نتفقد نوافذ الامل وسط هذا الضيق،في العتمة بين وجوه أطفال الحروب وركام أسلحتها الفتاكة نتلمس أجسادنا التي نجت مرة تلو مرة ،ثم سقطت كما سقطنا كورقة شجرة في خريف ،بلا وزن ،دون طاقة أو حتى قدرة على إبطاء التهاوي.
نلتقط الأنفاس مع هدنة لم تكتمل أيامها،تتكشف الهدن ككل تدمير عن حجم المآسي التي خلفتها وحشية الحرب.
لحظات الاصابة الاولى تطويها الصدمة،بعدها يجتاحنا الألم المبرح.
نستعيد معها يوم عدنا بعد حربنا الاولى في طفولتنا،والثانية في مراهقتنا والثالثة والرابعة والخامسة …يوم عدنا الى منازل بلا جدران ولا أبواب،بلا جيران نلتمُّ على صباحاتهم.
قبل غزة وبعدها، بعض البيوت القليلة التي استقامت رغم عنف التدمير تنتظر من يؤنس وحدتها ، غاب قاطنوها في رحلة بلا عودة. نرى وجوه أطفال تحدق في رحلة بحث لن تنتهي عن حضنِ او عن إبتسامةِ أم و أب.
تشرق الشمس في مقلب آخر من العالم على طفولة تستعد لميلاد وشيك تخيم عليه مآسينا أو يدير البعض وجهه عنها.
هل هكذا يفترض بالحياة أن تكون ؟هل القبول والرضوخ لهذا الإجحاف الإنساني مسارنا الحتمي؟ بعد كل موت نلملم أشلاء تشظينا ونمضي محملين بأثقال متراكمة، مرة بعد مرة. ليس لنا إلا مناجاة صباحات تفتح طاقات الأمل. تكثر معها ورشات علاجية للتجاوز أو بالأحرى للتعايش مع صعوبة الأزمات.
“الاسترخاء، التنفس، التأمل ،اللجوء إلى الطبيعة، بناء حوار من الذات واليها، تقليص توقعات الخارج” يبدو التمرس على معايشة المآسي سبيلاً للاستمرار مادام الموت اليومي خبز أعمارنا.
وسط هذا الركام، العالم مشغول بتنظيم إحتفالاته، تطل لوحة بيكاسو لإمرأته كأغلى لوحة في مزادات العام، سجال الموناليزا بنسختها الأصلية أو المزورة في متاحف إيطاليا.
من عليائه يلوح لنا جبران في بشري يشرّع متحفه أبوابه عبر تطبيق انستغرام لمناسبة مئوية “النبي”.
نتمسك بطوق نجاة قصيدة”الشفقة” للشاعر الايطالي الراحل جوزيبي أونغاريتي التي كتبها عام (1928)، صرخة ألم الرجل الجريح الذي يلجأ في هذا الحوار الشعري إلى الله.
الشعر يقوي جدار الروح ، شكل من أشكال الصلاة،
هذه القصيدة “La Pietà” ترفعنا نحو السماء، صرخة ألم الموجوعين ،خائبين من عدالة الأرض .
في المقطع الأخير من قصيدة “La Pietà” نجد أوضح وأكمل تصوير لإنسان القرن العشرين، الابن الوحيد لعصر التناقضات والصراعات.
بالنسبة لأونغاريتي، تتدفق “الكلمة الحية” من الصمت، ويبدو أنّ هذه القصيدة قد كتبت من خلال الصمت المتجمع في هوة أعمق من الحنجرة، والتي تتحول بالتالي إلى صرخة صامتة، كما كتب المؤلف في قصيدة الوداع الشهيرة:
في صمتي هذا
تم حفر كلمة في حياتي
كالهاوية.
قصيدة حقيقية بأربعة أقسام، مكونة من 74 بيتًا.
تبدأ صلاة أنغاريتي ببطء، تقريبًا بالهمس الذي يدفعه إلى إعلان “أنا رجل مجروح”، ثم ترتفع حتى تتحول إلى صرخة رجل ينحو بيأسه نحو التجديف في التواصل مع الله.
صوت يُمنح لألم البشرية ، يعطي الشاعر جوزيبي أونغاريتي وجهًا آخر للألم، للشعور بهشاشة الإنسان، يضنيه التناقض بين الحياة والموت الطاغي. الأمل يصبح ” كومة ظل” .
مما يقول الشاعر:
“سئمت الصراخ بدون صوت،
في الحقيقة ليس الصوت هو المفقود، بل ذاك الذي يستمع إليه.”
تضيع الصرخة في الصمت كالدخان.
من المعاناة ترتفع نبرة الشاعر للتحدي: “وهل ستكون مجرد حلم يا إلهي؟” ولذا فهو يناشد السماء الفارغة.
توأم القصيدة تمثال مايكل أنجلو الأبدي يجسد أملاً إنسانياً في دروب الجلجلة ،
أملٌ لا تغيبه المرارة كسيل الفنون ، من شعر ورسم وموسيقى، التي فجرتها على صفحات التواصل الاجتماعي الإبادة أيضاً في غزة…
لا بد من السعي الدؤوب خلف الحقيقة،خلف الحرية المكتملة، لا بد ، أليس هذا ما وعدتنا به الفلسفة وحتى الأديان ،أن نحاربَ اليأس ولا بد سيأتي يوم تشرق فيه شمس سلام لنتعلم الرقص الحقيقي على المسارح بمنأى عن المذابح.