يمكن سياسيا أن يراهن عليها أحدا , لأنها ذات بنية انشقاقية , تمردية , حينما تتمكن من أية رقعة جغرافية أو اجتماعية , ستعمل على تنفيذ أجندتها ومشروعها العنفي وستقف ضد من يقف ضد مشروعها ونهجها الأيدلوجي والسلوكي ..
وجماع القول : إن جماعات العنف وعلى رأسها داعش , أضحت اليوم , تهديدا مباشرا لكل دول المنطقة , و هذا يتطلب من كل دول المنطقة , العمل على مواجهة هذا التهديد ورفع الغطاء الديني عن ممارساتها وخياراتها , وبناء حقائق الوعي والتسامح والحوار والاعتراف بالمختلف في فضاء مجتمعاتنا ومنابرنا الإعلامية والثقافية ..
التطرف والنسيج الإسلامي
طبيعة النمط الثقافي والسلوكي الذي يسير على هداه ومنواله الإنسان المتطرف , هو أنه لا يبحث عن النقاط المضيئة في موضوع تشدده وتطرفه , وإنما يغض النظر عن هذه النقاط ويتغافل عنها , ويوجه اهتمامه صوب النقاط السوداء التي تبرر رأيه وموقفه وتزيده تشبثا بمقولاته المتطرفة وقناعاته الجامدة .
ويتجلى هذا النمط والسلوك في طبيعة الرأي والموقف الذي يتخذه المتطرف من وقائع وحقائق العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية . حيث أنها علاقات إنسانية وسياسية وثقافية واجتماعية , تتراوح بين علاقات ودية وهادئة أو علاقات متوترة ومليئة بنقاط التباين والتوتر أو هي علاقات جامدة حيث تحتضن عناصر السلب كما تحتضن عناصر الإيجاب .
الإنسان المتطرف سواء من هذه المدرسة الفقهية أو المذهبية أو تلك , هو بطبيعته المتطرفة والمتشددة , يتجاهل عناصر الإيجاب في هذه العلاقات , ويتغافل عن تلك اللحظات التاريخية التي تطورت فيها العلاقات الإسلامية على نحو إيجابي .
وينشغل نفسيا وعقليا بكل اللحظات التي ساءت فيها تلك العلاقات ووصلت إلى مديات سلبية , كما يحتفل بكل المقولات المذهبية المتطرفة والمتشنجة ويعزز بها قناعاته , ويزداد تشبثا بمواقفه , يضخم عناصر التوتر ويستدعي بعض لحظات التاريخ الذي سادت فيها التوترات , ويتغافل ويتجاهل الحقائق المضادة لتطرفه وتشدده المذهبي .
يتعامل مع الخلافات والاختلافات الإسلامية ـ الإسلامية , بوصفها قدرا مقدرا , لا يمكن تجاوزها أو معالجتها .
ويحتضن بوعي وبدون وعي من جراء هذا , كل المقولات النبذية الاستئصالية , ويرى أن الطرف الإسلامي الآخر , لا ينفع معهم إلا لغة النبذ والاستئصال والقوة . ويتغافل عن حقائق ومقولات أن الأفكار والقناعات الدينية والمذهبية , لا يمكن استئصالها , ولا يمكن دحرها من الوجود , لأنها حقائق عنيدة وتزداد رسوخا في تربتها الاجتماعية , حينما تتجه إليها رياح الاستئصال والقتل والتدمير .
وعليه فإننا نعتقد أن طبيعة نفسية وثقافة المتطرف والمتشدد الديني والمذهبي , تمارس عملية التغذية التي تديم حالات التطرف وتمدها بأمصال الوجود والحياة .
وإن قبض المتطرفين من كل الأطراف على ملف العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية , سيزيد الأمور تعقيدا وتشنجا .
لأن التطرف بطبعه ضد التآلف والتآخي والوحدة والتفاهم , كما أن التشدد المذهبي يساهم في تصحير مسافات اللقاء والاشتراك .
وإن السماح لكل النزعات المتطرفة في التحكم بطبيعة العلاقة بين المسلمين , لن ينتج إلا المزيد من التوتر وسوء العلاقة وتراكم عناصر السلب فيها .
لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع تحسين العلاقات الإسلامية بين المسلمين , هو منع جماعات التشدد والتطرف من الإمساك بهذا الملف الهام والحيوي , وتضافر كل الجهود من أجل القيام بمبادرات من قبل أهل الاعتدال والوسطية لإدارة ملف العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية . فحينما تتحرر علاقات المسلمين مع بعضهم البعض من هيمنة أهل التطرف والتشدد , فإن قدرة أهل الاعتدال على بناء أسس العلاقة الإيجابية والتفاهم بين المسلمين ستكون فعلية وحقيقية . بمعنى حينما نتمكن من فك الارتباط بين جماعات التطرف ومسيرة العلاقة بين المسلمين , حينذاك ستتحرر هذه العلاقة من الكثير من القيود والأعباء التي تساهم في تعطيل هذه العلاقة أو تفجيرها من الداخل .
وفي سياق العمل على إخراج ملف العلاقات بين المسلمين من قبضه أهل التطرف والتشدد نود بيان الأفكار التالية :
1- إن السنة والشيعة من حقائق التاريخ والاجتماع الإسلامي . ولا يمكن لأي طرف مهما أوتي من قوة , أن يلغي هذه الحقائق من الخريطة والوجود الإسلامي .
وإن المطلوب دائما مهما كانت الحقائق المضادة ونزعات التشدد والتطرف هو توسيع دائرة التلاقي والتفاهم .
لأن البديل عن هذه الدائرة , يساوي أن يدمر المسلمون واقعهم , ومجتمعاتهم بأيديهم .
فالحروب المذهبية لا رابح منها , وإن إخضاع الواقع الإسلامي إلى متواليات هذه الحروب ستضر بجميع المجتمعات الإسلامية . لذلك فإن مصلحة الجميع تقتضي الجلوس على طاولة التفاهم والبحث بشكل موضوعي عن آليات تصليب العلاقات بين المسلمين , وإخراجها من دائرة التحريض والنبذ والاستئصال .. فالصراخ الطائفي لن يغير من حقائق الوجود الإسلامي , ونار الطائفية حينما تحترق فإنها ستصيب الجميع ولعل أول من تصيبه هو شاعلها .
2- كل الأمم والشعوب عانت بطريقة أو أخرى من انقساماتها الدينية أو المذهبية أو القومية أو العرقية . وإن المجتمعات الحية والواعية هي وحدها التي تمكنت من إدارة انقساماتها الدينية وغيرها بما لا يضر راهنها وواقعها .
وإن المجتمعات الإسلامية معنية قبل غيرها , للتفكير بجد في الطريقة المثلى التي تجنب الجميع ويلات التحريض والحروب عبر إدارة حضارية لخلافاتها وانقساماتها المذهبية .
ومن يبحث عن حلول استئصاليه , والغائية , فإنه لن يجني إلا المزيد من المآزق والحروب .
وقد جرب الجميع هذه الحقيقة بطريقة أو أخرى .
لذلك لا مناص إلا التفاهم وتدوير الزوايا والبحث عن سبل تحييد الانقسام المذهبي عن راهن وواقع المسلمين اليوم . وهذا لن يتأتى إلا ب :
- الاحترام المتبادل ورفض كل نزعات تسخيف قناعات الآخر . فمن حق الجميع أن يختلف في قناعاته وأفكاره , ولكن ليس من حق أي أحد أن يتعدى ماديا أو معنويا على قناعات ومقدسات الآخرين .
- إن ضبط العلاقة بين المختلفين مذهبيا في الدائرة الإسلامية , لا يمكن أن تعتمد على المواعظ الأخلاقية فحسب , وإنما هي بحاجة إلى منظومة قانونية متكاملة , تجرم أي تعد على مقدسات أي طرف من الأطراف .
- من الضروري لكل الدول التي تدير مجتمعات متعددة ومتنوعة , أن تتعالى على انقسامات مجتمعها , وأن لا تكون طرفا في عمليات الانقسام الديني أو المذهبي . من حق أي فرد في الدولة أن يلتزم بقناعات مدرسة أو مذهب , ولكن من الضروري أن لا يستخدم موقعه في الدولة لفرض قناعاته على الآخرين . فالدولة للجميع , ومن حق الجميع أن يحظى بمعاملة متساوية في الحقوق والواجبات .
3- إننا ندعو كل العلماء والدعاة والخطباء من كل الطوائف الإسلامية , إلى التعامل مع ملف وحدة المسلمين ومنع فرقتهم وتشتتهم , بوصفها من المبادئ الإسلامية الأصيلة , والتي تتطلب جهودا متواصلة لتعزيزها وتعميقها في الواقع الإسلامي المعاصر .
ولا يصح بأي شكل من الأشكال , أن يتم التعامل مع هذه القيمة الإسلامية الكبرى , بمقاييس الربح أو الخسارة أو المصلحة السياسية الآنية .
آن الأوان للجميع أن يصدع بضرورة تفاهم ووحدة المسلمين وأهل القبلة الواحدة , وأنه المشاكل أو المؤاخذات المتبادلة ينبغي أن تحترم متطلبات ومقتضيات وحدة وتفاهم المسلمين . وإن الطريق إلى ذلك , ليس أن يغادر أحدنا قناعاته , وإنما صيانة حرمة وحقوق الجميع المادية والمعنوية , وتنمية المساحات المشتركة , وبناء حقائق التلاقي والتفاهم بين أهل الوطن الواحد , ومنع التعدي على مقدسات بعضنا البعض , وإطلاق مبادرات وطنية تستهدف تطوير نظام التعارف المتبادل بين جميع المسلمين بمختلف مدارسهم الفقهية وانتماءاتهم المذهبية .
دوائر العنف
ثمة وقائع وحقائق سياسية واجتماعية عديدة ، تثبت بشكل لا لبس فيه ، أن العنف بكل مستوياته الذي يبدأ بالكلمة العنيفة والنابية وينتهي بممارسة القوة العارية والشدة تجاه الطرف الآخر ، لا ينهي أزمة ، ولا يعالج مشكلة ، بل التجارب السياسية والاجتماعية ، تثبت عكس ذلك تماما .. حيث أن استخدام العنف يفاقم من المشكلات والأزمات ، ويوسع من دائرة الضرر والاحتقان ، ويثير كل الدفائن العصبوية والشيطانية لدى الإنسان .. والتوغل في ممارسة العنف سواء على المستوى الاجتماعي أو المستوى السياسي ، لا يأبد حالة الهلع والخوف لدى الإنسان ، وإنما يكسرها ويتجاوزها كمقدمة ضرورية لتحدي آلة العنف ومواجهة مستخدمه سواء كان فردا أو سلطة ..
فعليه فإن الاعتقاد أن ممارسة القهر والعنف ، تنهي أزمات والمشاكل بصرف النظر عن طبيعتها ، فإن التجارب والممارسات ، تثبت عكس ذلك .. من هنا فإننا نعتقد إننا بحاجة في كل مواقعنا أن نقطع نفسيا وثقافيا مع نزعة العنف واستسهال استخدام أدواته ، ضد أبناء الأسرة أو الجيران ، أو يستخدمه رب العمل ضد مخدوميه ، أو يمارسه السلطان السياسي ضد مناوئيه ومعارضيه ..
فممارسة العنف لا تفضي إلى استقرار الأسر والفضاء الاجتماعي ، وإنما توفر كل أسباب التفكك والانتقام والخروج عن مقتضيات الالتزام الأخلاقي والاجتماعي .. كما أن السلطة السياسية التي تمارس العنف ضد شعبها فإنها لن تحصد إلا المزيد من الاحتقان والابتعاد النفسي والعملي بين السلطة وشعبها ..
لهذا فإن المطلوب أن نقطع نفسيا وعمليا مع أسلوب العنف ، حتى نربي ذواتنا ونعمم ثقافة العفو والرفق في فضائنا الاجتماعي ، ونزيد من فرص التربية المدنية التي تعلي من شأن الحوار والتفاهم وتدوير الزوايا ، والبحث عن حلول سلمية تجاه كل مشكلة أو أزمة.. وفي سياق العمل على ممارسة القطيعة النفسية والمعرفية مع العنف بكل حمولته النفسية والاجتماعية والسياسية ، نود التأكيد على النقاط التالية :
1- لا يكفي لنا كأفراد وكمجتمع أن ندين ممارسة العنف بكل مستوياته النفسية والأخلاقية، وإنما من المهم العمل على بناء حقائق الرفق والحوار والتفاهم في المجتمع .. حتى تتحول حالة اللاعنف في مجتمعنا ، إلى حالة طبيعية مغروسة في نفوسنا وثقافتنا ..
أما إذا اكتفينا بالنقد الوعظي لظاهرة العنف ، دون بناء الحقائق المضادة لها ، فإننا كأفراد ومؤسسات سنلجأ مع أي أزمة إلى استخدام العنف ..
فالرهان على مكافحة ظاهرة العنف ، ينبغي أن لا يكون فقط على الضوابط والالتزام الأخلاقي لدى الإنسان ، وإنما على وجود بناء مؤسسي وتعبيرات رقابية تحول دون ممارسة العنف أو اللجوء إليه ..
فالإنسان ( أي إنسان ) قد تغريه عناصر القوة والقدرة المادية التي يمتلكها لممارسة العنف ، ولا سبيل لمنعه إلا ببناء حقائق ومعطيات مؤسسية ، تحول دون ممارسة العنف حتى لو سولت له نفسه باستخدام العنف ..
فالمجتمعات المتقدمة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ، لم تتمكن من مواجهة مخزون العنف في واقعها ، إلا ببناء مؤسسات ومعطيات وحقائق تمنع قانونيا ورقابيا ممارسة العنف بكل مستوياته ، وتعمل في ذات الوقت على غرس ثقافة العفو والتسامح والرفق واللاعنف في واقعها الاجتماعي ، عن طريق التعليم ووسائل التنشئة والتربية ومؤسسات الإعلام والتوجيه الموجودة في المجتمع ..
بهذه الطريقة تمكنت هذه المجتمعات من ضبط نزعات العنف لدى الأفراد والمؤسسات العامة .. وبدون هذه الطريقة المتكاملة ، لن نتمكن من ضبط نزعات العنف التي قد تتسرب إلى نفوس الجميع ، وتستخدم بمبررات عديدة ..
2- إننا في الوقت الذي ندين ظاهرة العنف بكل مستوياته ، ونطالب بمحاربتها والوقوف بحزم تجاه كل أشكالها وتعبيراتها ، ندعو إلى بناء تفسير علمي وموضوعي تجاه هذه الظاهرة .. فرفض هذه الممارسة ، لا يمنع من بناء تفسير علمي لها على مختلف المستويات..
وفي تقديرنا أن بناء تفسير علمي وموضوعي لهذه المسألة ، يساهم في بناء إستراتيجية صحيحة لمواجهتها ..
وإننا من الضروري إذا أردنا مواجهة هذه الآفة ، أن نقاومها في أسابها الحقيقية وعواملها الجوهرية ، وبناء تعبيرات مؤسسية وطنية تعنى بشؤون بناء الحقائق المضادة لكل موجبات ومستويات العنف المختلفة ..
3- إن التطورات والتحولات المتسارعة التي تجري في المنطقة العربية اليوم ، تثبت بشكل عملي على أن خيار العنف سواء استخدم من قبل السلطة أو استخدم من قبل الشعب ، فإنه لن يفضي إلى نتائج إيجابية ، وإنما سيوفر كل مبررات استمرار سفك الدماء وممارسة القتل دون أفق إنساني وحضاري .. فالعنف لا ينهي أزمة سياسية أو مشكلة اجتماعية ، وإنما يزيدهما تعقيدا وصعوبة .. وإن الحكومات والشعوب بإمكانهما أن يصلا إلى ما يريدوه عن طريق الرفق والعفو والنضال السلمي واللاعنفي .. وقد أثبتت تحولات العالم العربي الراهنة ، صحة وسلامة هذا الخيار .. أما المجتمعات التي لجأت إلى العنف ، فإن أزماتها ستطول ، وتضحياتها ستتضاعف ..
4- وحتى يكتمل عقد العفو والرفق والرحمة والصلح والوئام وكل القيم المضادة للعنف والشدة والغلظة ، من الضروري إعادة قراءة قيم الإسلام ومفاهيمه على أساس أصل أن الدين الإسلامي هو دين الرحمة والرفق والسلام ،وليس دين القتل والشدة والحرب .. وذلك حتى نتمكن من بناء منظومة قيمية متكاملة ، تنبذ العنف بكل مستوياته قولا وعملا ، وتمارس الرفق والرحمة مع الأعداء قبل الأصدقاء ، ومع المختلفين قبل المنسجمين .. وبهذه الكيفية نتمكن نحن كأفراد ومجتمعات من بناء حقائق اللاعنف في واقعنا الخاص والعام ، بعيدا عن نزعات الاستئصال والعنف ..
فالعنف بكل مستوياته ، لا يخلف إلى الدمار الاجتماعي والسياسي ، ومن يبحث عن حريته وإنصافه ويتوسل في سبيل ذلك نهج العنف ، فإنه لن يحصد إلا المزيد من الظلم والافتئات على الحقوق والكرامات .. فالعنف هو بوابة الشر الكبرى على الشعوب والحكومات ، والمطلوب من الجميع هو نبذ هذا الخيار والإعلاء من قيم الحوار والتسامح والعفو .. وهذا يتطلب بناء رؤية ومشروع فكري وسياسي وإعلامي وتربوي متكامل ، يستهدف محاصرة نوازع العنف في النفس والواقع ، وبناء حقائق مؤسسية تطور من حقائق اللاعنف في المجتمع ..
ضبط العنف
على المستوى الفلسفي ربط الفيلسوف ( باسكال )8 بين الحقيقة والعنف . إذ اعتبر ثمة صراعا خالدا ومفتوحا بينهما . إذ لا تستطيع الحقيقة القضاء على ظاهرة العنف في الوجود الإنساني , ولا يستطيع في المقابل أيضا العنف من حجب أنوار الحقيقة . فمهما تجلت الحقائق الذي يبحث عنها الإنسان , ستبقى ظاهرة العنف , و سيمارس من أجل الدفاع عن مبدأ وأفكار وعقائد . ومهما اكتشف الإنسان خطر ممارسة العنف ومتوالياته على الإنسان والوجود , فإنه سيمارس بذات الذهنية أي الدفاع وتعميم القناعات والأفكار والعقائد . وبالتالي على حد تعبير الفلاسفة ثمة ملازمة بين ظاهرة العنف بكل مستوياتها ودرجاتها وبين الوجود الإنساني . فلم تخلو أي جماعة بشرية من استخدام العنف سواء في إطار الدفاع أو التوسع والتعميم .
وما يستطيع أن يقوم به الإنسان أزاء ظاهرة العنف الملازمة لوجوده , هو ضبطها والتقليل من مساحة استخدامها وتربية الناس بطريقة مضادة للعنف ,بحيث يصل الإنسان إلى مستوى ينبذ فيه العنف واستخدامه على المستوى النفسي والعملي . والملفت للنظر على هذا الصعيد أنه مع التقدم العلمي والتقني الهائل الذي حصل عليه الإنسان اليوم , إلا أن التقدم العلمي الهائل لم يمنع الإنسان من استخدام العنف ضمن استهدافاته البدائية والأولية , بل على العكس من ذلك . أي أن التطور العلمي والتقني اليوم استخدم لتطوير آليات ممارسة العنف في الوجود الإنساني . فالإنسان اليوم ازداد علما وتقنية واستخداما لمنجزات العصر المختلفة , وفي ذات الوقت إزداد استخداما للعنف واقترب أكثر من استخدام وسائل عنفية لم تكن معهودة من قبل , لدرجة أن وسائل العلم والاتصال الحديثة ساهمت في تعميم صور العنف وآليات استخدامه . بل لو تصفح الانسان وسائل الاتصال الحديث , سيجد صفحات ومواقع تغذي الناس لدواع واعتبارات متعددة على الدعوة إلى العنف واستخدامه للدفاع عن الذات وأفكارها , ومواقع أخرى هي لتعليم المتصفح طريقة تفخيخ السيارات وصنع القنابل واستخدام مختلف الأسلحة الثقيلة والخفيفة . والعجب في الأمر أن فاعل العنف وممارسه , يستسهل ممارسته بل يعتبره من الأفعال التي يثاب عليها الإنسان . وبفعل استسهال ممارسة العنف والتغطية الدينية للفعل العنفي أضحى الواقع الإسلامي المعاصر يعيش مفارقة صارخة وخطيرة في آن . حيث عشرات التوجيهات الإسلامية التي تحث على الرفق والاعتدال والتسامح ونبذ الشدة والغلظة وضرورة الرحمة مع الجميع . وفي مقابل هذه التوجيهات ثمة ممارسات عنفية يندى لها جبين الإنسانية تمارس باسم الإسلام ودفاعا عن مقدساته . وكأن الإسلام دين القتل والعنف لأتفه الأسباب . وكأن تمكين الإسلام في الواقع الخارجي , لا يحتاج إلا إلى بندقية وسيارة مفخخة لإشاعة الفوضى وتعميم القتل . ولكن ما نود أن نقوله في هذا السياق أن الله سبحانه وتعالى لا يطاع من حيث يعصى , مهما كانت التبريرات ومهما كانت اليافطات المرفوعة في هذا السبيل .
فالباري عز وجل يطاع من خلال الالتزام التام بتشريعاته وتوجيهاته , ولا يمكن أن يطاع بسفك الدم وقتل الأبرياء وتدمير أسواق المسلمين ومصادر رزقهم . فالله سبحانه وتعالى لا يطاع بقتل الأطفال والنساء , ولا يطاع بالإعدامات العشوائية التي نشاهد بعضها على اليوتيوب وشبكات التواصل الاجتماعي .
إن ما يجري اليوم من عمليات قتل وتفجير باسم الجهاد والدفاع عن المقدسات , هو ذاته مناقض بشكل تام لتوجيهات الإسلام وثوابته .
ونظرة بسيطة لآداب وأخلاقيات الحروب في الإسلام , سنكتشف أن ما يجري هو مناقض لآداب وتوجيهات وأخلاقيات الإسلام .
ويبدو أن الإنسان هو الكائن الوحيد على وجه هذه البسيطة الذي يقتل من أجل أفكاره ومنظومته العقدية والاجتماعية .
وهذا يعكس عجز هذا الإنسان عن إقناع الآخرين بأفكاره وقناعاته , فيلجأ إلى القتل والتدمير , وكأن هذا القتل والتدمير سيمكنه من الوصول إلى أهدافه .
وتعلمنا تجارب الأمم والشعوب المختلفة إن الوصول إلى الغاية بالظلم والتعدي على الحقوق والكرامات لن يدوم مهما طال الزمن . فالتمكن من الآخرين بالقتل والتفجير والإرهاب قد يطول إلا أنه لا يدوم مهما كانت الظروف والأحوال .
وتؤكد لنا جميع التجارب العنفية أنها إما مرتبطة بشكل مباشر بجهات إقليمية ودولية لها مصلحة مباشرة وأكيدة في تمزيق دول وشعوب المنطقة , أو تخدم مصالح أعداء الأمة بطريقة غير مباشرة . لأن جماعات العنف تساهم بشكل أساسي في تمزيق نسيج الأمة ومجتمعات المنطقة , وتظهر للجميع صراع المسلمين مع بعضهم البعض , وهذا ما يريده أعداء الأمة لتمرير مشروعاتهم وأجندتهم الاستراتيجية والسياسية التي تستهدف إضعاف الأمة لأدنى الحدود ومن ثم إخضاعها لشروطها المجحفة التي تستهدف ثرواتها وقدراتها راهنا ومستقبلا .
فما يجري في المنطقة اليوم من انقسامات طائفية حادة واقتتال مذهبي وأهلي في أكثر من بلد وتقسيم ممنهج لبعض الدول والشعوب , ليس بعيدا عن إرادة الأجنبي ومصالحة العليا . فلحظة الانهيار التي تعيشها المنطقة وبفعل خيارات سياسية وفكرية صنعها أبناء المنطقة ويتم تغذيتها والاستفادة منها من قبل أعداء الأمة , عمل من أجلها الأجنبي منذ سنوات طويلة , ولكن كان وعي الأمة ووحدتها الداخلية هو الذي يفشل هذه المخططات . ولكن للأسف الشديد ومع تضخيم المشكلة الطائفية وتغذيتها من قبل جميع الأطراف بعضهم بوعي وإدراك والبعض الآخر بدون وعي وإدراك , أضحى الاهتراء الداخلي في جسم الأمة حقيقيا وأضحت يد الأجنبي هي الأعلى في التحكم في مسار الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة .
وبفعل هذا التداخل والتشابك بين جماعات العنف وبعض الأطراف الإقليمية والدولية , أضحت هذه الجماعات هي عنوان حروب العرب الداخلية , التي تستهدف نسيج العرب الداخلي وتدمير إمكانية تجاوز عثرات الطريق في مشروع البناء والتنمية العربية.
جماعات العنف والبيئة الانشقاقية
حين التفكير العميق في تحليل ظاهرة جماعات العنف و الإرهاب في المنطقة العربية , نكتشف أن هذه الجماعات , هي بذاتها , و وفق تكوينها الثقافي و المعرفي و الاجتماعي , هي جماعات انشقاقية , تتكور حول ذاتها , و تزرق في عقول أفرادها نزعات الكره و البغض لمحيطها الاجتماعي و السياسي , و تجعل من الانتماء إليها و الالتزام بمقولاتها و برامجها المختلفة , هو معيار الحق و الصواب .
و ماعداها هو خروج عن الصواب و انحراف عن الطريق المستقيم .. لذلك فإن جماعات العنف و الإرهاب في كل البيئات الاجتماعية التي تتواجد فيها , تزرع الانشقاق , و تحفر أخاديد من التباينات والخلافات التي تتولد باستمرار , مما يدمر النسيج الاجتماعي و السياسي .
لذلك نجد أن هذه الجماعات باستمرار تبحث عن الجغرافيا البشرية , التي اهترأت فيها الدولة و أضحت غير متماسكة , و سادت الفوضى , لأن هذه البيئة التي لا راعي لها و لا ناظم فيها , هو الذي يناسب فكرها الانشقاقي و العنفي , لتحويل هذه الجغرافيا إلى ساحة مفتوحة للتدريب الأيدلوجي و العسكري , لكي تستمر في مشروع القتل و التدمير و إنهاك المجتمعات العربية سواء على مستوى علاقاتها البينية بين مكوناتها المتنوعة , أو على صعيد أوضاعها الأمنية و السياسية ..
لذلك من الطبيعي اعتبار هذه الجماعات بصرف النظر عن أيدلوجياتها , هي خطر محدق للمجتمعات العربية و أمنها و استقرارها و تلاحمها الداخلي .. و ماتقوم به هذه الجماعات الإرهابية في أكثر من بلد عربي , هو مؤشر عملي على طبيعتها و منظومة أفكارها التي تبرر لذاتها القيام بأبشع الإعمال و أشنعها .
و ما تقوم به في بعض المدن السورية الواقعة تحت سيطرتها , يؤكد هذه الحقيقة , و يعبر بشكل ملموس أنها جماعات تعيش على القتل و التدمير , و أنها لا تكتفي بمحاربة النظام السياسي الذي تشكلت من أجل مواجهته و محاربته , و إنما طبيعتها العنفية و الانشقاقية يدفعها إلى مقاتلة كل من يخالفها أو يقف موقف الرفض لمشروعاتها و خياراتها الأيدلوجية و الاجتماعية . لذلك تتكرر الأخبار الغريبة و المذهلة التي تقوم بها ( داعش ) في مدينة الرقة السورية . فهي جماعات تدمر ولا تبني , تفكر بمشروعها دون الاهتمام بمعطيات الواقع , تستسهل عملية القتل و الإعدام حتى لو حكمت مدينة أو قرية بدون أهلها , لا تعرف إلا لغة العنف و كأنها كتلة بشرية لتنمية الأحقاد و الأغلال بين الناس ..
و الشيء المهم الذي ينبغي لكل الدول العربية أن تلتفت إلية , و تراكم من فعلها الأمني و السياسي و الثقافي في مواجهة جماعات العنف و الإرهاب , هو أن هذه الجماعات و بفعل ذهنيتها الانشقاقية و منهجها الإرهابي الأسود , هي من أهم التحديات و التهديدات التي تواجه وحدة العرب كجغرافيا و كشعوب . لذلك نتمكن من القول و على ضوء تجارب هذه الجماعات في مصر و سوريا و اليمن و العراق , أنها تهديد مباشر لوحدة الدول العربي و المجتمعات العربية . لأنها تفكر بذهنية اقتطاع رقعة جغرافية ذات خصائص معينة , و تعمل لتحويلها إلى قاعدة متكاملة للانطلاق و الانقضاض ضد المناطق و المدن الأخرى. هذا ما فعلته هذه الجماعات الإرهابية في اليمن و العراق و سوريا , و هذا ما تحاول أن تقوم به في أي دولة تقوى فيها , و تتوفر لها حاضنة اجتماعية .
فهذه الجماعات تشكل قوة أيدلوجية و عسكرية مضادة لواقع الوحدة بين العرب و المسلمين , و مدمرة للنسيج الاجتماعي في كل البيئات , و تسعى باستمرار لتأسيس جيوب لها تضمن فيها حرية الحركة و القدرة على الانقضاض المسلح ضد بقية الشعب و المناطق غير الخاضعة لها .
و ماجرى قبل مدة من أحداث في العراق , أدت إلى سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم داعش يؤكد هذه الحقيقة و يعكس طبيعة التهديد الذي تشكله هذه الجماعات و التنظيمات الإرهابية على وحدة الدول و الشعوب العربية .
و على ضوء ذلك ثمة ضرورة قومية و وحدوية في كل الأقطار العربية , للوقوف بحزم ضد هذه الجماعات , لأنها أضحت تهديد حقيقي على المستويات كافة . و الوقوف موقف المتفرج من هذه الأحداث و التطورات , يعني المزيد من الانهيارات العربية و المزيد من التآكل الدامي في الجسم العربي .
و في سياق العمل للوقوف ضد هذه المخاطر و التحديات التي تطلقها جماعات العنف و الإرهاب ضد استقرار الدول العربية و وحدتها الجغرافية و البشرية , نود التأكيد على النقاط التالية :
1- إن المجتمعات المتنوعة و المتعددة أفقيا و عموديا , لا يمكن أن تدار بعقلية الغلبة و استبعاد أحد المكونات و التعبيرات , و إنما تدار بتطوير نظام الشراكة الذي يضمن لجميع الأطياف حقوقها السياسية و المدنية بدون افتئات على أحد , أو إقصاء لأي طرف .
و تعلمنا التجربة السياسية في العراق , أن التراخي أو التلكؤ في بناء نظام سياسي , تشاركي , تعددي , لا يقصي أحدا , فإن نتيجته المباشرة هو بروز حواضن اجتماعية عديدة لخيارات العنف و الإرهاب , تكون محصلة هذه الحواضن الدائمة المزيد من الانهيار الأمني و وقوع التفجيرات و القتلى من الأبرياء .
فالأمن الحقيقي لا يبنى إلا ببناء نظام الشراكة , و الرهان على قدرة أحد المكونات على حسم معاركه السياسية بوحده , أضحى من الرهانات الخاسرة التي لم تنتج إلا القتل و الدمار.
إننا في هذا السياق ندعو شيعة العراق قبل سنته , و عرب العراق قبل كرده , إلى الالتفات إلى هذه الحقيقة السياسية إلا و هي أن نظام الشراكة المتساوية في الحقوق و الواجبات لكل الأطراف و المكونات , هو الذي يجلب الأمن و الاستقرار , و هو ( أي نظام الشراكة) وحده قادر على تفكيك كل شبكات العنف و الإرهاب التي بدأت بالانتشار في محافظات العراق ..
أما إذا استمرت الأوضاع على حالها ,فإن الأحداث ستتسارع باتجاه المزيد من الانهيار الأمني و السياسي , مما يهدد وحدة العراق شعبا و أرضا .
و على النخب السياسية من كل الأطراف و الأطياف ,أن تدرك أن الضامن الوحيد لوحدة العراق اليوم هو طبيعة النظام السياسي المراد تشكيله في العراق . فإذا كان أحاديا و لا يعبر عن جميع حساسيات الشعب العراقي , فإن المآل الأخير لذلك هو تقسيم العراق , و هو من الخيارات الخطيرة على العراق و المنطقة العربية بأسرها .
2- توضح الأحداث و التطورات في أغلب البلدان العربية المذكورة أعلاه , أن استدعاء جماعات العنف و الإرهاب , أو غض النظر عنها , لا يهدد فقط خصم اليوم , و إنما يهدد الجميع . لأن هذه الجماعات بطبعها جماعات غير تسووية و تبحث عن حلول نهائية وفق منظورها في كل المناطق التي تتواجد فيها . لذلك من الضروري القول : أن من مصلحة جميع الأطراف في المنطقة العربية الوقوف معا ضد جماعات العنف و الإرهاب , و إن لعبة الاستقواء و التخويف بهذه الجماعات سترتد سلبا على جميع الأطراف . لذلك ثمة حاجة في كل هذه الدول العربية للوقوف العملي و الفعلي ضد كل التشكيلات الإرهابية و العنفية , لأنها تشكيلات تهدد المنطقة العربية في استقرارها الداخلي و وحدتها السياسية و البشرية . و تجربة ( داعش ) في تهديد وحدة العراق و وحدة سوريا شاخصة للجميع .
3- حينما تتفشى الغرائز المذهبية و الطائفية في المجتمعات , تتجه بعض العواطف إلى أقصى أنواع و أشكال التحريض و الكراهية . و العلاقة بين تفشي غرائز الكراهية و التحريض و ممارسة العنف و الإرهاب , هي ذات العلاقة التي تربط عالم الأسباب بعالم النتائج . لذلك ثمة ضرورة عربية لرفع الصوت ضد عمليات التحريض المذهبي و الطائفي , لأن هذه العمليات تؤسس بطريقة أو أخرى للمناخات الاجتماعية و الثقافية المحضرة لاستخدام العنف ضد المختلف المذهبي أو المغاير الديني , و هذا بدوره يفضي إلى اتساع دائرة العنف و الإرهاب .
و خلاصة القول : أن جماعات العنف و الإرهاب , تعيش على مناخات التحريض المذهبي و الطائفي , و من يريد محاربة جماعات العنف و الإرهاب , فعليه أيضا الوقوف ضد كل أشكال بث الكراهية بين المواطنين لاعتبارات لا كسب للإنسان فيها .
العنف اليوم
في المشهد المريع الذي تعيشه بعض البلدان العربية , التي سقطت في أتون الفوضى والاقتتال الداخلي , والذي يجتهد الجميع في تدمير بلدهم والقضاء على نسيجهم الاجتماعي والمدني , ثمة مفارقة جديرة بالتأمل والفحص .
وهذه المفارقة هي : أن الأمور وتطورات الأحداث في هذه الدول والمجتمعات المنقسمة أفقيا وعموديا , تتجه صوب أن تتوحد عناوينها الطائفية والمذهبية والعرقية وتتفتت دولتهم . فالدولة التي كانت رمز وحدتهم والفضاء الذي يجمعهم بكل تنوعهم وتعدديتهم , تتجه نحو التقسيم والتشظي . وفي مقابل هذا التفتت الدولتي إذا صح التعبير , تتجه الجماعات البشرية التي تستند على انتماءاتها التاريخية نحو التوحد والتكتل للدفاع عن المصالح وتعظيم المكاسب .وبإمكاننا في هذا السياق أن نتحدث عن العراق كنموذج لذلك . فمنذ سقوط محافظة نينوى بيد التنظيم الإرهابي ( داعش ) تتجه الأمور نحو المفارقة المذكورة أعلاه . الكيانات المذهبية السنية والشيعية والقومية الكردية والتركمانية , تتجه صوب التكتل والتوحد وتجاوز الإحن الداخلية ,لأن الجميع يشعر بأنه يواجه خطرا حقيقيا وماحقا , ولا سبيل لمواجهة هذه الخطر إلا بالتوحد والتكتل السياسي والاجتماعي .
ولكن للأسف الشديد فإن توحد هذه الكيانات ووفق السياق الذي تجري فيه , هو على حساب وحدة العراق ووجود دولة واحدة للعراقيين .
فكل الأطراف بدأت تتلمس حدودها البشرية والجغرافية , ونخبها الدينية والمدنية بدأت تفكر بمصير جماعتها الخاصة . وأضحى العنوان الوحدوي والجامع الكبير لكل هذا التنوع يتيما بدون أب يدافع عنه ويحمي مصالحه .
وفي تقديرنا أن هذه المفارقة تتطلب الالتفات إليها , ومعرفة أسبابها الجوهرية , ولماذا بعد كل هذه السنين من بناء الدول والحدود الجغرافية تتلاشى بإرادة داخلية وبتصميم غير مباشر في أحسن الاحتمالات من أغلب القوى السياسية والاجتماعية .
وأمام هذه المفارقة الخطيرة والتي تهدد المنطقة العربية بالمزيد من التقسيم والتشظي نود التذكير بالحقائق التالية :
1- إن الطوائف والمذاهب والقوميات ليست حزبا واحدا ورأيا واحدا . واندفاع غالبية أهل هذه العناوين نحو التكتل والتمحور حول الذات والتفكير بمنطق المصلحة الخاصة , في تقديرنا أن هذا الاندفاع متعلق بطبيعة الصراع السياسي والاجتماعي الموجود في أغلب هذه المناطق.
بمعنى أن تطييف الصراعات السياسية والاجتماعية القائمة في المنطقة , يقود في محصلته النهائية إلى أن تكون الطوائف والمذاهب , هي العنوان الأبرز للصراع , وهي وسيلة التعبئة و التحشيد المجتمعي . بحيث حتى القيادات المدنية والتي لا صلة فعلية لديها بالالتزامات الدينية للطوائف والمذاهب , تتحول لأغراض برجماتية وسياسية إلى زعامات طائفية ومذهبية .
من هنا فإننا نعتقد أن استسهال التقسيم الطائفي في المنطقة وتطييف الصراعات فيها هو الذي أوصلنا إلى هذه المفارقة الخطيرة , حيث تفتت الدول وبناء كيانات سياسية هشة على مقاس جغرافيا الطوائف والمذاهب . وهذا في متوالياته العملية والفعلية , يساوي الاحتراب الداخلي بين جميع المكونات لتأبيد التفتت والتشظي , بحيث تصبح الدولة الواحدة والحاضنة للجميع بكل الامتداد البشري والجغرافي من الأحلام واليوتوبيا الذي لن يتحقق .
وهذا لا يعني إننا نقف ضد وحدة المجتمعات بكل دوائر انتماءاها , وإنما ما نود قوله لماذا حينما تتجه الجماعات الأهلية إلى التوحد والتكتل , تضعف الدولة وتتلاشى قيمتها ودورها في إدارة الصراعات الأهلية وحلها .
2- من المؤكد أن الإرث السياسي الذي تركته الكثير من الدول ومؤسسات السلطة في العالم العربي , لا تشجع المجتمعات بكل فئاتها للدفاع عنها أو حمايتها من المخاطر . لذلك فإن الناس في غالبهم , لا يمتلكون حساسية تجاه ضعف الدولة أو اهتراءها . بل يعتقد البعض أن هذه هي الفرصة المؤاتية للنيل منها من جراء الظلم المتراكم الذي مارسته مؤسساتها وهياكلها المختلفة ضد الناس وآمالهم وقضاياهم المختلفة . ولكن ومع احترامنا لكل المشاعر التي تولدت لدى الكثير من الشعوب العربية تجاه دولهم ومؤسساتهم السلطوية . إلا أنه من الضروري القول : أن انهيار الدولة في بعض مناطق العالم العربي وفي ظل احتدام الصدام أو التنافس بين مكونات المجتمع والوطن الواحد , يعني استمرار نزف الدم والاقتتال الأهلي , وما يجري في ليبيا هو أحد النماذج البارزة على أن انهيار الدولة في ظل الصدام الأهلي يعني مشروعات دائمة للاقتتال بين مختلف التعبيرات والمكونات .
لذلك من الضروري اليوم الحديث عن ضرورة وجود الدول في مجتمعاتنا , مهما كانت عيوبها و آثامها , إلا أنها الشر الذي لا بد منه , لإدارة مصالح الناس والحفاظ على نظامهم العام .
فحرية الناس ونيل حقوقهم ومعاقبة المجرمين بحقهم , لا يساوي أن يعمل الجميع معاول الهدم في مؤسسات دولتهم .
