مضى بولس الخوري عن مائة عام بتمامها. ولو تسنى له من فيزياء الجسد هِمّة مضافة، لكان واصَلَ السفَرَ وهو على أنس ٍ مما هو فيه ٍ. ما كان الزمن عنده إلا سيرورة موصولة بالأبدية. بل الزمن ذاك ، هو عين الأبدية في ظهورها الراعي لدنيا الموجودات ..
الموت الذي نظر اليه بعين الفلسفة و قلب اللاهوت، لم يكن عدمًا.. لكأنما رآه بالحدس من قبل أن يختبره بالحواس الخمس. ثم لكأني به يعقد و إياه ميثاق صلح و حسن جوار..
لقد هادَنَ الموتَ فهادنَه الموت ُو تمدّد العمر . و لمّا حان الميقاتُ التًَقَيَا على مودةٍ و ارتضاء ..
من ثلاث سنين، و هو حينئذٍ في السابعة و التسعين، التقينا ثلاثة على مائدة من ” القول الثقيل” : هو و الصديق البروفسور مشير عون ، و كاتب هذي الأسطر .. دار الحديث مدار الفلسفة و سؤالها القلق ، و مدار اللّاهوت في جوابه الآمن..
في المدارَين سويًا ما أبدى بولس الخوري قطعًا بأمر ، و لا جزمًا بحكم يلفُظُه عن ظهر قلب.. جميع قوله لدى كل باب طرقناه ، صدر من تفكّر صارم .. فلا حكم عنده على فكرة او أمر ، إلا أن وافَقَ دربةَ العقل الخالص.. ربما لهذا الداعي سيفارق الجماعةَ ليأنس وحيدًا الى غربته المتمادية ..
محضرُه ” الميتافيزيقي” كان سانحة لي لكي أقترف السؤال الذي غالبًا ما يستثير خشية السائل و المسؤول نفس الحال :
أأنت مطمئن الى حيث انت مرتحلٌ فيه و إليه .. ثم أي مصير ينتظرك من بعد ان تعرضَ عنك دابّة الحياة ؟ ؟..
ثمئذ ٍ أجاب بلسان الراهب الزاهد : ما كان لي حاجة بشيء من قبل، و لم اترك شيئًا من بعد .. و لا املك ما إذا ملكتُه ملكني و أقامني في كهف المذلّة.. ما أنا ذاهب فيه و إليه، انما هو مدعاة للمتعة الفائقة.. فمن كان أصله وجود محض ، عاد الى ذاك الأصل المكتظّ بالامتلاء المحض.. و لمّا أن استفسرتُه عن ماهية المشهد الذي سيصير إليه ، لاذَ الى برهة من صمت، ثم استظهر ما ينبو عن حيرة و أجاب : لست ادري من حضرة المشهد شيئًا، و لا من صورة الحال شاهدًا .. هذا مما لا ينبغي ليَ التعرّف إليه، أو الاستفهام عن سرّه المخبوء ..
ثم كأني به يعرب عن مكنون فيه من بعد صمت :
لست ذاهبًا الى عدم، فلا انعدام ما دام هنالك سرٌ مستتر لم يُدرك.. إنما هو تلاش ٍ في بحر الوجود الأتم.. حيث المتعة الفائضة التي انا بالغُها و لو بعد حين .. السكون الازليٌ الذي لا سؤال معه و لا تساؤل..
أو… على غالب الظن الذي لا يقبل البوح : هنالك لا شيء سوى الاندهاش بالوجدان الأعظم