اجتماع

حُفاةٌ خَرجنا من الحرب…لن نعود حُفاةً

تنشر بشكل متزامن مع جريدة اسواق العرب اللندنية الالكترونية

علينا ان نتحضر للأصعب، وان نُدرك أن العالم انقلب بحدة في ثلاثين عاماً، والزمن الحاضر لم يَعُد يُقدِّر الحُفاة.

وضعت الحرب اللبنانية أوزارها مع انتصار “إتفاق الطائف” الذي وُقِّع في آب (أغسطس) 1989، وخروج العماد ميشال عون من القصر الجمهوري الى السفارة الفرنسية في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1990، ومن ثم نفيه إلى باريس في 28 آب (أغسطس) 1991، حيث تم بعدها تشكيل حكومة الرئيس رشيد الصلح، وحكومة الرئيس عمر كرامي، ثم جاءت ليلة الدواليب المشتعلة التي تبعتها حكومات الرئيس رفيق الحريري.
خرجنا من الحرب حفاةً، علينا ان نعوِّض خمسة عشر عاماً بسنة واحدة، علينا ان نُنافس اولئك “اليوبيز” (Yuppies) (المُترَفون) الذين جاء بهم مشروع الإعمار من كافة أصقاع الأرض، ومن أفضل جامعات ومؤسسات العالم. جاؤوا بنمط حياتهم ومستوى معيشتهم ونظرة فيها من التغرّب بقدر ما فيها من السطحية الى الوطن المُعقَّد، في أرضٍ كانت فاقدة القدرة على التوازن، مستعدة للقبول بكل شيء لتمحو عارها بعد ان تحلل الجميع من الحرب في ليلة وضحاها.
بعضُ مَن في جيلنا جنّ، وبعضٌ آخر إنتحر، وبعضٌ ثالث توحّد، ورابعٌ هرب بعدما صمد طوال الحرب، وخامسٌ خَدَّرَ نفسه في ذلك الملاذ القاتل، وكثيرون آخرون قرروا أن… يستمروا في المشي إلى الأمام.
كنّا جيلاً جبّاراً، ولذلك انتصرنا واستطعنا الإندماج، وفهم قوانين اللعبة الجديدة المُختلفة كلياً عن تلك التي عرفنا لبنان بها، أو أفهمتنا إياها تربيتنا الأخلاقية وعلّمها لنا أهلنا قبل الحرب وخلالها. نافسنا وبرعنا وانتزعنا كراسينا بين “اليوبيز”، واشترينا ثياباً وأحذية وسيارات حديثة، وارتدنا أماكنهم المُستَحدَثة، وكنا بكل المقاييس أفضل ما أنتجته البلاد بعد الحرب. أفضل لا بسبب حداثة علومنا، ولا بفعل حداثتنا، بل بفعل ثقافة الجيل التي طبخناها جيداً في ذواتنا على ابواب الحرب وخلالها. لن تجد زعيماً بعد الحرب (أقله حتى أوائل الألفية)، إلّا وحوله المثقفون الذين صُنِعت ثقافتهم حتى نهاية الحرب. الحريري الأب جعل منهم وزراء ونواباً وقيادات حزبية ومستشارين رغم كثرة ما استورد من الخبرات اللبنانية في العالم، ورغم كونه يُمثل نقيض قِيَم ومفاهيم هؤلاء المثقفين. كثيرون غيره فعلوا ذلك وإن بإتقانٍ أقل.
ما الذي تغيّر بين الجيل المخضرم وجيل ما بعد الحرب؟
قِيَم المال والإفتراض ان مراكمة المال تُعوِّض غياب القِيَم الأخرى. قليلون من أبناء جيل ما بعد الحرب حملوا رسالة حياة، وأقل منهم سعوا في سبيل فهم الصورة الكبرى ضمن هذه الرسالة. عبّر عن ذلك بوضوحٍ فاقع تراجع الإنتساب إلى كليات العلوم الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والتاريخ (وهي التي ترسم بامتياز الصورة الكبيرة في رؤوس خريجيها)، وتَرَكُّز الخريجين في كليات إدارة الاعمال والهندسة والعلوم الإختصاصية. تراجُعٌ توافق مع تغيّر في أسواق العمل التي سعت إلى استقطاب كفاءات مهنية في ظل تحوّل القيادات المؤسساتية الى نادي قلة. تم تفريغ الهيكل القيادي، واتسعت الفجوة بين القيادة وجمهور “اليوبيز” الجدد من الموظفين الذين يجيدون الإلتزام بتوصيف وظائفهم، ويُحسنون جيداً حساب مداخيلهم ولكن… مداخيلهم وعلاواتهم فحسب.
من يتابع تطورات الأزمة العميقة، السياسية والإقتصادية في لبنان، لا يصعب عليه أن يُدرك قوة ردة الفعل المجتمعية تجاه الأحداث والإستقطابات السياسبة مقابل ردة الفعل السطحية، وأحياناً اللا مبالية، تجاه الأزمة الإقتصادية.
نحن أمام احتمال سقوطٍ جماعي. إننا نقترب سريعاً من الإرتطام بجبل الجليد، والسباحة هذه المرة تحتاج إلى المال الكثير، و٩٠ في المئة منّا لا يملك هذا المال حتى قبل السقوط. ومَن لا يملك المال الكثير عليه ان يمتلك الوعي الكبير الذي لم تعد كفاءاتنا وشبابنا وعائلانتا حالياً تتميّز به.
علينا ان نتحضر للأصعب، وان نُدرك أن العالم انقلب بحدة في ثلاثين عاماً، والزمن الحاضر لم يَعُد يُقدِّر الحُفاة.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. كالعادة تقدمون لنا دليل أخر على أن مجتمعنا اللبناني (والعربي بشكل عام) يحتاج الى مربين قادرين على ترسيخ منطق العلم في خدمة الإنسان من خلال زرع القيم الفاضله في الأجيال الصاعدة. صحيح أن الجيل المذكور في المقال خرج منهكا من الحرب الأهلية, لكن الأجيال اللاحقه لم تدركها التربية الأخلاقية كما في السابق و هذا ما يشير إليه الكاتب الموقر في الكثير من كتاباته التى تحذر من الانهيار الاجتماعي كما الاقتصادي.
    إني أتسائل كمواطن لبناني وكطالب دكتوراه ملم ببعض جوانب العلوم الاجتماعية, ألم يحن الوقت بعد لمخاطبة وجدان الشباب اللبناني حول قيمة الانسان وحقه في بناء مستقبله بقيمه و علمه وليس الخضوع و اعطاء التفويض للكثير من “الزعماء” الذين جردتهم الحرب من قيمهم الأخلاقية والدينية؟ ألم يحن الوقت بعد للعقلاء و العلماء من الاجيال السابقة ان تنفض عنها رماد الحرب الأهلية وتدرك ما بقي من أمل في نفوس الشباب؟ أليس من الأولى للوزارة المسؤولة عن مدارسنا و جامعاتنا أن يكون منهجها “تربوي” قبل أن يكون “تعليمي”؟

    في الختام , أسأل الله أن يصلح شأننا و يعوضنا بأحسن مما خسرناه و يهدينا لأن نقتبس من نور علمائنا والأخذ بنصائحهم لما فيه الخير لمجتمعنا.
    كل التحية والتقدير للبروفسور بيار الخوري الذي كنت ولازلت أنظر إليه (و الى العديد من أصحاب العقول النيرة في مجتعنا اللبناني) كمربي وكعالم أتطلع كما الكثير من أبناء جيلي إلى الأخذ من أخلاقه الحميده وعلمه الغزير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى