اجتماعالاحدث

الأقليات الدينية بين الانتماء الديني والانتماء الوطني | بقلم محمد محفوظ

ولا ريب أن القضايا والإشكاليات ، التي تثيرها تحولات الربيع العربي تجاه موقع ودور الأقليات الدينية في المنطقة العربية ، عديدة وكثيرة ، ومتداخلة مع بعضها البعض .. 

وستبقى هذه الإشكاليات قائمة ، ومؤثرة في النسيج الاجتماعي والسياسي العربي ، ولا يمكن التغافل عن هذه الحقيقة .. لهذا فهي بحاجة إلى مقاربة جدية من قبل النخب السياسية الجديدة ، حتى تتحول الأقليات الدينية من موقع المتوجس من تحولات دول الربيع العربي ، والخائف على واقعه وخصوصياته ودوره ، إلى موقع المتفاعل والمشارك بكل ثقله الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في مشروع التحول الديمقراطي في المنطقة العربية .. ولعل من أبرز الإشكاليات المطروحة في هذا السياق : هي طبيعة العلاقة بين الانتماء الديني والانتماء الوطني . .وهل يمكن على المستويين النظري والعملي بناء رؤية مجتمعية متكاملة تحترم خصوصيات الانتماء الديني ، كما تلتزم بكل مقتضيات ومتطلبات الانتماء الديني .. 

وقبل الدخول في تفاصيل هذه الإشكالية ، وكيف ينبغي أن تعالج ، من الضروري في هذا السياق القول : أن معالجة هذه الإشكالية وغيرها من الإشكاليات المتعلقة بالأقليات الدينية في الاجتماع العربي المعاصر ، هي مسؤولية الأكثريات الدينية والأقليات الدينية .. بمعنى أن جميع مكونات وأطياف الاجتماع العربي المعاصر ، معنية وبمعالجة هذه الإشكاليات .. فهي ليست إشكاليات خاصة بوجود الأقليات الدينية ، وإنما متعلقة بطبيعة الخيارات السياسية والثقافية والاجتماعية التي تدير الشأن والمجال العام في الاجتماع العربي المعاصر.. 

لهذا من المهم التعامل مع هذه الإشكاليات ، بوصفها إشكاليات وطنية وقومية ، وبحاجة إلى تظافر كل الجهود من أجل بلورة مقاربة علاجية جادة لهذه الإشكاليات .. 

والمرحلة التي تعيشها المنطقة العربية اليوم حساسة ، وبالذات على صعيد العلاقة بين مكوناتها وتعبيراتها المختلفة .. فإما تتأسس وحدة صلبة قائمة على الاحترام المتبادل والمشاركة المتساوية في الحقوق والواجبات بين جميع الفئات والأطياف ، أو انحدار الأوضاع نحو المزيد من التفتت والتشظي والتآكل الداخلي .. 

ويبدو أن طبيعة الخيارات السياسية والثقافية هي التي تحدد إلى حد بعيد طبيعة مآلات الأمور على هذا الصعيد .. فإذا كانت الخيارات السياسية استبدادية – استئثارية ، ونابذة للمختلف ، فإن الأمور تتجه صوب التآكل الداخلي .. أما إذا كانت الخيارات السياسية تشاركية – تعددية ، تصون حقوق الإنسان وتحمي مقتضيات العيش المشترك ، فإن الأمور تتجه صوب الوحدة الحقيقية المبنية على أسس صلبة لا افتئات فيها ، ولا إقصاء بأي عنوان من العناوين .. 

جدلية العلاقة والانتماء بين الدين والوطن ، لا يمكن أن تتأزم إلا في ظل الأنظمة التي تغيب الحريات وتنتهك الحقوق .. أما في المجتمعات والأنظمة التي تحترم وتحافظ على الحقوق ، فإن هذه الإشكالية ليست مطروحة على نحو إشكالي ومتأزم ..

فالأطلس الأنثربولوجي لكل الدول والمجتمعات ، يعكس حقيقة أن جميع هذه المجتمعات متعددة ومتنوعة على أكثر من صعيد ( ديني – مذهبي – أثني – قومي ) وإن تأزم العلاقة بين دوائر الانتماء في حياة الجماعات ، يعود إلى بروز خيارات سياسية تمارس القسر والقهر لتذويب بعض الانتماءات أو صهرها بالقوة ..

