” ربما عليك أن تكلم أحدا ”
لم يُكتب هذا الكتاب لزمن الجائحة والعزل كما قد يُستدل من عنوانه ومن منا لا يحتاج ان يكلم أحداً أن يتعكز على معالج متفهم يغوص في ما يفرده أمامه من مفترقات الحياة ليخرجه من ظلمة الشعور بالنقص أو العجز عن متابعتها أو الظلم لإستمراريتها أو حتى تحديه الإستمرارية !!!
بين القطع مع الماضي او مواربة مواجهته من زوايا الداخل بإتجاه رؤية الآخر والمسرح الحياتي بتشعباته تُفتح النوافذ الموصدة للبدايات دمج للتحليل النفسي والمعالجة، تطالعنا به المعالجة النفسية لوري غوتليب التي نحت بمحنتها للتحليل والتطهر من جلسات علاج مرضاها و من تراكم أزماتها، لتجلس امام طبيبها، كمريضة تحتاج المعالجة، بعد صدمة افتراقها عن خليلها المسمى خليل, وذلك بعد مفاتحتها بقرار الهجر الفجائي، ليس لعلة في العلاقة أو بالشريك، بل تهرباً من مسؤوليته في معايشة إبنها كطرف ثالث وكشريك عايشه لسنوات بلطف ولم يختره..
نعيش اليوميات للمرضى متنقلين بين التفاني والصبر والتحمل والتذمر ومواجهة الموت الحتمي بزحمة الحياة ومقارعتها أو بالهروب منها بالإدمان..
تتلون الحالات لمرضى يعيشون بيننا يتقمصون شخصيات نعايشها كمن يتوقع تصرفاتها أو يتحكم بها دون قرار تصبغنا إنطباعاتها التحليلية قبل أن تصل بنا للمنتهى.
تظهر صورة التفاعل العلاجي المتبادل بين الطبيب ومريضه ..بين المعالج وزملائه، تزيل تلافيف التعقيدات الإنسانية ورقة ورقة حد المواجهة التي تدخلنا بوابات التصالح..
تزيل بصفحات الجلسات الطويلة السردية بوقع اليوميات الستار عن هامشية الحدث الصدمة أمام هول الشعور بالعجز والذنب إزاء الصورة المهشمة لذواتتا التي لم يكتمل نحت مساراتها عن توقعاتنا و ما أردناه وقبل ان تنجح بالعودة لكتابها وإنجازه تحيك علاقة إنسانية مفتوحة على شتى المشاعر المتقلبة من النفور الى الغموض حتى التعلق مع طبيبها الذي كانت تعامله كالند لها لتكتشف بداهة الإعجاب بينهما والتغيرات التي ادخلها على كل واحد منهما.
تتسلل من خيوط الجلسات لمقارنة عن بُعد لجلساتها مع مرضاها بتفاصيل إقحامهم للزوايا المعتمة التي تهربوا من مواجهتها أو تظهيرها..
تدور حوارات على إمتداد أكثر من خمسمئة صفحة تدخلنا في دوامة اليوميات التي نتعثر بها كل يوم عبر مجهر التحليل والمعالجة بإندماج العلاقة بين طرفي نقيض المريض والمعالج قبل أن ترتقي المشاعر لمستوى التعاطف.
يؤرقني السؤال على الدوام هل استرشد المنتحرون في تلك اللحظة الغاضبة المستسلمة المتحدية نشوة الراحة قبل قطع وريد الحياة ؟؟ هل أرخوا المشهد الأخير على إبتسامة أو دمعة وتركوا كلمات حب فقط ليطمئنوا أنهم بخير وأن تلك الأنفاس الأخيرة كانت نعيمهم ..
الإنتحار ؟؟؟ ؟؟
من لم ترده ولو مرة تلك الفكرة او يستغرقه التفكير بمسيرة المنتحرين لم يذق طعم الحياة ومرارة الأسئلة عن جدواها وصراعاتها التافهة للبقاء والتناطح .
