رغم رحيلها الابدي قبل أكثر من خمسين عامًا…ما زالت صورة امي ماثلة في البال بوجهها المنير ، وقلبها الكبير، والحكم المتدفقة منها كسيل الأمطار أمام كل حدث يعصف بنا ،أو حادثة تمر…
على يدها تعلّمت حبّ امتي معتزًا بتاريخها منذ أن اهدتني مع والدي في عيد ميلادي الثامن كتاب “فتوح الشام”للواقدي، متعلقا بأمجاد العرب والمسلمين وفخورًا بابطالهم الذين نفتقد أمثالهم اليوم..
في المنزل، الذي لم تغبّ عنه صورة جمال عبد الناصر، كانت امي تروي لي بكل بساطة وانا فتى لماذا تحب ابا خالد وكيف يجسّد لها كرامتها وعزّتها..
لا أنسى كيف ودعتني حين قررت الذهاب إلى الأردن بعد نكسة 1967 متطوعًا في الثورة الفلسطينية وهي تقول…”لاشك أن قلبي سيكون معك دائما..ولكنه مقرون بالدعاء لك ولكل المقاومين بالنصر على أعداء امتنا .
كنت اسألها مازحًا “ما الذي لمّ الشامي والمغربي “في إشارة إلى زواجها بابي وهي المغربية من فاس وأبي المشرقي الشامي من صافيتا، وكانت ام اديب تجيب: “إنها تومبكتو في مالي(السودان الفرنسي سابقا) وهي بوابة الحضارة الإسلامية إلى أفريقيا، وقد هاجر إليها والدي من بلاده بعد الاحتلال الفرنسي كما هاجر إليها والدك من بلاده وهو في السابعة عشرة من عمره بعد أن ضاقت سبل العيش به وبأهله…
من الحِكم التي لا أنساها ما كانت تقوله لي وهي تضع “الفرنك”في حذائي كل صباح :”تذّكر دائما أن الفلوس تحت قدميك تبقي رأسك عاليا.. والفلوس فوق رأسك تجعل رأسك واطيًا”…
كان بيتها مفتوحًا لكل من يقصده..ولا أنسى كيف كان هذا البيت البسيط يتسـع لنوم إعداد من الزوار-الناخبين الذين يأتون إلى بيروت ويضطرون للنوم فيها- وحين كان واحد من اخواتي يظهر بعض التأفف لغياب الخصوصية في المنزل كانت تقول لنا :”اللي بدو يعمل جمّال بدو يعلّي باب دارو” وقد اختار والدكم أن يكون جمالًا في خدمة اهله وناسه ووطنه…وكثيرًا ما كانت تقول لنا “من نِعم الله عليك حاجة الناس اليك”و”حبّ الناس من حبّ الوطن..كما حبّ الوطن من حبـ الناس”
.رحم الله والداي، أمي وأبي، فقد كانا لنا مدرسة ونموذجًا وقدوة…