فالإشكالية لا تعود إلى وجود التعدد الديني أو المذهبي ، وإنما إلى طريقة إدارة هذا التعدد فحينما تكون جماعة ما ، هي ضحية وطنها فإنها بطبيعة الحال تلجأ إلى انتماءها الديني أو المذهبي كوسيلة للدفاع عن الذات ومصالحها ..

وعليه فإننا نعتقد أن معالجة هذه الإشكالية ، يتم ببناء حقائق المواطنة المتساوية ، بحيث لا يكون الانتماء الديني أو المذهبي سبب لمنعي من بعض الحقوق المستحقة أو منحي ما لا أستحقه ..

وإن التعايش السلمي بين المكونات الدينية والمذهبية في الاجتماع الوطني ، ليس تعايشا سكونيا أو رتيبا ، وإنما هو تفاعل ومشاركة مفتوحة على كل المصائر ، وهذا لا يتأتى إلا بخلق معادلة قانونية واجتماعية ووطنية قائمة على ضمان حق الاختلاف مع صيانة وحماية فريضة المساواة .. فالاختلاف الديني لا يشرع انتهاك الحقوق ، ولا تعايش بدون حق الاختلاف وفريضة المساواة .. 

إن مشكلة الأقليات الدينية في المنطقة العربية مشكلة حقيقية ، ولكن لا يمكن معالجة هذه المشكلة بمعزل عن مشروع الإصلاح الوطني .. ومن يبحث عن حلول خاصة لمشكلة الأقليات في المنطقة العربية ، فإنه لن يحقق في أحسن الاحتمالات إلا الأشكال الفوقية للحقوق ..

إننا نعتقد أن مشكلة الأقليات لا تعالج إلا في سياق إصلاح وطني شامل ، يعيد البناء السياسي – الوطني وأولوياته ..

لهذا فإن مشاركة فعالية الأقليات الروحية والسياسية والثقافية والاجتماعية في مشروع الإصلاح الوطني ، يساهم في التعجيل في إصلاح أوضاع الجميع .. وبتوسع أكثر نقول إننا نتصور أن هناك ثلاثة مسارات لمعالجة مشكلة الأقليات في المنطقة العربية وهي : 

1-المسار السياسي المتعلق بمسألة التمثيل السياسي للأقليات في أجهزة الدولة ومؤسساتها وحماية التعددية الدينية في الفضاء الوطني سياسيا وقانونيا ..

2-المسار الثقافي – الاجتماعي وهذا المسار يتعلق بحق ممارسة الشعائر الدينية وحماية الخصوصيات الثقافية للأقليات مع توفير مناخ مؤاتي للانفتاح والتواصل بين المواطنين على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات .. 

3-المسار الاقتصادي – التنموي وهو يتعلق بضرورة تحقيق وإنجاز مفهوم التنمية المتوازنة لكل المناطق بصرف النظر عن دين أهل هذه المناطق .. ونحن نعتقد أن هذه المسارات لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع إلا في سياق إصلاح وطني شامل .. 

فحينما تتحرر الأقليات الدينية من عزلتها , وتنفتح على الأكثرية بكل ماتعني كلمة الانفتاح من معنى ,فإنها تؤسس للبداية الصحيحة لمعالجة مشاكلها الخاصة . والجدل بين الديني والوطني , لايمكن أن يعالج إلا بالحضور النوعي والمتواصل في القضايا الوطنية المتنوعة.

محمد محفوظ، مدير مركز آفاق للدراسات والبحوث

محمد محفوظ مواليد المملكة العربية السعودية – المنطقة الشرقية- 1966 كاتب أسبوعي في جريدة الرياض السعودية . مدير تحرير مجلة الكلمة ، وهي مجلة فكرية تعنى بشؤون الفكر الإسلامي وقضايا العصر والتجديد الحضاري . مدير مركز آفاق للدراسات والبحوث. له اكثر من ١٤ مؤلفاً صادراً عن عدة دور نشر مرموقة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى