اجتماعالاحدث

السنة الجديدة: كَرَوان وزيتونة وعلَمُ لبنان | بقلم هنري زغيب

كان بيتي خاليًا إِلَّا من صدًى يملأُ كياني بطفولة ولَدي الوحيد بعدما سَرَقَتْهُ مني أَميركا في صباه، وبقيتُ موعودًا أَن يعودَ لي ذات يومٍ ويَمحو الصدى ويَجيئَني صوتُهُ مَلْوَ البيت من جديد..

ويومَ سَرَقَتْهُ من قلبي ذبحة قلبية قاتلة في أَميركا قبل أَسابيع، خطَفَتْ مني وَعدَه بأَن يَجيئَني صوتُه ليمحو الصدى، فلم يبقَ لي إِلَّا صدى طفولته يملأُ هذا البيتَ في غرفه وممرَّاته وزواياه، وبقايا صُوَرٍ في غرفته كان عَمَّر بها “مملكتَه” لأَبطالٍ يحبُّهم..

وبين الصدى الحافي للوَلَد والصوت الغافي إِلى الأَبد، صار بيتي خاليًا أَكثر، وصرتُ في حاجة سمعية إِلى صوتٍ يؤْنس وَحدَتي وَوَحشتي وحُشاشتي، فلَجأْتُ إِلى كَرَوَان (كوكاتيل) يرافقُني طيلة النهار بتغريداته الببَّغائية: أَدخلُ لأَكتب فيستقبلُني بتغريدة.. يتابعني أَكتب فيُهنْدسُ تغريداته وَفْق إِيقاع أَصابعي على مكابس الكومبيوتر.. أُدير موسيقى كلاسيكية أَو رحبانية – على عادتي وأَنا أَكتب – فيتغاوى بجناحَيه الأَصفَرَين الزَغْبَين كما غوى سيدة جميلة تُتقِن رقصة الفالس في حنان ذائب وأُنوثة مُذيبة.. اعتاد حضوري وصوتي: أُجالسُه يُحدِّق بي… أُخاطبُه يغرِّد لي… أُزْقِمُهُ حبوبَه الخاصة فيغْرِز في كفِّي منقادَه المعكوف ويتناولُها بنَهَمٍ أَليف، ثم يرتجلُ جناحيه فرَحًا فيَطير إِلى غُصَيْناتٍ متفاوتةِ الطُول والعُلُوّ في قفَصه الواسع العالي.. ويَحدُث لي أَن أُوقفَ الكتابة وأَتأَمَّلَه: هل حقًا قفَصُه هذا واسعٌ وعَالٍ؟ أَلَم يولَد كي يكونَ له الفضاءُ كلُّه واسعًا وعاليًا؟ وهل هذا قفَصٌ أَم سجْن أُقْفلُه عليه أَنانيًّا كي أَتمتَّع بتغريداته ولو مبحوحةً داخل القفَص/السجن؟ وأَنا؟ أَلستُ مثله مسجونًا في هذه الحياة المربَّعة الحدود المستطيلة السُدود المدوَّرة القيود؟ أَلسْتُ أَنا مثلَه سجينَ قفَص العمر يتمتَّع بحياتنا قدَرٌ خفيٌّ لا يَظهر إِلَّا عند النزاع الأَخير؟
سوى أَنني أُحيطُه بما أَستطيعُ من عنايةٍ تُنسيه، ولو ظاهرًا، محدوديةَ القفَص الواسع العالي، وتُنسيني، ولو ظاهرًا، قفَص العمر في سجْن الحياة الذي لا يَكْسر محدوديتَه سوى الإِنتاج الأَدبي والفني والإِبداعي..

وكي لا يبقى بيتي خاليًا من البَرَكَة، رغبتُ في قصْفَة زيتون تُشَجِّر بيتي، فجاءَني الصديق سَمَاح داغر بنبْتَة تختصر بساتينَ الزيتون الخيِّرةَ في بلادي.. وهنِئْتُ لها فوضَعْتُها في قلْب الصالون كي يراها زوَّاري فيزوروا بها حقلًا رمزيًّا من زيتون الجنوب في لبنان..

ولكي يكتملَ الوطن في بيتي، جئْتُ بعَلَم لبنان، شَكَكْتُه عند المدخل حدَّ نبتَة الزيتون، ليَعْمُر بيتي برمز بلادي، تُتَوِّجُه أَرزةٌ تَرمُقُني كلَّ يوم بخلود وطني عابرًا جميع أَخطاره وحروبه ويوضاسييه وبيلاطُسييه وصالبيه، ليبقى رفيقَ الزمان وربيبَ العصور متهاديًا يومًا بعد يوم في رحلة البقاء، مضيئَةٌ شمسُه على أَرضه وبَنِيه: إِذا غابت عنهم مساءً هنا، أَشرقَتْ في كلِّ هناك من مقْلب الكوكب حيث الـمَهاجرُ اللبنانية تملأُ الدنيا أَعلامًا لبنانيين ناصعي الولاء لبلدان هجرتهم ناصعي الوفاء لأَرضهم الأُم الغالية في لبنان..

هكذا أَمضَيتُ ليلةَ رأْس السنة الجديدة في بيتيَ الخالي إِلَّا من صدًى لطفولة ولَدي بعدما غاب عني صوتُه إِلى الأَبد.. أَمضَيتُها ورِفْقَتي: صوتُ تغريدات الكروان، ونبتةُ زيتونٍ أَعادت إِلى بيتي البَرَكَة، ونفْحةٌ من بلادي تستقبلني كلَّما دخلتُ وترتَضيني كلَّما غادرْت، في انتظار أَن أَعودَ فأَفتحَ بابي وتهلَّ عليَّ النفْحةُ من جديدٍ ببسْمة رضًى يمنَحُنيها بقْدسيَّتِه عَلَمُ لبنان.

نشر المقال في “النهار” أولاً.

هنري زغيب، كاتب وشاعر لبناني

شاعر وكاتب لبنانـيّ، له عدد كبير من المؤَلفات شِعرًا ونثرًا وسِيَرًا أَدبية وثقافية، وعدد آخر من المترجَـمات عن الفرنسية والإِنكليزية، وناشط ضالع في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية منذ 1972. مؤَسس "مركز التراث اللبناني" لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية، ورئيس تحرير مـجلة "مرايا التراث" الصادرة فيها. درّس في عدة جامعات في الولايات المتحدة منها جامعة جورج واشنطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى