منذ منتصف القرن الماضي لم أجد حالات توثيق صحيحة ومحايدة للتاريخ العراقي ، ولم اجد توثيقا لحركة المجتمع العراقية بطريقة موضوعية .
أما لماذا هذه الملاحظة ،وماهي ضرورتها ؟
أقول :-المجتمع العراقي كبقية المجتمعات البشرية يملك ذاكرة تاريخية ،ولعل العراق يختلف عن كثير من البلدان ، فهو يملكُ عمقا تاريخيا يمتد الى قدم الانسان الاول على الارض ، وتاريخه الحديث خلال القرنين الماضيين يزخر بالاحداث الحلوة والمرة ،أحداث متداخلة ومتشعبة ،مرت بإنظمة سياسية مختلفة التوجه كلها بحاجة الى أن نقرأ أحداثها وحركة المجتمع فيها ونتاجه الثقافي والسياسي والفني وبقية المجالات الاخرى.
والمجتمع العراقي كبقية المجتمعات لابد ان يبحث في ذاكرته بكل الاصعدة ،فالتاريخ هو الذي يدفع بالمستقبل الى الامام ، اذا ما استطعنا نقل تاريخنا دون تشويه ، ولكننا واجهنا أنظمة تسعى الى كتابة ذاكرتنا السياسية والاجتماعية وفق توجهاتها ، مما تؤدي نتائجها إلى طمس التاريخ، أو لنقل تشويه الذاكرة السياسية والاجتماعية لنا.وبالتالي يفقد المجتمع شخصيته.
إن الشعوب السليمة هي الي تطلع على تاريخ أسلافها بكل تفاصيله لتستطيع تصحيح مسارها من العيوب ،أو المطبات التي واجهت الأجداد، وكذلك تعزيز النجاحات والمآثر من ما مضى .
فالمجتمع المتصالح السوي ،كما هو الفرد السوي المتصالح مع نفسه لا يهمل تاريخه ولايهرب منه .
فالتطور والتحول سمة ايجابية في الانسان والمجتمع ، ولايمكن أن يُبنى على ترك التاريخ وكأنه أمر منكر !.
إن بناء المجتمع يجب أن تكون مقومات بنائه صحية، متعافية،ومنها عدم إغفاله لتاريخه ولنأتي مثلا بذلك على بناء المجتمع الاسلامي أيام الرسول فهو لم ينكر عليهم تاريخهم بل كان المؤمنون يتناوله لعدم العودة اليه ثانية ،وقد قدم جعفر بن أبي طالب تقريرا عن حالتهم قبل الاسلام عندما سأله النجاشي ملك الحبشة أنذاك عن الاسلام ،فقدم مقدمة عن حالهم قبل ذلك فقال ” : أيها الملك ، كنا أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف .”
إذن استحضار التاريخ حسنهُ وسيئهُ أمر مهم للمضي بمستقبل واعد.
والقران يدعونا الى قراءة التاريخ لنكسب الخبرة والتجربة ،من خلال العبرة التي وردت في تاريخ الامم السالفة
{ لَقد كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.
وهناك من يرى إن استحضار الاحداث السلبية ستؤدي الى توفر جاهزية واستعداد للتنافر والتشاحن والتناحر، والمبرر أن هناك من يعيش هذا المرض لكي يحي البغضاء مرة أُخرى .
ولكننا نجيب عن هذه الملاحظة بما يلي :
حينما نتعرف على مواطن الضعف ونعالجها ،ونحولها إلى أمر ايجابي فهذا هو النجاح بعينه.
قد يحاول البعض استحضار ماهو مشرق من التاريخ ،و يمكننا تشبيهه بالحنين الى الماضي المشرق ليعيش حالته فقط ، وهو ما يُصطلح عليه النوستالجيا (الحنين إلى ماضي مثالي)،وربما تتجه المجتمعات الى هذا الامر أيضا . لكنه أمر مَرَضي، وستظهر أعراضه بعد أية هزة يمر بها المجتمع.
وقد يميل بعضنا الى السوداوية فلايظهر إلا مساوئ قومه ، ويشعر بلذة في هذا الامر !.
وبهذه الطريقة إما العيش في ظلمات الماضي وكأنها حالة حتمية ، أو الهروب الى الامام دون أن يتمسك بجذوره !.وبالطبع هي حالة مرضية أيضا .
إن معالجة التاريخ بروح موضوعية ،لا بروح المنتصر القوي الذي يؤرخ ما يحلو له ، تعطي للاجيال فرصة حقيقية لمعرفة أُصولها .
إن استحضار التاريخ بأبعاده يعطي المجتمع نظرة متكاملة لبناء شخصيته المعنوية ، كما هو الفرد الذي يستحضر تاريخ عائلته بكل ابعاده .
فالمجتمع العراقي بحاجة الى معرفة نتاج أسلافه في كل المجالات ، ولايمكن لنا أن نفهم أن النتاج لمنظومة سياسية سابقة ، بل هو نتاج مجتمعنا كله .
ان أي طمس لهذا النتاج هو تشويه لذاكرتنا ، وبالتالي تشويه لحاضرنا وانحراف لمسيرتنا المستقبلية ، وعلى قادة الفكر استحضار ذلك لبناء مجتمع سليم ،وهذا مايجب أن نعمل عليه من الان.