على المستوى الفلسفي ربط الفيلسوف ( باسكال ) بين الحقيقة والعنف . إذ اعتبر ثمة صراعا خالدا ومفتوحا بينهما . إذ لا تستطيع الحقيقة القضاء على ظاهرة العنف في الوجود الإنساني , ولا يستطيع في المقابل أيضا العنف من حجب أنوار الحقيقة . فمهما تجلت الحقائق الذي يبحث عنها الإنسان , ستبقى ظاهرة العنف , و سيمارس من أجل الدفاع عن مبدأ وأفكار وعقائد . ومهما اكتشف الإنسان خطر ممارسة العنف ومتوالياته على الإنسان والوجود , فإنه سيمارس بذات الذهنية أي الدفاع وتعميم القناعات والأفكار والعقائد . وبالتالي على حد تعبير الفلاسفة ثمة ملازمة بين ظاهرة العنف بكل مستوياتها ودرجاتها وبين الوجود الإنساني . فلم تخلو أي جماعة بشرية من استخدام العنف سواء في إطار الدفاع أو التوسع والتعميم .
وما يستطيع أن يقوم به الإنسان أزاء ظاهرة العنف الملازمة لوجوده , هو ضبطها والتقليل من مساحة استخدامها وتربية الناس بطريقة مضادة للعنف ,بحيث يصل الإنسان إلى مستوى ينبذ فيه العنف واستخدامه على المستوى النفسي والعملي . والملفت للنظر على هذا الصعيد أنه مع التقدم العلمي والتقني الهائل الذي حصل عليه الإنسان اليوم , إلا أن التقدم العلمي الهائل لم يمنع الإنسان من استخدام العنف ضمن استهدافاته البدائية والأولية , بل على العكس من ذلك . أي أن التطور العلمي والتقني اليوم استخدم لتطوير آليات ممارسة العنف في الوجود الإنساني . فالإنسان اليوم ازداد علما وتقنية واستخداما لمنجزات العصر المختلفة , وفي ذات الوقت إزداد استخداما للعنف واقترب أكثر من استخدام وسائل عنفية لم تكن معهودة من قبل , لدرجة أن وسائل العلم والاتصال الحديثة ساهمت في تعميم صور العنف وآليات استخدامه . بل لو تصفح الانسان وسائل الاتصال الحديث , سيجد صفحات ومواقع تغذي الناس لدواع واعتبارات متعددة على الدعوة إلى العنف واستخدامه للدفاع عن الذات وأفكارها , ومواقع أخرى هي لتعليم المتصفح طريقة تفخيخ السيارات وصنع القنابل واستخدام مختلف الأسلحة الثقيلة والخفيفة . والعجب في الأمر أن فاعل العنف وممارسه , يستسهل ممارسته بل يعتبره من الأفعال التي يثاب عليها الإنسان . وبفعل استسهال ممارسة العنف والتغطية الدينية للفعل العنفي أضحى الواقع الإسلامي المعاصر يعيش مفارقة صارخة وخطيرة في آن . حيث عشرات التوجيهات الإسلامية التي تحث على الرفق والاعتدال والتسامح ونبذ الشدة والغلظة وضرورة الرحمة مع الجميع . وفي مقابل هذه التوجيهات ثمة ممارسات عنفية يندى لها جبين الإنسانية تمارس بأسم الإسلام ودفاعا عن مقدساته . وكأن الإسلام دين القتل والعنف لأتفه الأسباب . وكأن تمكين الإسلام في الواقع الخارجي , لا يحتاج إلا إلى بندقية وسيارة مفخخة لإشاعة الفوضى وتعميم القتل . ولكن ما نود أن نقوله في هذا السياق أن الله سبحانه وتعالى لا يطاع من حيث يعصى , مهما كانت التبريرات ومهما كانت اليافطات المرفوعة في هذا السبيل .
فالباري عز وجل يطاع من خلال الالتزام التام بتشريعاته وتوجيهاته , ولا يمكن أن يطاع بسفك الدم وقتل الأبرياء وتدمير أسواق المسلمين ومصادر رزقهم . فالله سبحانه وتعالى لا يطاع بقتل الأطفال والنساء , ولا يطاع بالإعدامات العشوائية التي نشاهد بعضها على اليوتيوب وشبكات التواصل الاجتماعي .
إن ما يجري اليوم من عمليات قتل وتفجير باسم الجهاد والدفاع عن المقدسات , هو ذاته مناقض بشكل تام لتوجيهات الإسلام وثوابته .
ونظرة بسيطة لأداب وأخلاقيات الحروب في الإسلام , سنكتشف أن ما يجري هو مناقض لأداب وتوجيهات وأخلاقيات الإسلام .
ويبدو أن الإنسان هو الكائن الوحيد على وجه هذه البسيطة الذي يقتل من أجل أفكاره ومنظومته العقدية والاجتماعية .
وهذا يعكس عجز هذا الإنسان عن إقناع الآخرين بأفكاره وقناعاته , فيلجأ إلى القتل والتدمير , وكأن هذا القتل والتدمير سيمكنه من الوصول إلى أهدافه .
وتعلمنا تجارب الأمم والشعوب المختلفة إن الوصول إلى الغاية بالظلم والتعدي على الحقوق والكرامات لن يدوم مهما طال الزمن . فالتمكن من الآخرين بالقتل والتفجير والإرهاب قد يطول إلا أنه لا يدوم مهما كانت الظروف والأحوال .
وتؤكد لنا جميع التجارب العنفية أنها إما مرتبطة بشكل مباشر بجهات إقليمية ودولية لها مصلحة مباشرة وأكيدة في تمزيق دول وشعوب المنطقة , أو تخدم مصالح أعداء الأمة بطريقة غير مباشرة . لأن جماعات العنف تساهم بشكل أساسي في تمزيق نسيج الأمة ومجتمعات المنطقة , وتظهر للجميع صراع المسلمين مع بعضهم البعض , وهذا ما يريده أعداء الأمة لتمرير مشروعاتهم وأجندتهم الاستراتيجية والسياسية التي تستهدف إضعاف الأمة لأدنى الحدود ومن ثم إخضاعها لشروطها المجحفة التي تستهدف ثرواتها وقدراتها راهنا ومستقبلا .
فما يجري في المنطقة اليوم من انقسامات طائفية حادة واقتتال مذهبي وأهلي في أكثر من بلد وتقسيم ممنهج لبعض الدول والشعوب , ليس بعيدا عن إرادة الأجنبي ومصالحة العليا . فلحظة الانهيار التي تعيشها المنطقة وبفعل خيارات سياسية وفكرية صنعها أبناء المنطقة ويتم تغذيتها والاستفادة منها من قبل أعداء الأمة , عمل من أجلها الأجنبي منذ سنوات طويلة , ولكن كان وعي الأمة ووحدتها الداخلية هو الذي يفشل هذه المخططات . ولكن للأسف الشديد ومع تضخيم المشكلة الطائفية وتغذيتها من قبل جميع الأطراف بعضهم بوعي وإدراك والبعض الآخر بدون وعي وإدراك , أضحى الاهتراء الداخلي في جسم الأمة حقيقيا وأضحت يد الأجنبي هي الأعلى في التحكم في مسار الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة .
وبفعل هذا التداخل والتشابك بين جماعات العنف وبعض الأطراف الإقليمية والدولية , أضحت هذه الجماعات هي عنوان حروب العرب الداخلية , التي تستهدف نسيج العرب الداخلي وتدمير إمكانية تجاوز عثرات الطريق في مشروع البناء والتنمية العربية .