من حق الناس الثائرة على أنظمتهم الفاسدة , أن ترفض سياسات وخيارات هذه الأنظمة , و تعمل على تغييرها , إلا أنه ليس من حق الناس تدمير مؤسسات الدولة ونهبها وحرقها , لأن هذه المؤسسات ملك الجميع , ولا يجوز بأي حال من الأحوال التعدي على الممتلكات العامة بدعوى معارضة النظام السياسي أو ما أشبه . في ظل هذه الظروف الخطيرة التي تعيشها المنطقة , من المهم بيان حقيقة أن الدول من ضرورات الانتظام الجماعي , وبدونها تضيع الحقوق وتزداد التعديات على الحقوق الخاصة والعامة .
ومن واجب الجميع في ظل الانهيارات السياسية والأمنية والاجتماعية , حماية الدولة ومؤسساتها المختلفة .
3- آن الأوان في فضاء العالم العربي , لإحداث مصالحات حقيقية وعميقة بين الدولة والمجتمع , بما ينسجم وخصوصيات كل بلد ووطن .
لأن استمرار الفجوة بين الدولة والمجتمع , يعني اليوم بداية مشاكل حقيقية قد تتجاوز قدرة الجميع على إدارتها والتحكم في مساراتها .
من هنا ومن أجل وحدة المجتمعات العربية وعدم انقسامها الأفقي والعمودي , ومن أجل درء المخاطر الحقيقية عن العالم العربي , ومن أجل عدم استنزاف ثروات وقدرات العالم العربي في حروب وصدا مات عبثية لا رابح منها إلا العدو , من أجل كل هذا من الضروري تنفيذ مشروع المصالحة السياسية العميقة بين دول العالم العربي وشعوبه , لأن هذا هو أسلم الخيارات و أقلها كلفة و أكفأ الخيارات لتجنيب المنطقة ويلات الحروب والفوضى التي تطال الجميع في مصالحهم ومكاسبهم , وفي راهنهم ومستقبلهم .
الخاتمة
إن العنف الديني بكل مستوياته , من أبرز المخاطر التي تواجه العالم الإسلامي اليوم . لأن هذه الآفة الخطيرة شوهت صورة الإسلام , وأدخلت شعوب العالم الإسلامي في معارك عبثية , لا رابح منها , حيث الجميع خاسر .
وإن هذه الآفة تتطلب تظافر كل الجهود والإمكانات لمواجهتها على مختلف الصعد والمستويات .
وإن التغافل عن هذه الآفة , سيكلف العالم الإسلامي الكثير على مستوى الأمن والاستقرار والوحدات الاجتماعية والوطنية لكل بلاد المسلمين . وندعو في هذا السياق كل الفعاليات والمؤسسات الدينية , إلى رفع الغطاء الديني والاجتماعي عن كل الممارسات العنفية التي تجرب باسم الدين .
كما ندعو هذه الفعاليات إلى العمل المستديم في بناء كل الحقائق المضادة لقيمة العنف في الفضاء الاجتماعي .
أسباب ظاهرة العنف في العالم العربي :
من البديهي القول: إننا معاً نقف ضد الإرهاب، ونستنكر أية ممارسة إرهابية وعنفيه، بصرف النظر عن موجبتاها وغاياتها. فالعنف مرفوض مهما كانت دوافعه، والإرهاب آفة لا سبيل لتسويغها وينبغي محاربتها في جذورها وأشكالها.
ولكن السؤال: هل الاستنكار بوحده كافٍ لإنهاء هذه الآفة؟ إننا نعتقد أن الاستنكار بوحده لا يُنهي الآفة، وإن المطلوب هو فهم هذه الظاهرة فهماً دقيقاً وعميقاً وصولاً لبلورة إستراتيجية ومشروع وطني متكامل، يستهدف إنهاء هذه الظاهرة من جذورها.
وهذه الدراسة، محاولة لفهم وتفسير هذه الظاهرة. وهنا ينبغي أن نفرّق بين محاولة الفهم ومحاولة التبرير. فإننا نعمل على فهم هذه الظاهرة ولا نبررها. فنحن نرفض العنف والإرهاب مهما كانت دوافعه وغاياته.
ولكن المطلوب في هذه اللحظة هو فهم وتفسر الظاهرة. وما سنقوله هو محاولة في الفهم والتفسير، ونرفض رفضاً قاطعاً تبرير الإرهاب أو تسويغ العنف. فنخن دينياً وأخلاقياً وإنسانياً ووطنياًً، نقف ضد كل أشكال العنف والإرهاب، ولا نرتضيه، ونعمل معاً من أجل إنهائه من فضائنا ووطننا.
* في معنى العنف
العنف كأي ظاهرة مجتمعية، هو بحاجة إلى تعريف دقيق، وتحديد علمي ومعرفي لمسبباته وعوامله وموجاته، وذلك لأننا لا يمكن أن نحدد طبيعة الجذور والعوامل التي أفرزت هذه الظاهرة دون تفسيرها تفسيراً علمياً ودقيقاً.
المعنى اللغوي
العنف في معناه اللغوي ضد الرفق، وعنفوان الشيء: أوله، وهو في عنفوان شبابه: أي قوته، وعنَّفه تعنيفاً: لامه وعتب عليه(8). مما يعني أن العنف ضد الرأفة متمثلاً في استخدام القوة القولية أو الفعلية ضد شخص آخر.
وقد جاءت بعض الأحاديث النبوية الشريفة لتجعل الرفق مقابل العنف؛ فقال (صلى الله عليه وآلة وسلم): “إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه”(9).
وقال (صلى الله عليه وآلة وسلم): “من يحرم الرفق يُحرم الخير”(10).
فالعنف في اللغة: هو كل قول أو فعل ضد الرأفة والرفق واللين.
المعنى القانوني
وفي إطار التشريعات الجنائية، تصدى فقهاء القانون الجنائي لتعريف العنف(11) في إطار نظريتين تتنازعان مفهوم العنف: النظرية التقليدية، حيث تأخذ بالقوى المادية بالتركيز على ممارسة القوة الجسدية. أما النظرية الحديثة -والتي لها السيادة في الفقه الجنائي المعاصر- فتأخذ بالضغط والإكراه الإرادي، دون تركيز على الوسيلة، وإنما على نتيجة متمثلة في إجبار إرادة الغير بوسائل معينة على إتيان تصرف معين.
وعلى ضوء ما سبق عرف البعض العنف بأنه الماسُّ بسلامة الجسم ولو لم يكن جسيماً بل كان صورة تعدٍّ وإيذاء(12).
كما يعرفه آخر بأنه: تجسيد الطاقة أو القوى المادية في الإضرار المادي بشخص آخر(13). بينما يعرفه آخر بأنه الجرائم التي تستخدم فيها أية وسيلة تتسم بالشدة للاعتداء على شخص الإنسان أو عِرضه، ولا يتحقق العنف في جرائم الاعتداء على الأموال إلا باستخدام الوسائل المادية(14).
وعليه، فإن تعريف العنف في التشريعات الجنائية: هو كل مساس بسلامة جسم المجني عليه، من شأنه إلحاق الإيذاء به والتعدي عليه.
العنف من منظور إسلامي
عند تتبع أقوال العلماء والفقهاء لتحديد معنى العنف فقهياً نجد أن الفقهاء -بكل طبقاتهم وأطوارهم التاريخية- لم يميزوا بين مقولة الإكراه ومقولة العنف؛ فهما تستخدمان بوصفهما من المترادفات.
فقد عرف الإمام السرخسي الإكراه بأنه: فعل يفعله المرء بغيره، فينفي به رضاه أو يفسد به اختياره(15).
وفي هذا الاتجاه نفسه، عرَّف الإمام الشافعي الإكراه: أن يصير الرجل في يدي من لا يقدر على الامتناع منه من سلطان أو لص أو متغلِّب على واحد من هؤلاء، ويكون المكرَه يخاف خوفاً عليه أنه إن امتنع من قبول ما أُمِرَ به يبلغ به الضرب المؤلم أكثرَ منه أو إتلاف نفسه(16).
والرأي الغالب لدى الفقهاء: أن الإكراه قد يكون مادياً عندما يكون الوعيد والتهديد منتظر الوقوع(17).
وعليه فإن التهديد يعدّ عنفاً إذا سبب ضرراً جسمانياً للمجني عليه، بخلاف ما يقف عند حد الضغط على إرادة المجني عليه، فإنه يكون إكراهاً فحسب.
“تطبيقاً لذلك، يعد من قبيل العنف المستوجب للعقاب متمثلاً في القصاص: من منع الطعام أو الشراب، ولو قصد بذلك التعذيب، ومن منع فضل مائه مسافراً، عالماً بأنه لا يحل منعه، أو أنه يموت إن لم يسقه، فيقتل به وإن لم يقتله بيده، فظاهره أنه يقتل به سواء قصد بمنعه قتله أو تعذيبه، كما أن من منع شخصاً فضل طعام أو شراب حتى مات، فإنه يلزمه الدية، ومن قبيل منع الطعام والشراب: الأم تمنع ولدها الرضاع حتى مات، فإن قصدت موته قتلت، وإلا فالدية”(18).
وهكذا نجد أن معنى العنف في الفقه الإسلامي يتحقق باستخدام وسائل مادية تؤثر في جسم المجني عليه مباشرة، وتلحق به الأذى، كما يتحقق بالقول وبالتهديد وبالترك وبالمنع متى انتهى إلى إلحاق الأذى بجسم المجني عليه.
العنف من منظور اجتماعي
يعرف العنف بأنه: الإيذاء باليد أو باللسان، أو بالفعل أو بالكلمة، في الحقل التصادمي مع الآخر، ولا فرق في ذلك بين أن يكون فعل العنف والإيذاء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي. فلا يخرج في كلتا الحالتين من ممارسة الإيذاء؛ سواء باللسان أو اليد.
“فالعنف سلوك إيذائي، قوامه إنكار الآخر كقيمة متماثلة للأنا أو للنَّحن، كقيمة تستحق الحياة والاحترام، ومن مرتكزه استبعاد الآخر عن حلبة التغالب، إما يخفضه إلى تابع، وإما بنفيه خارج الساحة (إخراجه من اللعبة) وإما بتصفيته معنوياً أو جسدياً.
إذن معنى العنف الأساسي في المنظور الاجتماعي والسوسيولوجيا هو عدم الاعتراف بالآخر، رفضه وتحويله إلى الشيء (المناسب) للحاجة العنفية، إذا جاز الكلام. عدم الاعتراف لا يعني عدم المعرفة، بل يعني معرفة معينة (مقولبة) هنا الفاعل العنفي يراقب القابل، يصور ويتصوره بالطريقة المناسبة لرسم صورته (الضحية) وللتحكم بصيرورته”(19).
وعليه، فإن العنف هو واقعة اجتماعية تاريخية، ينتجها الفاعل الفردي (المتسلط الأَنَوي) مثلما ينتجها الفاعل الجمعي (المتسلط الجمعي) في سباق التصارع على الامتلاك الأَنَوي أو الجمعي للآخرين، وفي غياب أي انتظام علائقي من النوع الديموقراطي أو المساواتي العضوي.
لذلك تعرف موسوعة الجريمة والعدالة العنف بأنه: يشير إلى كل صور السلوك؛ سواء كانت فعلية أو تهديدية التي ينتج عنها -أو قد ينتج عنها- تدمير وتحطيم للممتلكات أو إلحاق الأذى أو الموت بالفرد أو الجماعة والمجتمع.
ويعرف (لوكا) في مؤلفه آليات منطق العنف، العنف بأنه “مفهوم يدل على انفجار القوة التي تعتدي بطريقة مباشرة على الأشخاص وأمتعتهم، سواء كانوا أفراداً أو جماعات، من أجل السيطرة عليهم عن طريق القتل أو التحطيم أو الإخضاع أو الهزيمة”(20).
فالعنف في المنظور الاجتماعي: هو كل إيذاء بالقول أو بالفعل للآخر، سواء كان هذا الآخر فرداً أو جماعة.
وعملية الإيذاء تارة تكون فردية، حيث يقوم شخص ما باستخدام اليد أو اللسان بشكل عنيف تجاه شخص آخر، ويصطلح على هذه العملية بـ(المتسلط الأَنَوي).
وتارة يكون العنف جماعياً (المتسلط الجمعي)؛ إذا تقوم مجموعة بشرية، ذات خصائص مشتركة، باستخدام العنف والقوة، وسيلةً من وسائل تحقيق تطلعاتها الخاصة، أو تطبيق سياقها الخاص على الواقع الخارجي.
وفي كلتا الحالتين لا تكون ظاهرة العنف والتعصب بمعزل عن الموجبات الاجتماعية والمسارات التاريخية، التي خلقت هذه الظاهرة في الوجود الاجتماعي.
لهذا فهي ظاهرة لا تقبل التبسيط والتسطيح، لأنها وليدة مجموعة عوامل وأدوات مركبة.
وعلى المستوى النظري والفكري، نجد أن أغلب حالات العنف هي “وليدة معرفية تجريدية، على موروث ذهني جاهز، قوالب مصممة عن الآخرين: الوثن الذهني، بكل أولياته ومفاعلات ارتباطه، يحلّ أو يقترن بالوثن المادي. الآخر يوضع في القالب المجهّز، على منوال قاطع الطرق الأسطوري، بروكست، الذي كان يخطف (الآخر) من قارعة الطريق، ويضعه فوق سرير (رمز للقالب الجاهز)، فإذا كان المخطوف أطول من سريره ضغطه حتى يتناسب مع طوله، وإذا كان أقصر منه مطه ليناسبه، وفي الحالين، المخطوف ضحيّة مزدوجة: ضحية خيار الفاعل العنفي (الخيار الواعي أو اللاواعي)، وضحية أدواته الجاهزة”(21).
والعنف بوصفه ظاهرة فردية أو مجتمعية، هو تعبير عن خلل ما في سياق صانعها، إنْ على المستوى النفسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي. دفعه هذا السياق الذي يعانيه نحو استخدام العنف، متوهماً أن خيار العنف والقوة سيوفر له كل متطلباته، أو سيحقق له كل أهدافه. وفي حقيقة الأمر إن استخدام العنف والقوة في العلاقات الاجتماعية، تحت أي مسوغ كان، يعد انتهاكاً صريحاً للنواميس الاجتماعية، التي حددت نمط التعاطي والتعامل في العلاقات الاجتماعية؛ لأن العنف على المستوى المجتمعي يعني -على حد تعبير خليل أحمد خليل- أن يغتصب (صانع العنف) أدوات صراعية وصدامية، من أجل أن يتمكن (كما يرى) من البوح برأيه، والتعبير عن مكنون خاطره وفكره… لهذا فإننا نرى العنف من الأسلحة الخطيرة، التي تقوّض الكثير من مكاسب المجتمع، وإنجازات الأمة والوطن؛ لأن العنف بتداعياته المختلفة، وموجبتاه العميقة والجوهرية، سيصنع جواً وظروفاً استثنائية وغير مستقرة، مما تعرقل الحياة الاجتماعية والسياسية والتنموية.
ونظرة واحدة إلى الكثير من البلدان التي تحوّل العنف المضاد إلى ثابتة من ثوابت الفضاء السياسي والمجتمعي فيها، نجد أن العنف بتداعياته ومتوالياته الكثيرة هو أحد الأسباب الرئيسة لإخفاق مشاريع التنمية الاجتماعية والسياسية؛ لأن عسكرة الحياة المدنية يفرض واقعاً عاماً ووحيداً، هو واقع العنف والعنف المضاد؛ لأنه حينما تنعدم الحقوق الطبيعية للحياة الإنسانية المدنية تتحول هذه الحقوق إلى سياسة مكبوتة؛ إذ تنزل من ساحة العلن، ومن مجال التفاعل الحر بين الإرادات والمصالح والمثل العامة إلى أقبية الكبت، وتهرب من النور، وتدخل دهاليز الحرمان. هناك تتابع نموها غير الطبيعي، دون أية مراقبة مشروعة، ومن هنا كانت صيغة قيام الدولة المتغربة المستعارة كعصبية جديدة تضاف إلى العصبيات التقليدية، يشل في الواقع نمو المشاركة الجماهيرية الأوسع؛ إذ يبني في النهاية الدولة – الفئة ضد مشروع الدولة – الأمة، الذي وحده يناط به إلغاء السلطات التقليدية، وصهرها في بوتقة المشاركة الأشمل. فإن الدولة – الفئة تحرض ضدها مختلف القوى الفئوية الأخرى التي تجد نفسها مهددة في مصالحها الحيوية، وبالتالي فهي مضطرة للكفاح من أجل بلوغ العنف بطرق العنف المتاحة. هكذا يتعسكر المجتمع بكامل فئاته وطوائفه؛ إذ يأخذ الصراع بينهما شكل الإعدام المتبادل، الذي يحول التناقضات الرأسية فيه إلى مستوى التناقضات الأفقية، فيقيم الحواجز النفسية والإيديولوجية الحادة الحاسمة حتى فوق الأرض الواحدة المشتركة، وبين أبناء المجتمع الواحد، وتفرز هذه الحواجز النفسية والإيديولوجية حدوداً مادية واستراتيجية، تحول فئاتها إلى ما يشبه الجيوش المعبأة بالقوة أو بالفعل.
وهنا تتحول الحياة الاجتماعية في نظر صانع العنف إلى حياة مريضة، تكثر فيها الميكروبات، وتتفشى فيها الأمراض والأزمات، ويضطرب فيها السلوك الاجتماعي، وتتشكل كل الظروف وعوامل الخصب لنمو ظاهرة العنف في العلاقات الاجتماعية.
العنف والثقافة
لعلنا لا نأتي بجديد حين القول: إن هناك ترابطاً عميقاً بين مظاهر العنف وأدواته المستخدمة، والثقافة التي توجه الإنسان وتتحكم في سلوكه الخاص والعام.
فالعنف من حيث هو أذى باليد أو باللسان، إنما يرتكز على مسوِّغات وطاقات ودوافع يمكن تعيينها في تداؤب الطاقة العنفية وثقافة العنف. فهذا التداؤب أو العلاقة العضوية هي التي تساعدنا على اكتشاف المساحة المشتركة والعلاقة المباشرة بين الثقافة والعنف.
فالإنسان القادر على فعل العنف قادر أيضاً على عدم فعله. وسلوكه هذا مشروط ليس فقط بالقدرة على الفعل، بل متوجه ومحدود أيضاً بالظروف التي تسمح بالفعل العنفي أو لا تسمح به.
فالفعل العنفي هو نتاج جملة من الحالات والعوامل المتداخلة والمركبة مع بعضها بعضاً والتي تتسع للعوامل والشروط الذاتية، كما تتسع للعوامل والظروف الموضوعية. فطبيعة الثقافة هي التي تحدد -إلى حد بعيد- طبيعة فعل اليد أو اللسان؛ فإذا كانت الثقافة عنفيه يتحول اللسان إلى أداة للأذى بكل صنوفه وأشكاله، واليد إلى ممارسة القتل والتدمير وكل أشكال العنف المادي. أما إذا كانت الثقافة تحتضن مفاهيم الرفق والعفو والتسامح؛ فإن اللسان يتحول إلى مبشر بهذه القيم والمضامين، وتكون اليد مِعطاءة ومبادرة لفعل الخير.
“فالفعل العنفي هو نتاج لحالات من التوتر الفارد أو الجامع، وفي كل فعل يتلازم الخير والشر، اللاعنف والعنف، إذا أخذنا بالاعتبار وضع الفاعل والقابل، ونسبة الفعل وتفسيره. وحتى لا نخفض السلوك العنفي إلى مجرد مقولة أو مصادرة فلسفية، نقول: إنه ظاهرة اجتماعية واقعة، تجد تفسيرها في التاريخ الإنساني ذاته، وفي تواجه الطاقات النفسانية والاجتماعية والاقتصادية، أي طاقات القوة نحو تنازع الوجود وتغالب الإرادات ومما لا ريب فيه أن الفرد أو الجماعة يكتسبان السلوك العنفي/ اللاعنفي من خلال الثقافة التي توجه المجتمع، وتحكمه أو لا تحكمه من خلال أدوات الضبط العنفي ومعايير السلوك وقيم السياسة”(22).
فالمحبط أو العاجز أو المخفق، بصرف النظر عن دوافع وأسباب ومستويات الإحباط أو العجز أو الإخفاق، فإنه سيجد نفسه بحاجة إلى اكتشاف أو تصور مسوغ للحالة التي يعيشها. ومثل هذا المسوغ يجده في التاريخ، وفي التراث في السياسة، وفي الراهن لدى آخرين، لكنه يعبر عنه، في كل الحالات، من خلال ثقافته.
من هنا تبرز أمامنا مظاهر العنف، في الخطاب والرؤية الثقافية، كاغتيال الشيء بواسطة الكلمة (اغتيال الشخص انطلاقاً من اغتيال سمعته، صفاته، معاييره، قيمه.. الخ).
فالعنف بوصفه ظاهرة مجتمعية، له جذوره الثقافية، وموجاته المعرفية، ولا يمكن معرفة هذه الظاهرة حق المعرفة إلا من خلال معرفة الجذور والحواضن الثقافية للعنف.
العنف والعدوان
على المستوى الواقعي يتداخل مفهوم العنف مع مفهوم العدوان؛ بحيث من الصعوبة بمكان تحديد التمايزات الدقيقة بين العنف والعدوان.
فالعدوان يعرف بأنه مجموعة متنوعة من مظاهر السلوك تراوح بين مجرد إغاظة الآخرين، أو إبداء العداوة نحوهم إلى الاعتداء الفيزيقي.
ويشير (زيلمان) في مؤلفة العداوة والعدوان إلى تعريف العدوان بأنه “نشاط يسعى من خلاله شخص أن يحدث أذى جسمانياً أو ألماً فيزيقيا لشخص آخر، يكون مدفوعاً إلى تجنب هذا السلوك، أو أنه سلوك يحاول أن يحقق هدفاً معيناً يتحدد في إيذاء شخص آخر”(23).
ومن خلال التعريفات المذكورة أنفاً للعنف، نستطيع القول: إن بعض تعريفات العدوان، هي بعض مضامين العنف.
من هنا نستطيع القول: إن العدوان من المفاهيم العامة، التي تستوعب غيره من أنواع السلوك الإنساني. وبتعبير أدق؛ فإن العنف هو السلوك البارز والظاهر لميل الإنسان الفرد أو الجماعة الكامن للعدوان.
العنف والإرهاب
من الصعوبة بمكان أيضاً تحديد الفروقات الدقيقة بين مفهومي العنف والإرهاب؛ إذ إن مضمونها واحد. لعل الفرق الدقيق بينهما يعود إلى الدوافع والأهداف المرجوة من فعل العنف، أو فعل الإرهاب.
فالإرهاب سلوك تنظر إليه معظم النظم السياسية على أنه صورة من صور الجريمة المنظمة، وهو يرتبط بعملية تخويف أو ترويع للعامة.
وغالباً ما يعرف الإرهاب(24) على أنه أفعال الجماعات المنشقة عن النظم السياسية أو التيار العام في المجتمع الذي يوجه أفعاله ضد نظم سياسية معينة، أو رموز هذه النظم، من أجل إحداث تغيير يتفق وأهداف هذه الجماعات. ويختلط مفهوم الإرهاب بهذا المعنى مع مفهوم العنف السياسي الذي يرتبط بالأفعال المنظمة التي تهدد النظم السياسية، وقد يختلط الإرهاب بالعنف السياسي عندما يصبح التعبير عن الرأي السياسي إرهاباً، ومع ذلك فإن هناك ميلاً إلى وضع خطوط تميز الإرهاب عن العنف السياسي. على اعتبار أن الإرهاب يرتبط بفكرة بث الرعب والخوف في نفوس الأفراد والجماعات؛ فالعنف السياسي إذا تحول إلى فعل يهدد الجماهير، ويعرض حياتهم للخطر، فإنه يتحول إلى إرهاب تصبح الضحية معممة، وتصبح حياة أي فرد في المجتمع مهددة بالخطر.
ويشير الشيخ يوسف القرضاوي إلى طبيعة العلاقة بين العنف والإرهاب بقوله: “ورأيي أن بينهما عموماً وخصوصاً، كما يقول أهل المنطق، فكل إرهاب عنف، وليس كل عنف إرهاباً. إذ العنف -فيما رأينا-: أن تستخدم فئة من الناس القوة المادية في غير موضعها، وتستخدمها بغير ضابط من خلق أو شرع أو قانون. ومعنى (في غير موضعها): أن تستخدم القوة حيث يمكن أن تستخدم الحجة أو الإقناع بالكلمة والدعوة والحوار بالتي هي أحسن، وهي حين تستخدم القوة لا تبالي من تقتل من الناس، ولا تسأل نفسها: أيجوز قتلهم أم لا؟ وهي تعطي نفسها سلطة المفتي والقاضي والشرطي. هذا هو العنف الذي نجرِّمه. أما الإرهاب فهو: أن تستخدم العنف فيمن ليس بينك وبينه قضية، وإنما هو وسيلة لإرهاب الآخرين وتخويفهم، وإيذائهم بوجه من الوجوه، وإجبارهم على أن يخضعوا لمطالبك، وإن كانت عادلة في رأيك”(25).
وجماع القول: إننا نصل ومن خلال هذه التعريفات الموجزة لظاهرة العنف وعلاقاتها المختلفة، على أنها من الظواهر المجتمعية السيئة والخطيرة، والتي تتطلب العمل من مختلف المواقع لإنهاء أسبابها والقضاء على موجبتاها، وتفكيك بيئاتها المخصبة والمولدة.
* أسباب العنف
إن العنف، بكل مستوياته وأشكاله، ليس وليد الصدفة أو الفضاء المجرد، وإنما هو نتاج عوامل وأسباب عديدة. من أهم العوامل والأسباب التي تؤدي إلى نشوء ظاهرة العنف وبروزها في الفضاء الاجتماعي والسياسي العربي هي:
1- الأسباب الدينية – الثقافية
إن مشهد العنف المعاصر في الفضاء العربي تقوده جماعات وتنظيمات تنتسب إلى الإسلام، وترفعه شعاراً ومشروعاً لأجندتها وأهدافها. وحين التأمل العميق في هذه الظاهرة، نكتشف أن القراءة الدينية أو الفهم الديني لهذه الجماعات، هو عامل من عوامل جنوح هؤلاء إلى الأخذ بأسلوب العنف. و”ليس معنى هذا -ولا ينبغي أن يفهم منه- أن العنف يجد جذوره أو مرجعه في العقيدة الإسلامية على نحو ما يذهب إلى ذلك كثيرون! بل معناه أنَّ نسق القيم المتشبع بالدين -لدى المجتمعات العربية- يجد نفسه أحياناً في صراع مع منظومات جديدة من القيم، ويجد عسراً في التكيف معها، فيرجمها قسم من المجتمع بالبدعة والانحراف عن محجة النظام الديني والأخلاقي، فيما يجنح بعض منهم إلى انتداب النفس لدور رسولي، فتراه يكفر المجتمع الجاهلي الجديد، بعد تكفيره الدولة، ينصرف إلى إنفاذ الأمر الإلهي بوجوب إقامة الحد على الضلال، وتحديداً من عتبته القصية: الجهاد. ومع أنه لم يحصل أن وقع -أو انعقد- إجماع بين سائر الإسلاميين العرب على وجوب النهوض بـ(الفريضة الغائبة) أي الجهاد ضد الدولة والمجتمع. بل على الرغم من تصدى مثقفين إسلاميين وعلماء دين كبار لمهمة دحض دعوى الجهاد ضد المسلمين تحت أي ظرف، واعتبارها شططاً وغلواء في النظر إلى الدين واستقراء أحكامه، إلا أن ذلك لم يغير من الحقيقة شيئاً.. والحقيقة هي أنّ دم الناس يسفك يومياً بفتاوى رجال يشك في مدى حجيتهم الدينية، وفي أن الذي أرادوه جهاداً بات ينذر بالصيرورة فتنة”(26).