الكتاب الصادر عن دار التنوير بترجمة لنادين نصرالله يحمل عنوانا مؤرقاً :
” ربما عليك أن تكلم أحدا ”
ليوضح الحث على البوح بعناوين فرعية :
معالج نفسي، وحياتنا كما يكشفها
“جولة ساحرة لا تقاوم في الحالة الإنسانية ”
” Kirkus starred Review ” و هي مجلة نصف شهرية أمريكية، أسستها “فرجينيا كيركس”.
الكتاب مادة نقاش، متجدد لمدارس علم النفس التي يعبر اليها عرضاً لقول ديستيوفسكي : “لا يذهب المرضى النفسيون للعيادات النفسية، بل ضحاياهم هم من يتجهون اليها ؟؟” .
أهميته المضافة بواقعية سرده لتجربة مصقولة بالتعلم والبحث والمعرفة المشرعة على التجديد وتحدي الكتابة لإنجاز كتابها وتجاوز الشعور بالخذلان.
عالم متاح للبوح بين الجدران المغلقة في جلسات مدفوعة الأجر كأنها موعد بين عاشقين أو جارين متلصصين أحدهما أكثر إدراكاً بمآل العلاقة ومحاولة إدارة دفتها ..المعالج النفسي الصديق اليوم ملجأ الأسرار بحثاً عن التعاطف نقيض صورة الستينات التي إستشرفنا حدتها في كتاب ” فان غوغ” منتحر المجتمع للكاتب الفرنسي أنطونان أرتو المدقق والمترجم مؤخرا للعربية من قبل الشاعر عيسى مخلوف ..
مُنتحِر المجتمع: قراءة دلال قنديل لكتاب انطونان أرتو عن فان غوغ
شتان بين عالِم صديق يسعى لفك الطوق عن رقابنا وإخراجنا من حلقاتنا المقفلة وبين طبيب يرى في النبوغ جنوناً يتوجب قمعه لتهدئته حتى لو أودى طريقه لرصاصة إنتحار تضع نقطة على السطر .
كيف نواجه الخسارات نتقبل حياة جديدة بعد الفقد أو نتحدى المرض الخبيث بتشريع نوافذ إضافية للغوص في التجارب بما تبقى من زمن محسوب طبيا ؟لماذا لا نستسلم بانتزاع يومياتنا وساعاتنا المتبقية ؟ كيف نتجرأ على الرفض أو القبول لإرتباطات لم تنبع عن وعي إختياراتنا ؟ كيف يقلب الفقد تتاغم علاقاتنا لتبادل إتهامات الجريمة أو الإلتصاق بالذنب الآثم لجريمة لم نرتكبها؟
..تجارب حياتية مشرحة على مدار مئات الصفحات تستدرج فيها الكاتبة الوعي واللاوعي وهي تدخل ضمن حلقة العلاج والمعالجة من زاوية النفس البشرية المتقلبة المتعددة الأمزجة المتلونة بين نزعات السعادة وتراكم الأحزان.
تتسلل الحِكم بين تلك الحالات ليست كدروس علمية بل كخلاصات حياتية تدير بها دفة معالجة مرضاها ومعالجة مشاكلها ذاتها بالتفاعل مع طبيبها والمرضى والتداوي بالكتابة للخروج من الكآبة .
تقول : “كثيرون يأتون للعلاج سعياً وراء الختام – ساعديني ألا أشعر – لكن ما يكتشفونه في نهاية المطاف هو أنه لا يسعك ان تكتم إنفعالاً أو شعوراً واحداً من غير أن تكتم المشاعر الأخرى . تريد أن تكتم الألم ؟ ستكتم الفرح أيضاً.”
إقرأ أيضًا:
كورونا لا يعطي اجازةً للقتل
كيف يقتل الإنسان أجمل ما فيه؟