قامت التجربة الإيرانية على ركيزة أساسية، هي إعادة الثقافة الدينية إلى متن الحياة في تفاصيلها كلها، وهي على النقيض تماما من التجربة العلمانية في العديد من دول العالمين العربي والغربي.
وهذا لا يعني أن بعض الأنظمة العربية طبّقت النظام العلماني في دستورها المرتبط بحياة وعيش شعبها، بل جانبت العلمانية، وأخذت ما تريد من هذا النظام، وتمسكت بالبعض الآخر.
ويبقى أن إيران، الجمهورية الإسلامية، قامت منذ انطلاقتها على الفكرة الدينية، وبالأخص الشيعية، وحاولت تطبيقها. وهي الدولة الأولى في العالم التي تبّنت هذا النهج المذهبي في العصر الحديث، مخالفة بذلك كل الأنظمة المُحيطة، سواء الإسلامية أو المدنيّة أو العلمانية.
الباحث والبحث
ففي كتاب “التنمية الثقافية في المجتمعات الإسلامية (الحالة الإيرانية نموذجًا)” يقدّم الباحث الايراني محمد جواد أبو القاسمي كتابه البحثي هذا باللغة الفارسية، وبترجمة من “مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي” ضمن “سلسلة “الفكر الإيراني المعاصر”، فيُعد بحثه التقني هذا، الذي استغرق، كما يذكر، 4 سنوات بجهود 150 ألف ساعة من العمل المضني والجهد الجماعيين، وعشرات البحوث والتحقيقات العلمية والميدانية بهدف الوصول إلى تنمية ثقافية دينية بطلب من اللجنة الثقافية والاجتماعية في “مجمع تشخيص مصلحة النظام عام 2003 أي منذ عقدين من الزمن تقريبا.
وذلك لكون الشغل الشاغل للساسة الإيرانيين ما بعد 1979 هو تعميق القيم الدينية وتنميتها لدى الفئات الاجتماعية المختلفة انتظاما مع الثورة الإسلامية التي أنتجت النظام الديني الحالي.
وقد جاءت هذه الأبحاث المُعمّقة بسبب افتقاد المعنيين الإيرانيين للمشاركة والسيادة الدينية في النظام الإداري والثقافي والاقتصادي والسياسي في إيران، خاصة أن قطاعا واسعا من الشباب يرون أنفسهم غرباء عن أهداف الثورة الإسلامية ومبادئها.
يُقسّم الكتاب البحثي هذا على7 فصول أساسية، وهي: الأول: “المفاهيم والمتغيرات الأساسية وتشمل الثقافة والدين والتنمية وتنمية الثقافية الدينية”. والثاني: “العوامل المؤثرة في تنمية الثقافة الدينية“. والثالث: “عرض الواقع القائم للثقافة الدينية في إيران بحسب الدراسات المنجزة”. والرابع: “الأنموذج المحبذ لتنمية الثقافة الدينية في المجتمع الإيراني”. والخامس: “التحديات والآفات والعقبات التي تواجه تنمية الثقافة الدينية”. والسادس: “السياسات العامة لتنمية الثقافة الدينية”. والسابع: “تبيين وتفسير السياسات المتعلقة بالإنموذج المحبّذ وآفاته.
ميّزة البحث
يتميّز الكتاب بأنه كتاب نظري، يرصد المفاهيم لكل من الدين والتنمية والثقافة، فتحت عنوان الثقافة الدينية يحشد الباحث الإيراني محمد جواد أبو القاسمي نصًا أدبيًا بمصطلحات عالم اجتماع تنظيري، إذ أن تعابيره أدبية في كتاب نظري حيث يقول “ستتعطر بالأريج الإلهي الفوّاح”، ومصطلح “تنمية الوحي” فيسأل القارئ كيف يمكن تنمية الوحي؟ وهو مصطلح غير مفهوم المعنى، فهل يمكن للبشر تنمية الوحي؟ أم يقصد تنمية تفسيراته الغيبية بما يتوافق والعصر الذي نعيش؟
ولعل المترجم قد أدخل القارئ العربي في متاهات التعبيرات الدينية الإيرانية المتنوعة. ولا يقف التعبير والترجمة في مكان واحد، بل يصل إلى القول إن “يساعد الحبل المتين المتمثل بالإمامة والولاية التي تضمن الرؤية الكونية الإلهية على مسرح الحياة… ويتشكل بذلك الصراط المستقيم”. هذا المقطع ما هو إلاّ جمل وتعابير أخلاقية لا تتناسب مع كتاب بحثي.
إرشاد وتوجيه
هو كتاب إرشادي، وليس ثقافي أو تثقيفي، بل أقرب إلى التعليمي الإداري، الموّجه للخطط والدراسات، بحيث تستخلص منه النتائج، ترصد عبره الاتجاهات العامة للمجتمع الإيراني.
وهو عمل نابع من دراية السلطات في إيران بأهمية الأبحاث، فليس عشوائيا استمرارية هذه الدولة الناشئة التي حُوصرت وحُوربت منذ ولادتها، نظرا للمُغَايرة التي رافقتها، خاصة أن ثمة استنتاجات بيّنت أن هموم الشعب الدينية قد اختلفت ما بعد الثورة عام 1979، كون درجة التأثر الشعبي بالثقافة والإعلام الغربيين ارتفعت، مما أقلق المسؤولين حيال جيل الشباب ومستقبل الجمهورية الجديدة، حيث لاحظ البحاّثة القائمين على هذه الدراسات والأبحاث أن درجة التأثر بالشعائر الدينية مرتفع جدا، واستمر هذا التأثر بدرجاته القصوى خلال الحرب المفروضة على إيران، لكن في مراحل لاحقة تغيّر موقع الدين بالنسبة للناس، كما ساهم رحيل الامام الخميني، مؤسس الجمهورية، في اضعاف مستوى القيم الدينية.
ويمكن اعتبار هذا الكتاب عمارة تنظيرية لفكرة سيطرة الدين على الحياة كافة، وليس تنظيرا للدين نفسه كون الكتب الدينية تختلف تماما عما يورده الباحث أبو القاسمي هنا.
“يرمي هذا الكتاب إلى تقديم خارطة عمليات” على حد قول الكاتب، ليعرض في أقصر أمد ممكن مجموعة الخطوات التي يجب على النظام اتباعها حتى يحافظ على وجوده واستمراريته.
كما يعمل على “عرض الأفات والسياسات العامة الرامية الى تحقيق هذه المهمة”.
من هنا تظهر مهمة أبو القاسمي في تقديم برنامج عمل، وليس نظريات تجديدية “وَحْيَانيّة” كما يسميها المؤلف نفسه.
ويعرض النتائج المبتغاة من هذه الدراسات التي يطلبها “جهاز تشخيص مصلحة النظام”.
وجلّ ما يركز عليه الكتاب، هو دور الحوزة والجامعات والنخب فهو يضع الحوزة في مقدمة أي برنامج عمل، ويُعيد فشل العمل في هذا البرنامج، في حال حصوله، الى آفات عدة منها عدم الشفافية وعدم وجود اتفاق ذهني ما بين نخب الحوزة ونخب الجامعة بسبب ارتباط الاخيرة بمفاهيم غربية كالليبرالية والعلمانية والإنسانوية. والعقبات برأيه كبيرة وكثيرة جدا.
ميزة الكتاب أنه عرض وفصّل المشكلات ووضع اليد على الخلل، لكن هل يمكن تخطي هذه العقبات؟ فقد سمّى الأشياء بأسمائها دون خوف، في دلالة على أن المعنيين يبحثون عن الثغرات لتخطيّ الخلل في بنية هذا المجتمع الديني الفتيّ.
ويعيد “الخلل إلى الافتقار للخبرة، والى مراكز الاحصاء والاعلام ونظام المؤشرات، وضعف جبهة الدفاع عن الدين وأزمة المفاهيم، والافتقار إلى آلية للاشراف على عملية التدوين، إلى النزعة الدنيوية لدى عدد من التابعين للحلقات الأولى والثانية، مما يؤدي إلى توجيه الاتهام إلى رجال الدين، مع أن أكثر من 80% يعيشون تحت خط الفقر”.
ورغم أن الباحث يعمل على تسهيل كل ما يتعلق بالمؤسسات الدينية في بحثه، لكنه يؤكد أن “مجلس صيانة الدستور بعد 25 عاما لم يستطع الخروج من المواقف الانفعالية والسلبية..”.
ويلاحظ المتابع أن كافة مواد الدستور الإيراني الجديد تشتمل على جملة ثابتة “على أساس الموازين الإسلامية” وهي جملة ملحقة بكل المواد، مما يلزم القانونيين والدستوريين بالعودة الى المرجعية الدينية العليا في البلاد.
الخلاصة
كل “المشاكل التي واجهت النظام الفتي الجديد سببها “دولنة” الدين، بحسب أبو القاسمي، حيث برزت إلى السطح رؤى إفراطية أو تفريطية أدت إلى حيرة الناس في تعاملهم مع الأجهزة والأنشطة الدينية”.
هو كتاب جريء في خلاصاته النقدية، وتقدميّ بعرضه للمشكلات والحلول حيث يضع نقاط الاشكال على حروف الحل الاستشرافي.