وليس من شك أن هذه الرؤية المتطرفة تتغذى من طبيعة الاختيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة في الاجتماع العربي المعاصر.
هذه الاختيارات التي تركت تأثيراتها العميقة في الفضاء العربي على المستويات النفسية والاجتماعية والثقافية، مما دفع البعض إلى الانكفاء والعزلة وبناء جزر اجتماعية معزولة عن الفضاء العام. وكانت هذه الجزر وهذه العزلة تتغذى باستمرار من رؤية دينية ضيقة تسوِّغ هذا الخيار، وهذه الممارسة، وتشرع لعملية الرفض بكل صوره للواقع القائم بكل خياراته ووقائعه.
من هنا لا علاقة للدين بالأمر إلا من حيث هو نصوص ووقائع قابلة للتأويل، أما إذا كان ثمة خلل، فالبحث فيه ينبغي أن ينصرف إلى صاحب التأويل، وإلى ظروف هذا التأويل.
والذي يزيد من تعميق هذا الخلل في الفضاء العربي بكل مستوياته، هو طبيعة الثقافة السائدة وخياراتها العامة؛ حيث إنها ثقافة ترفض التعددية وحق الاختلاف، وتكتفي من التقدم الإنساني والحداثة بالقشور، فيما تنغمس في إقامة أمر المجتمعات العربية على مقتضى قواعد الاختزال والاستبداد.
والمجتمعات العربية والمسلمة ليست فريدة من نوعها من حيث تركيبتها الاجتماعية والثقافية ومن حيث التنوع والتعدد، ولكن ما يميز هذه المجتمعات عن سواها هو أن هذه التراكيب الاجتماعية المتنوعة حافظت من الداخل على انغلاقيتها وانكفائها، فحدَّت بذلك من إمكانات التفاعل والتعايش.
والثقافة التي تغذي هذه الخيارات التي تمارس المفاصلة، وتشرع للانكفاء، هي من البيئات الخصبة لتبلور خيار الإقصاء والعنف.
وعليه؛ فإن من الأسباب الأساسية لبروز ظاهرة العنف في المجال العربي – الإسلامي، هو طبيعة الرؤية الدينية التي تنظر إلى الواقع والراهن برؤية تشاؤمية، سوداوية، وترفض التنوع، وتحارب الانفتاح والتقدم، ترى نفسها هي القابضة وحدها على الحق والحقيقة.
إن هذه الرؤية التي لا ترى إلا نفسها قابضة على الحقيقة تختزن إمكانية هائلة لممارسة النبذ والإقصاء والعنف تجاه المختلف والمغاير، سواء كان هذا فرداً أو جماعة.
فالجماعات الدينية التي كفرت الدولة والمجتمع، وحاربت الجميع بحجة أنهم جميعاً خرجوا عن مقتضيات الصراط المستقيم، هي جماعات تحمل رؤية أحادية وضيقة للمجتمع والحياة بكل حقائقها ووقائعها. هذه الرؤية هي التي تقود هذه الجماعات عبر متواليات نفسية وعقدية لممارسة العنف والنبذ تجاه الآخرين.
كما أن الثقافة السياسية والاجتماعية، التي تنبذ حق الاختلاف، وتحارب التنوع، وتؤلِّه القوة بعيداً عن مقتضيات الحق، هي أيضاً بيئة خصبة لإنتاج ظاهرة العنف في المجتمعات العربية.
من هنا، فإننا نصل إلى حقيقة أساسية، وهي: أن الرؤية الدينية المتعصبة لذاتها وقناعاتها والتي تلغي ما عداها، هي رؤية حاضنة بالضرورة لخيار النبذ والعنف.
كما أن الثقافة التي تنتج الإقصاء الاجتماعي، والنبذ الثقافي، والمفاصلة الشعورية بين المختلفين والمغايرين، هي ثقافة مولِّدة لظاهرة العنف.
وعليه، فإن السبب الأول لبروز ظاهرة العنف في المجال العربي – الإسلامي، هو السبب الديني – الثقافي، حيث يتداخل التعصب الديني الأعمى مع الجمود الثقافي والجفاف الفكري، بمقولات الجهاد، وتوظيف النصوص الدينية لنوازع سياسية وسلطوية وعنفية.
وهذا التداخل والتوظيف يستمد باستمرار ديناميته من حالة ثقافية ونفسية تحارب التنوع والتعدد، ولا تعترف بالآخر وجوداً ورأياً وحقوقاً، ولا ترى إلا طريق القوة وممارسة العسف لنيل أهدافها وتحقيق طموحاتها وتطلعاتها.
2- الأسباب السياسية
عديدة هي المؤشرات والحقائق التي تؤكد أن المشهد السياسي العربي يعيش الكثير من المشكلات البنيوية والهيكلية، التي لا تؤثر على راهن العرب فحسب، بل على مستقبلهم ومكاسبهم الحضارية.
وبسبب هذه الأزمات والمشكلات البنيوية التي يعانيها المشهد السياسي العربي، تعمل الكثير من النظم والمؤسسات على ممارسة أنواع العنف كلها لتجاوز نقاط الضعف البنيوية. وبدل أن تبحث هذه المؤسسات عن حلول حقيقية وواقعية لهذه الأزمات، فإن استخدمها للعنف يفاقم من المشكلة، ويوفر لها المزيد من أسباب وعوامل الحياة.
“ومن الطبيعي -تماماً- أن ينتهي إقفال الحقل السياسي أمام المجتمع، بإعمال القمع وتقييد الحريات وهضمها، إلى دفع هذا المجتمع إلى سلوك مسارب أخرى للتعبير عن مصالحه وحقوقه، وإلى ممارسة الاحتجاج على التسلط الدولتي المتغوِّل، أي على العنف الرسمي بعنف مضاد، قد يستعيد فيه المجتمع مخزونة الرمزي وتقاليد المقاومة لديه -وقد جربها حديثاً مع الاحتلال- لتحصيل حقوقه. وينبغي أن ندرك تماماً معنى أن يشعر قسم من المجتمع بالغبن والاضطهاد، ويفقد الثقة في العملية السياسية برمتها، وفي مدونة النزاعات والمنافسات السلمية، وخصوصاً حينما يكون مرجعه الثقافي عسير الانفتاح على منظومة السياسة الحديثة”(27).
فرؤية متزنة وواعية ورشيدة للكثير من نماذج العنف في الفضاء العربي تجعلنا نعتقد أن هناك أسباباً سياسية مباشرة لبروز هذه الظاهرة.
وهذا بطبيعة الحال لا يسوِّغ ممارسة العنف، ولكننا بحاجة إلى تحديد دقيق لأسباب هذه الظاهرة.
ولا شك أن انعدام الحياة السياسية الوطنية السليمة، وغياب أطر ومؤسسات المشاركة الشعبية في الشأن العام، ولَّد مناخاً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً يزيد من فرص الانفجار الاجتماعي، ويساهم في إقناع العديد من أفراد القطاعات الاجتماعية المختلفة بخيار العنف.
وهذا يقود إلى حقيقة أساسية من المهم التنبه لها دائماً؛ وهي: أن العنف أداة يستعين بها القاهرون والمقهورون، وإنْ كان ذلك بمقادير مختلفة ولغايات متباينة.
ولا ريب أن وجود توترات ظاهرة أو كامنة بين الدولة والمجتمع في الفضاء العربي، يساهم عبر تأثيراته ومولداته في بروز ظاهرة العنف. وتجارب الحروب الأهلية المؤلمة التي جرت في بعض البلدان العربية تؤكد بشكل لا لبس فيه أن تناقض الخيارات الكبرى بين السلطة والمجتمع يقود في المحصلة النهائية لنشوء ظاهرة العنف وبروزها.
وقد عبَّر هذا التناقض والتدهور عن أعلى تجلياته المادية، في انفلات غرائز العدوان المتبادل بين مكونات الحقل السياسي في مشاهد متلاحقة من العنف والإقصاء المتبادل، إلى درجة باتت فيها العلمية السياسية عاجزة -أو تكاد- عن أن تعبر عن نفسها في صورة طبيعية، أي كفعالية تنافسية سلمية، وإلى الحد الذي كاد فيه العنف -المادي والرمزي- أن يتحول إلى اللغة الوحيدة التي يترجم بها الجميع مطالبه ضد الجميع. “وعلم الاجتماع السياسي المعاصر يفرّق اليوم بين الدولة القوية والدولة القمعية، ويرى أن الدولة التي تلتحم في خياراتها ومشروعاتها مع مجتمعها وشعبها هي الدولة القوية، حتى لو لم تمتلك موارد طبيعية هائلة.. فالدولة القوية حقاً هي التي تكون مؤسسة للإجماع الوطني وأداة تنفيذه، وتنبثق خياراتها وإرادتها السياسية من إرادة الشعب وخياراته العليا.
ولا ريب أن الدولة القمعية -بتداعياتها ومتوالياتها النفسية والسياسية والاجتماعية- هي من الأسباب الرئيسة في إخفاق المجتمعات العربية والإسلامية في مشروعات نهضتها وتقدمها؛ لأنها تحولت إلى وعاء كبير لاستهلاك مقدرات الأمة وإمكاناتها في قضايا غير مهمة، ومارست العسف والقهر لمنع بناء ذاتية وطنية مستقلة”(28).
فالإخفاق السياسي -سواء على صعيد مؤسسة الدولة أو مؤسسات المجتمع- دفع باتجاه النزوع إلى التعبير عن الأهداف والغايات والمصالح بالعنف المادي والرمزي؛ بحيث إن غياب العلاقة السوية والعميقة بين السلطة والمجتمع دفع الأولى في المجال العربي إلى تبني خيارات ومشروعات فوقية – قسرية، وبفعل ذلك لجأت السلطة في العديد من مناطق العالم العربي إلى أدوات العنف لتسيير مشروعاتها وإنجاح خططها الاجتماعية والاقتصادية. وفي المقابل فإن المجتمع في ظل هذه الظروف يعبر عن نفسه وخياراته بامتلاك أدوات العنف واستخدامها.
فيتحول الفضاء السياسي والاجتماعي العربي، من جراء هذا التوتر والتباين، إلى وعاء للعديد من النزاعات المجردة من القيم الإنسانية والأخلاقية، واللاهثة صوب مصالح آنية وضيقة.
وفي أحشاء هذا التوتر تترعرع مشاريع العنف والإقصاء، وتتسع دائرة التناقض والتصادم، وتزيد فرص الانتقام وممارسة العسف بحق الآخر.
وهكذا نصل إلى مسألة أساسية؛ وهي: أن أحد الأسباب الرئيسة لبروز ظاهرة العنف، هو غياب حياة سياسية سليمة ومدنية في العديد من بلدان العالم العربي.
لذلك من الأهمية بمكان أن نرفض الاستئثار والتوحش في السياسة مهما كانت الإيديولوجية التي تسوغ له ذلك، ونقف ضد التنابذ والإقصاء مهما كان الفكر الذي يقف وراءه.
وإن النهج السياسي المعتدل، والذي يتعاطى مع الأمور والقضايا والحقائق السياسية والاجتماعية بعقلية منفتحة ومتسامحة، هو القادر على ضبط نزعات العنف، وهو المؤهل لمراكمة الفعل السياسي الراشد في المجتمع.
3- الأسباب الاقتصادية – الاجتماعية
لو تأملنا في وقائع العنف في المجال العربي لاكتشفنا، ودون عناء وصعوبة، أن إخفاقات التنمية والتفاوت الصارخ في مستويات المعيشة والبطالة وتدني مستويات الحياة والعيش الكريم، من الحقائق التي تساهم في بروز ظاهرة العنف في المجال العربي.
لذلك نلحظ، بوضوح وفي العديد من الدول، أن القاعدة الاجتماعية التي تعتمد عليها جماعات العنف، وتوفر لها الكادر البشري والحماية، هي مدن الصفيح وأحزمة البؤس التي تضرب طوقاً رمزياً ومادياً على كبرى المدن العربية.
فلا يمكن أن نغفل الأسباب الاقتصادية والعوامل الاجتماعية في بروز ظاهرة العنف؛ وذلك لأن “آليات العنف تتحرك صعوداً وتصعيداً بالتناسب مع هبوط مؤشرات التنمية وتدهور معدلات التوازن في توزيع الثروة! وربّ قائل: إن هذا اللون من النظر إلى الموضوع: موضوع العنف السياسي، يجنح نحو الأخذ بقراءة اقتصادية، بدليل أن ظاهرة العنف هذه ليست عامة في مجموع البلاد العربية، على الرغم من أنها تعيش جميعها -ومن دون استثناء- الوضع ذاته: حيث عمّ الخراب عمرانها الاقتصادي، وأودى بتوازنها المالي. وعلى هذا الاعتراض نكتفي بالرد التالي: إن البنية التحتية للعنف قائمة في معظم البلاد العربية -على ما فيها من تفاوت درجي- على صيرورته ظاهرة مادية يومية رهن بتوافر بنية فوقية هي إيديولوجيا العنف، ونعني بها -على وجه التحديد- الإيديولوجيا السياسية التي تسوِّغ لجماعة من الناس أهدافاً لحراكهم الاجتماعي، وتنتج لهم أطراً لتعبئة الطاقة الاجتماعية، والتعبير عنها. وهو ما ينطبق أمره على أي مشروع سياسي آخر يحتاج كي ينتقل من القوة إلى الفعل، بلغة أرسطو، أو من الفكرة إلى الواقع، بلغة ماركس، إلى توافر درجة ما من التناسب والتوافق بين الشروط الموضوعية والشروط الذاتية. وعلى ذلك فإن في جوف كل مجتمع عربي عنفاً أو شكلاً من العنف: أما جارياً أو مؤجلاً، طالما كان ثمة، في القاع الاجتماعي – الاقتصادي، ما يهيئ له المناخ والأسباب”(29).
فالتدهور الاقتصادي يقود إلى تصدعات اجتماعية خطيرة، وبدورها (التصدعات الاجتماعية)، توفر كل مستلزمات بروز ظاهرة العنف في الفضاء الاجتماعي. فليس مستغرباً أن تتحول حالات التهميش الاقتصادي إلى قنبلة قابلة للانفجار. فماذا ننتظر من ذلك الإنسان الذي لا يملك أدنى ضرورات حياته، ويفتقد إلى نظام الرعاية والحماية الاجتماعية، ودولاب الحياة المتسارع يزيد من ضنكه وصعوباته.
فالمجتمعات المهمشة، والتي تعيش الضنك في كل مراحل حياتها، هي مجتمعات مريضة؛ لأنها ببساطة لا تحيا حياة طبيعية. والمجتمع الذي تعيشه سلوكه العام مضطرب، تغشاه الأزمات الفجائية في كل مجال، تتفجر أحداثه العامة بشكل هبَّات وانحرافات جماعية، ولا يبقى له وسيلة للتعبير عن معاناته إلا باستعارة أساليب القمع الممارسة ضده ذاتها. إنه المجتمع المرشح للعنف بكافة أشكاله وأدواته، والمتقبل لكل الأفكار والإيديولوجيات التي تخاطب جمهور المحرومين والمقموعين. فالفقر لا يقود إلى الاستقرار، والبطالة والعطالة لا تؤدي إلى الأمن، بل إنهما الأرضية الاقتصادية – الاجتماعية لبروز حالات التمرد والعنف.
إن ظاهرة العنف في المجال العربي هي ظاهرة مركبة، نشأت عن اجتماع جملة من العناصر والأسباب وتضافرها على النحو الذي لا يمكن معها إرجاع هذه الظاهرة إلى سبب أو عنصر واحد دون سواه. ولا يمكن فهم هذه الظاهرة إلا ضمن شبكة العوامل والأسباب التي أفضت إلى بروزها وأدت إلى ظهورها.
الخاتمة
ثمة وقائع وحقائق سياسية واجتماعية عديدة ، تثبت بشكل لا لبس فيه ، أن العنف بكل مستوياته الذي يبدأ بالكلمة العنيفة والنابية وينتهي بممارسة القوة العارية والشدة تجاه الطرف الآخر ، لا ينهي أزمة ، ولا يعالج مشكلة ، بل التجارب السياسية والاجتماعية ، تثبت عكس ذلك تماما .. حيث أن استخدام العنف يفاقم من المشكلات والأزمات ، ويوسع من دائرة الضرر والاحتقان ، ويثير كل الدفائن العصبوية والشيطانية لدى الإنسان .. والتوغل في ممارسة العنف سواء على المستوى الاجتماعي أو المستوى السياسي ، لا يأبد حالة الهلع والخوف لدى الإنسان ، وإنما يكسرها ويتجاوزها كمقدمة ضرورية لتحدي آلة العنف ومواجهة مستخدمه سواء كان فردا أو سلطة ..
فعليه فإن الاعتقاد أن ممارسة القهر والعنف ، تنهي أزمات والمشاكل بصرف النظر عن طبيعتها ، فإن التجارب والممارسات ، تثبت عكس ذلك .. من هنا فإننا نعتقد إننا بحاجة في كل مواقعنا أن نقطع نفسيا وثقافيا مع نزعة العنف واستسهال استخدام أدواته ، ضد أبناء الأسرة أو الجيران ، أو يستخدمه رب العمل ضد مخدوميه ، أو يمارسه السلطان السياسي ضد مناوئي ومعارضيه ..
فممارسة العنف لا تفضي إلى استقرار الأسر والفضاء الاجتماعي ، وإنما توفر كل أسباب التفكك والانتقام والخروج عن مقتضيات الالتزام الأخلاقي والاجتماعي .. كما أن السلطة السياسية التي تمارس العنف ضد شعبها فإنها لن تحصد إلا المزيد من الاحتقان والابتعاد النفسي والعملي بين السلطة وشعبها ..
لهذا فإن المطلوب أن نقطع نفسيا وعمليا مع أسلوب العنف ، حتى نربي ذواتنا ونعمم ثقافة العفو والرفق في فضائنا الاجتماعي ، ونزيد من فرص التربية المدنية التي تعلي من شأن الحوار والتفاهم وتدوير الزوايا ، والبحث عن حلول سلمية تجاه كل مشكلة أو أزمة.. وفي سياق العمل على ممارسة القطيعة النفسية والمعرفية مع العنف بكل حمولته النفسية والاجتماعية والسياسية ، نود التأكيد على النقاط التالية :
1- لا يكفي لنا كأفراد وكمجتمع أن ندين ممارسة العنف بكل مستوياته النفسية والأخلاقية، وإنما من المهم العمل على بناء حقائق الرفق والحوار والتفاهم في المجتمع .. حتى تتحول حالة اللاعنف في مجتمعنا ، إلى حالة طبيعية مغروسة في نفوسنا وثقافتنا ..
أما إذا اكتفينا بالنقد الوعظي لظاهرة العنف ، دون بناء الحقائق المضادة لها ، فإننا كأفراد ومؤسسات سنلجأ مع أي أزمة إلى استخدام العنف ..
فالرهان على مكافحة ظاهرة العنف ، ينبغي أن لا يكون فقط على الضوابط والالتزام الأخلاقي لدى الإنسان ، وإنما على وجود بناء مؤسسي وتعبيرات رقابية تحول دون ممارسة العنف أو اللجوء إليه ..
فالإنسان ( أي إنسان ) قد تغريه عناصر القوة والقدرة المادية التي يمتلكها لممارسة العنف ، ولا سبيل لمنعه إلا ببناء حقائق ومعطيات مؤسسية ، تحول دون ممارسة العنف حتى لو سولت له نفسه باستخدام العنف ..
فالمجتمعات المتقدمة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ، لم تتمكن من مواجهة مخزون العنف في واقعها ، إلا ببناء مؤسسات ومعطيات وحقائق تمنع قانونيا ورقابيا ممارسة العنف بكل مستوياته ، وتعمل في ذات الوقت على غرس ثقافة العفو والتسامح والرفق واللاعنف في واقعها الاجتماعي ، عن طريق التعليم ووسائل التنشئة والتربية ومؤسسات الإعلام والتوجيه الموجودة في المجتمع ..
بهذه الطريقة تمكنت هذه المجتمعات من ضبط نزعات العنف لدى الأفراد والمؤسسات العامة .. وبدون هذه الطريقة المتكاملة ، لن نتمكن من ضبط نزعات العنف التي قد تتسرب إلى نفوس الجميع ، وتستخدم بمبررات عديدة ..
2- إننا في الوقت الذي ندين ظاهرة العنف بكل مستوياته ، ونطالب بمحاربتها والوقوف بحزم تجاه كل أشكالها وتعبيراتها ، ندعو إلى بناء تفسير علمي وموضوعي تجاه هذه الظاهرة .. فرفض هذه الممارسة ، لا يمنع من بناء تفسير علمي لها على مختلف المستويات ..
وفي تقديرنا أن بناء تفسير علمي وموضوعي لهذه المسألة ، يساهم في بناء إستراتيجية صحيحة لمواجهتها ..
وإننا من الضروري إذا أردنا مواجهة هذه الآفة ، أن نقاومها في أسبابها الحقيقية وعواملها الجوهرية ، وبناء تعبيرات مؤسسية وطنية تعنى بشؤون بناء الحقائق المضادة لكل موجبات ومستويات العنف المختلفة ..
3- إن التطورات والتحولات المتسارعة التي تجري في المنطقة العربية اليوم ، تثبت بشكل عملي على أن خيار العنف سواء استخدم من قبل السلطة أو استخدم من قبل الشعب ، فإنه لن يفضي إلى نتائج إيجابية ، وإنما سيوفر كل مبررات استمرار سفك الدماء وممارسة القتل دون أفق إنساني وحضاري .. فالعنف لا ينهي أزمة سياسية أو مشكلة اجتماعية ، وإنما يزيدهما تعقيدا وصعوبة .. وإن الحكومات والشعوب بإمكانهما أن يصلا إلى ما يريدوه عن طريق الرفق والعفو والنضال السلمي واللا عنفي .. وقد أثبتت تحولات العالم العربي الراهنة ، صحة وسلامة هذا الخيار .. أما المجتمعات التي لجأت إلى العنف ، فإن أزماتها ستطول ، وتضحياتها ستتضاعف ..
4- وحتى يكتمل عقد العفو والرفق والرحمة والصلح والوئام وكل القيم المضادة للعنف والشدة والغلظة ، من الضروري إعادة قراءة قيم الإسلام ومفاهيمه على أساس أصل أن الدين الإسلامي هو دين الرحمة والرفق والسلام ،وليس دين القتل والشدة والحرب .. وذلك حتى نتمكن من بناء منظومة قيمية متكاملة ، تنبذ العنف بكل مستوياته قولا وعملا ، وتمارس الرفق والرحمة مع الأعداء قبل الأصدقاء ، ومع المختلفين قبل المنسجمين .. وبهذه الكيفية نتمكن نحن كأفراد ومجتمعات من بناء حقائق اللاعنف في واقعنا الخاص والعام ، بعيدا عن نزعات الاستئصال والعنف ..
فالعنف بكل مستوياته ، لا يخلف إلى الدمار الاجتماعي والسياسي ، ومن يبحث عن حريته وإنصافه ويتوسل في سبيل ذلك نهج العنف ، فإنه لن يحصد إلا المزيد من الظلم والافتئات على الحقوق والكرامات .. فالعنف هو بوابة الشر الكبرى على الشعوب والحكومات ، والمطلوب من الجميع هو نبذ هذا الخيار والإعلاء من قيم الحوار والتسامح والعفو .. وهذا يتطلب بناء رؤية ومشروع فكري وسياسي وإعلامي وتربوي متكامل ، يستهدف محاصرة نوازع العنف في النفس والواقع ، وبناء حقائق مؤسسية تطور من حقائق اللاعنف في المجتمع . ريــب أن ظــاهــرة الــعــنــف بــكــل مــســتــويــاتــهــا , نــتــاج عــوامــل وأســبــاب
عـديـدة .. ولا يمـكـن إدانـة الـعـنـف لإنهائها , إلا بـإعـطـاء تـفـسـيـر عـلـمـي واجـتـمـاعـي دقـيـق وواقـعـي , لـطـبـيـعـة الـعـوامـل والأسـبـاب الـتـي تـشـكـل
بشكل مباشر ظاهرة العنف بكل مستوياتها .. وحـي الـتـأمـل ف طـبـيـعـة وخـيـارات الـثـقـافـة الـسـيـاسـيـة الـسـائـدة ف المـنـطـقة الــعــربــيــة , نــدرك أن هــذه الــثــقــافــة وخــيــاراتــهــا وطــبــيــعــة نــظــرتــهــا لــلــســلــطــة الــســيــاســيــة ودور قــوى المجــتــمــع وتــعــبــيــراتــه المــتــنــوعــة , هــو أحــد الــعــوامــل الأســاســيــة لإنــتــاج ظــاهــرة الــعــنــف .. بمــعــنــى أن الــســيــاســة كــمــمــارســة وخـيـارات , هـي عـلـى المـسـتـوى المـبـدئـي الـقـادرة عـلـى تـفـكـيـك مـوجـبـات
العنف , وهي القادرة على معالجة الملفات الشائكة ف أي بيئـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة اجـتـمـاعـيـة , بـعـيـدا عـن خـيـارات الـعـنـف ومـتـوالـيـاتـه المـبـاشـرة ذات الـطـبـيـعـة الاستئصالية .. ويــبــدو أنــه بــدون تــغــيــيــر أو تجــديــد نمــط الــثــقــافــة الــســيــاســيــة ف المــنــطــقــة الــعــربــيــة , لــن يــتــمــكــن الــعــرب الانــعــتــاق مــن ظــاهــرة الــعــنــف .. وثــمــة أســبــاب عــديــدة لــهــذه المــســألــة , إلا أن مــن أهــم هــذه الأســبــاب الــنــقــاط التالية :
- السياسية ممارسة وحشية أم مدنية : لـو تـأمـلـنـا قـلـيـلا ف طـبـيـعـة ومـعـنـى الـسـيـاسـة ف المـنـطـقـة الـعـربـيـة , لـوجـدنـا أن هـذا المـعـنـى ولـوازمـه الـعـمـلـيـة , هـو الـذي يـسـاهـم ف إنـتـاج ظـاهـرة الـعـنـف ..وإن هـذا المـعـنـى غـيـر قـادر عـلـى مـعـالجـة هـذه الـظـاهـرة , وإن المـمـارسـات الـسـيـاسـيـة المـتـبـعـة تـسـاهـم ف تـأجـيـج كـل الـعـوامـل المـفـضـيـة إلى العنف الرمزي أو المادي .. فـالـسـيـاسـة ف أغـلـب دول المـنـطـقـة الـعـربـيـة , لا تمـارس بـوصـفـهـا حـقـلا مـدنـيـا وبـعـيـدا عـن أحـن الـتـاريـخ والـنـزعـات الأيـدلـوجـيـة الـصـارخـة .. وإنمـا تمـارس وكـأنـهـا حـقـلا وحـشـيـا , لـذلـك فـإنـهـا تـتـوسـل بـوسـائـل غـيـر مـدنـيـة لإدارة مـصـالحـهـا أو مـنـع تجـاوزهـا .. لـذلـك تـغـيـب مـن أغـلـب المجـتـمـعـات الـعـربـيـة فـكـرة الـتـنـافـس الـسـيـاسـي الـسـلـمـي والـبـعـيـد عـن نزعات الخصومة والعداء .. ووفــق هــذه المــمــارســة نــتــمــكــن مــن الــقــول أن المــمــارســة الــســيــاســيــة ف أغـلـب دول الـعـالـم الـعـربـي , تـسـاهـم ف إنـتـاج ظـاهـرة الـعـنـف بالمستويين الــرمــزي والمــادي .. وإنــه مــا دام الــتــعــامــل مــع الــســيــاســة بــعــيــدا عــن مـقـتـضـيـات المـدنـيـة والـسـلـمـيـة فـإنـهـا لا تـنـتـج إلا الـعـنـف .. ولـن نـتـمـكـن
مـن إنـهـاء هـذه الـظـاهـرة الخـطـيـرة عـلـى المـمـارسـة الـسـيـاسـيـة وكـذلـك عـلـى المجـتـمـع بـكـل دوائـره ومـسـتـويـاتـه , إلا بـتـأسـيـس المـمـارسـة الـسـيـاسـيـة والـتـنـافـس الـسـيـاسـي بـي الـتـعـبـيـرات والمـكـونـات الـسـيـاسـيـة عـلـى قـاعـدة أن هــذه المــمــارســة تجــري ف ســيــاق الــنــشــاط المــدنــي والــذي يــديــر كــل المـــمـــارســـات الـــســـيـــاســـيـــة بـــعـــيـــدا عـــن نـــزعـــات الإلـــغـــاء والإقـــصـــاء
والتوحش .. ولـو تـأمـلـنـا ف الـبـواكـيـر الأولـى لـنـشـوء ظـاهـرة الـعـنـف ف المـنـطـقـة الـعـربـيـة , لـوجـدنـا أن الحـاضـنـة الأسـاسـيـة والـفـعـلـيـة لـهـذه الـبـواكـيـر, هـي نـزعـات الـتـوحـش ف المـمـارسـة الـسـيـاسـيـة والـتـي حـولـت الـبـعـض مـن مـوقـع مـن
يـطـمـح إلـى خـدمـة مـجـتـمـعـه وأمـتـه وانـطـلاقـا مـن الـنـشـاط الـسـيـاسـي – المـدنـي , إلـى الـلـجـوء إلـى الـعـنـف كـردة فـعـل عـلـى مـا تـعـرض إلـيـه مـن عـنـف نـفـسـي وجـسـدي , انـهـى مـن تـفـكـيـره إمـكـانـيـة الـعـمـل الـسـيـاسـي
من دون دفع الفاتورة العالية لهذه الممارسة .. وسـتـبـقـى الـسـيـاسـة وممـارسـاتـهـا مـن أهـم الحـواضـن المـسـاهـمـة والمـنـتـجـة لــظــاهــرة الــعــنــف المــادي والــرمــزي .. فــتــحــولــت الــســيــاســة إلــى فــضــاء لمــمــارســة كــل أشــكــال الخــصــومــة والــتــوحــش , لــلــظــفــر بــالــهــدف الــذي تـسـعـى إلـيـه سـواء كـنـت فـردا أو مـؤسـسـة أو دولـة .. ويـبـدو أنـه بـدون تحـويـل الـسـيـاسـة مـن حـقـل لمـمـارسـة كـل أشـكـال الـتـوحـش , إلـى حـقـل مـدنـي تمـارس فـيـه الـسـيـاسـة بـوسـائـل تـنـافـسـيـة سـلـمـيـة , وتـتـوسـل ف كـل أهـدافـهـا وغـايـاتـهـا بـوسـائـل سـلـمـيـة وبـعـيـدة كـل الـبـعـد عـن الـعـنـف الـرمـزي أو المـادي , لـن تـتـمـكـن المجـتـمـعـات الـعـربـيـة مـن مـعـالجـة ظـاهـرة الـعـنـف السياسي ..
فـالـسـيـاسـة لـيـسـت حـقـلا لـلـقـتـل والاغـتـيـال أو ممـارسـة الـعـنـف المـادي لـلـوصـول إلـى الأهـداف الـسـيـاسـيـة .. فـالـسـيـاسـة كـمـمـارسـة تـدبـيـريـه ف المجـتـمـعـات , هـي بمـثـابـة فـن صـنـاعـة الخـيـر الـعـام .. ولا يمـكـن أن يـصـنـع الخـيـر الـعـام ف أي بـيـئـة اجـتـمـاعـيـة بـوسـائـل عنيفة وقـسـريـة .. وإنمـا يـتـحـقـق مـفـهـوم صـنـاعـة الخـيـر الـعـام , كـلـمـا تـلـتـزم الـسـيـاسـة فـكـرا وممـارسـة
بالثقافة المدنية ومقتضياتها القانونية والدستورية والثقافية .. ونــحــســب أن مــن مــآزق الــعــالــم الــعــربــي الــراهــنــة , هــو الــتــعــامــل مــع الـسـيـاسـة , لـيـس بـوصـفـهـا مـيـدانـا لـلـتـنـافـس المـدنـي والـذي لا يـتـعـدى حـدود المـدنـيـة والإنـسـانـيـة , وإنمـا بـوصـفـهـا حـقـلا لـلـتـوحـش وممـارسـة الـقـوة
بعيدا عن العقل والضوابط القانونية والأخلاقية .. لـهـذا تـغـيـب ف الـعـديـد مـن المجـتـمـعـات الـعـربـيـة الـقـدرة عـلـى الـتـسـويـة أو الحـلـول الـوسـطـى , الـتـي تـراعـي جـمـيـع الأطـراف , وتـعـمـل عـلـى ضـمـان حق جميع الأطراف .. المـمـارسـة الـسـيـاسـيـة لا يمـكـنـهـا أن تحـقـق انـتـصـارات كـاسـحـة عـلـى الـطـرف أو الأطـراف الـسـيـاسـيـة الأخـرى .. ومـن يمـارسـهـا بـعـقـلـيـة الانـتـصـارات الـكـاسـحـة , سـيـلـجـأ إلـى ممـارسـة الـعـنـف والـذي بـدوره , سـيـسـتدعـي عـنـفـا مـقـابـلا .. وبـهـذا تـتـحـول الـطـمـوحـات الـسـيـاسـيـة , إلـى عـنـوان لممارسة العنف ف الفضاء الاجتماعي .. . الـسـيـاسـة كـمـمـارسـة هـي فـضـاء لـلـتـعـاون والـتـحـالـف والـتـضـامـن
مــع الآخــريــن , ولــيــســت فــضــاءا لــلــتــنــاكــر والــتــبــاعــد وغــرس الأحــقــاد بــي الــنــاس .. فــكــل المــمــارســات الــســيــاســيــة الــتــي تمـارس بـذهـنـيـة الـتـنـاكـر وغـرس الأحـقـاد , سـتـسـاهـم ف إنـتـاج ظاهرة العنف ..
أمــا المــمــارســات الــســيــاســيــة الــتــي تمــارس بــعــقــلــيــة الــتــعــاون والــتــضــامــن والـتـحـالـف فـإنـهـا تـعـزز الـثـقـافـة المـدنـيـة والـتـعـامـل المـدنـي مـع الـسـيـاسـة فكرا وممارسة .. وعـلـيـه فـإن الـثـقـافـة الـسـيـاسـيـة الـتـي تـغـلـب قـيـم الـتـبـاعـد الـتـنـاكـر بـي الـنـاس أو أبـنـاء الـوطـن والمجـتـمـع الـواحـد , فـإن هـذه الـثـقـافـة الـسـيـاسـيـة تتحمل مسؤولية مباشرة ف إنتاج ظاهرة العنف السياسي .. أمـا الـثـقـافـة الـسـيـاسـيـة الـتـي تـغـلـب قـيـم الـتـواصـل والـتـعـاون وتـنـمـيـة المشتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــركات وتعزز النسيج الاجتماعي وتعمل على زيادة وتيرة الـتـلاقـي والـتـفـاهـم بـي الـنـاس فـإنـهـا ثـقـافـة سـيـاسـيـة , تـسـاهـم بـشـكـل مباشر ف إنتاج الثقافة المدنية وتعزيز الخيار المدني ف المجتمع .. وتـأسـيـسـا عـلـى هـذه الـرؤيـة نـتـمـكـن الـقـول : أن المـنـطـقـة الـعـربـيـة تـعـانـي من أزمات ومشاكل عــــــــــــــــــــــــــــــــديدة , وإنه لا يمكن معالجة هذه الأزمات والمشاكل , إلا بتغيير الـثقافة السياسية السائدة ف المجتمعات العـربية .. وبـوابـة هـذا الـتـغـيـيـر والـتـجـديـد , هـو تـغـيـيـر مـعـنـى الـسـيـاسـة والمـمـارسـة الــســيــاســيــة .. فــالــســيــاســة لــيــســت ممــارســة لــلــقــهــر وزيــادة الــتــوتــرات
والمـشـاكـل بـي الـنـاس , بـل هـي ممـارسـة لـزيـادة وتـيـرة الـتـفـاهـم والـتـلاقـي بـي الـنـاس , وتـنـمـيـة الخـيـر بـكـل مـسـتـويـاتـه ف المجـتـمـع .. والاسـتـنـاد ف كـل هـذه المـمـارسـات عـلـى قـنـاعـة عـمـيـقـة ويـنـبـغـي أن تـكـون ثـابـتـة ف الــثــقــافــة الــســيــاســيــة .. ومــفــادهــا الجــوهــري هــو أنــه كــلــمــا تــبــتــعــد هــذه الـثـقـافـة مـن المـعـنـى المـتـوحـش ف ممـارسـة الـسـيـاسـة , فـإن هـذا المجـتـمـع سـيـكـون أقـرب إلـى الـصـلاح ف كـل شـيء .. أمـا إذا مـورسـت الـسـيـاسـة
بــذهــنــيــة الــتــوحــش فــإنــهــا ســتــكــون مــصــدر لــلــكــثــيــر مــن الــشــرور ف المجتمع .. وخـلاصـة الأمـر : أن إنـهـاء ظـاهـرة الـعـنـف الـسـيـاسـي مـن فـضـائـنـا الـعـربـي , يـتـطـلـب الـعـمـل عـلـى تـبـديـل أسـس ومـرتـكـزات الـثـقـافـة الـسـيـاسـيـة ,
بحيث لا تكون مصدرا لإنتاج العنف بكل مستوياته ف المجتمع .
الهوامش:
- سورة البقرة ، اية 30 ..
- سورة المائدة ، اية 27..
- سورة المائدة ، اية 32..
- سورة الكهف ، اية 29..
- سورة الغاشية ، اية 22..
- سورة يونس ، اية 99 ..
- اعداد وترجمة محمد الهلالي وعزيز لزرق ، العنف ، ص5 ، دفاتر فلسفية – دار تو بقال للنشر ، الطبعة الأولى ، المغرب 2009م ..
8- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للرافعي، مادة عنف ص 516، الجزء الثاني، المطبعة الكبرى الأميرية، 1906م.
9- رواه مسلم في صحيحة من حديث عائشة برقم (2593).
10- رواه مسلم عن جرير، برقم (2592).
11- الدكتور أبو الوفا محمد أبو الوفا إبراهيم، البعد الجنائي للعنف في الجرائم الإرهابية في القانون المقارن والفقه الإسلامي، ص 11. ورقة مقدمة إلى ندوة ظاهرة العنف في مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب 17 – 18 مايو 2004م، جامعة قطر.
12- محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، برقم 707، ص 599، القاهرة، دار النهضة العربية 1986م.
13- محمد سلامة، إجرام العنف، مجلة القانون والاقتصاد، ص 270، السنة الرابعة والأربعون، العدد الثاني، 1974م.
14- محمد فتحي عيد، الإجرام المعاصر، ص 58، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض 1999م.
15-المبسوط، ج24، ص38، دار المعرفة، بيروت.
16-الأم، ج 3 ص 236 دار المعرفة، بيروت.
17- راجع الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي، ص282 دار الكتب العلمية، بيروت 1993م.
18- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4 ص 242 مطبعة عيسى البابي الحلبي.
19- مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 27- 28 ص 19، خريف 1983م مركز الإنماء القومي – بيروت.
20-ون لوكا، آليات العنف، في ظاهرة العنف السياسي من منظور مقارن، تحرير وتقديم نيفين عبد المنعم مسعد، ص 33، أعمال الندوة المصرية الفرنسية الخامسة، القاهرة، 19-12 نوفمبر 1993م، مركز البحوث السياسة – القاهرة.
21- مجلة الفكر العربي المعاصر مصدر سابق ص 19.
22-المصدر السابق ص 25.
23-راجع دراسة علي أحمد الطراح، العنف والتطرف والإرهاب بمجتمعات الخليج بين الواقع المأزوم والمشروع الوطني لنزع فتيل الأزمة، ورقة مقدمة لندوة ظاهرة العنف في مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب 17- 18 مايو 2004 – جامعة قطر.
24- المصدر السابق ص 7.
25- يوسف القرضاوي، المسلمون والعنف السياسي نظرات تأصيلية ص21، ورقة مقدمة إلى ندوة العنف في مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب 17- 18 مايو 2004 – جامعة قطر.
26- عبدالإله بلقزيز، العنف والديموقراطية، ص 48، سلسة تصدر عن جريدة الزمن المغربية، مايو 1999م.
27- المصدر السابق، ص 40.
28- محمد محفوظ، الأمة والدولة – من القطيعة إلى المصالحة لبناء المستقبل، ص127، المركز الثقافي العربي، بيروت 2000م.
29- بلقزيز، مصدر سابق، ص43.