في عادة الأَطاريح الجامعية أَن تتوقَّف عند النهج الأَكاديمي التقليدي المتَّبع، لتكون عرضًا بيِّنًا موضوعَ الأُطروحة وقواعد كتابتها، مع استخلاصات منهجية تتَّبع الخطَّ التأْليفي أَو التوليفي. لكنَّ بين الأَطاريح ما يَغوصُ أَكثرَ على جوهر الموضوع، لا بُلُوغًا هذا الجوهرَ وحسب، بل غوصًا على مبادئَ ومفاهيمَ متعددةٍ غالبًا ما تُصبح مرآةً للباحث، أَو طريقًا للدارس، أَو طريقةً للانتهاج والاقتعاد. وهذا حال الدكتورة ليندا غدَّار في كتابها “الأَنسنَةُ في تَمَثُّلات الفكر العربي المعاصر” (منشورات “دار الفارابي” – 568 صفحة حجمًا كبيرًا، مع ملحق غنيٍّ جدًّا مصادرَ ومراجع).
الإِسلام فضاءٌ نقيٌّ للإِنسان
الكتاب، أَساسًا، موضوعُ أُطروحة كانت المؤَلفة نالت عليها درجة الدكتوراه في العلوم الدينية من جامعة القديس يوسف في بيروت، أَشرف عليها الدكتوران القس عيسى دياب ووجيه قانصو. ونسَّقت المؤَلفة فصول كتابها الستة في انسيابٍ بعضُهُ تاريخي والآخر مضموني، فبرزَت في انسياب نصها رؤْيتُها المعمِّقة في الشأْن الذي تقاربه.
وهي قاربت الإِسلام فضاءً نقيًّا للإِنسان اجتماعيًّا وسياسيًّا وأَخلاقيًّا، فخلُصَت إِلى اثنَي عشر استنتاجًا هي حصيلة جولاتها الرصينة جدًّا، والمتشعبة جدًّا، على دور العقل في الإِيمان والمزاولة، من منطِق أَنَّ الدين يُشرِّف الحياة وليست الحياة هي التي تُشرِّف الدين. من هنا عظمةُ الإِنسان في النص القرآني. فالعقل، مشْبَعًا بالروح، يفْضي إِلى رقيٍّ وسلامٍ للإِنسان. ومن هنا أَنَّ النص القرآني دعا إِلى التعقُّل فسمَا إِلى أَعماق الروح. فالإِنسان في القرآن يسعى إِلى تحقيق كمالاته، لا مثاليًّا تنظيريًّا بل تلازُمًا حياتيًّا لأَن الإِنسان والحياة في القرآن لا ينفصلان.
مُصلحون مُتَنَوِّرُون
في بحثها عن الأَنسنة في الدين، عالجت مطالعَها المؤَلفةُ أُوروبيًّا، وصداها لدى المسلمين في الشرق، وتوسعَت في فكرة الأَنسنة كما ارتآها المصلحون الإِسلاميون المعاصرون، وصولًا إِلى نهج إِسلامي يؤَاخي حقوق الإنسان، ويجسِّد جوهرَ العمق الإِنساني في الإِسلام. وأَبرزَتْ أَفكارَ محمد أَرَكون – أَول مفكِّر معاصر عالج الأَنسنة في الإسلام -، وتمدَّد بحثُها المعمِّق إِلى نصر حامد أَبو زيد – أَول من انتقد أَفكار تنويريِّـي القرن التاسع عشر-، وعبدالكريم سروش (حسين حاجي فرج الدباغ) – أَول مَن جرُؤَ في التمييز بين الإِسلام الدين والفكر الإِسلامي. وهنا طليعيةُ الإِمام محمد عبده الذي دعا وسعى إِلى تطويرٍ ضروريٍّ في الأَزهر والمحاكم الشرعية والمؤَسسات الإِسلامية والتعليمية، ما كلَّفَهُ السجن والنفْي والتعذيب. وهو كان بين أَبرز مريدي الأَفغاني إِنما نحا أَكثر منه إِلى التأَثُّر بالحضارة الغربية قوانينَ وأَنظمةً ومضمونًا حضاريًّا.
حقُّ الحرية في الإِسلام
كان لافتًا جدًّا توقُّفُها في فصل موسع عند مبادئ العدالة والمساواة وحقِّ الحرية في الإِسلام، وما رافق حقوقَ الإِنسان الطبيعية من إِشكالات. وأَحسنَت تمييزًا بين فكرة العدل (قانونيًّا شكليًّا) ومفهوم العدالة (إِنصافًا جوهريًّا). فمهمةُ القانون تحقيقُ العدل لا تحقيق العدالة. من هنا أَنَّ العدل في الإِسلام يقوم على تطبيق الشريعة الإِسلامية التي لا مساواة غالبًا فيها بين معظم المواقع والظروف (بين الذكر والأُنثى، بين المؤْمن والكافر، بين المسْلم وغير المسْلم،…)، انطلاقًا من حكمة ربانية لا يدركها الإِنسان ولا يحق له المحاججة بشأْنها مع العزة الإِلهية.
لأنّه… لا إِكراه في الدين
بوصولها إِلى أَحكام المرأَة في الشريعة الإِسلامية، ميَّزَت المؤَلِّفة بين النصوص التأْسيسية، وكيف كان الإِسلام ثورةً اجتماعية حقيقية أَطاحت وضْع المرأَة في الجاهلية، ومنحَت المرأَة حقوقًا كانت قبلذاك محرومة منها.
مُشْرقًا جاء طرحُ المؤَلِّفة موضوعَ الحرية بتوسع مفصًّل وموثَّق، لأَن الإِسلام احترمها: “لا إِكراه في الدين”، و”لو شاء ربُّكَ لجعل الناس أُمَّة واحدة”، … فالإِسلام كفلَ حرية الاعتقاد إِنما وضع لها ضوابط لا تتناقض مع حماية الحرية المجتمعية. ومن حرية المعتقد إِلى حرية الفكْر (عدا التفكُّر في ذات الله)، وأَهمية وضع الحدود المنطقية للحرية والحق بها.
وبالأَهمية ذاتها قاربَت المؤَلِّفة موضوعَ الحرية انطلاقًا من أَنَّ الإِسلامَ وحيٌ إِلهيٌّ، وأَنَّ الحقوق الطبيعية هبةُ الخالق حين خلَق الإِنسان، فلا يمكن إِذن أَن يكون الإِسلام جاء بأَحكامٍ تُناقض تلك الحقوق الطبيعية بل هو يحاكيها.
ميزاتٌ ثلاث
دراسةُ ليندا غدَّار تتميَّز بثلاث:
1. معالجة دقيقة موثَّقة إِلى حدودها القُصوى، ما يعطي فصول كتابها صفةَ المرجعية، بما أَخذَت بين المراجع، وما ستكون عليه دراستُها من مرجعية وُثْقى لسواها ممن سيطلعون على كتابها.
2. سلاسة في سرد البحث العلمي، ما لا يتوفر عادةً في نص أَكاديمي شديد التقيُّد بقواعد البحث المنهجي، وهذا يُضفي على كتابها غنًى متفرّدًا ممتازًا.
3. جرأَةٌ في التصدِّي لمباحث دينية، معظمُها إِسلامي، وفي براعةِ بقائها دون اتخاذ موقفٍ منها، وهي حاذت ذلك لكنها جانَبَتْهُ بذكاء، فعرضَت الطرح وضدَّه، ثم استنتجَت ما يفيدُ القارئَ، والباحثَ خصوصًا، في الموافقة أَو المعارضة إِنما من ضمن المنهجية ذاتها في عرض الرأْي والرأْي الآخَر المختلِف والمغاير.
كتابُ الدكتورة ليندا غدّار، مرجع واثق في مكتبتنا العلْمية المتخصصة.
نشر المقال في “النهار العربي أولًا”.