هناك أشياء لا تفسير ولا تعليل لها، لكنك تلتمسها من المخزون البشري بالتجارب والأقوال والأمثال، فالمكتوب ليس منه مهروب، وبالفعل كلنا تقريبًا هربنا من أفكار كانت تطاردنا فوقعنا بها لأنها الأقدار، ولا نعلم ان كنا نحن رسمناها لأنفسنا، أو هي كانت موجودة بداخلنا كالبوصلة البيولوجية تأخذنا حيث القدر وضع مفاصل ومفارق، وحتى الأرزاق مازالت مرتبطة بمعادلة خفية تحاكي الألغاز، جميعنا عملنا بجد ونشاط أو أقله ما استطعنا ان نقوم به بإمكانياتنا، لكن بالختام الغالبية فشلت بتحقيق الثروة وقلائل نجحوا، ومنهم لم يكن يعمل شيء لكنه استيقظ ذات صباح على إرث لم يكن يتوقعه، وكان هذا الرزق هو الذي كان يبحث عن هذا الشخص ليجده.
ابان الحرب الأهلية في لبنان، وبما أن والدي كان مع الكتلة الوطنية، وبسبب ما كان يجري على الساحة المسيحية، حاول حزب مسيحي ان يعتقل والدي من داخل محطة للمحروقات كان يعمل بها، لكنه نجى بفضل شخص من آل شحيمي (كاتب) قام بإخراجه من جبيل نحو الشمال، وبعدها تبعناه الى الشمال، في عام 1987 توفيت والدتي جرا حادث، وبما ان والدي كان يعمل في احدى دول الخليج، بقينا لوحدنا في الشمال، لا أهل ولا أقارب، وكنت أكبر اخوتي الأطفال بسنوات، مما اضطررنا العودة الى جبيل، كي نعيش بكنف جدتي رحمها الله.
ومن مفارقات القدر أنه حتى من عاش على راسي كان يحتاج الى معجزة، ذات يوم حلمت أمي بالقديسة برناديت وأنها أخبرتها بأنها ستحمل بفتاة وتعيش ان أسمتها برناديت، فذهبت إلى البطريرك صفير وكان مطرانا لجبيل حينها او يتواجد فيها، فأخبرته القصة، وقال لها إن نذر برناديت علي، وبالفعل وبعد 7 وفيات على راسي ولدت برناديت في جبيل.
وبعد عودتنا إلى جبيل، التحقت بعام 1988 بالحالة العونية في قصر الشعب، وكنت أجيد فن الخط، فكنت أخط اليافطات وأرتب الشعارات، وذاعت شهرتي بهذا العمل حتى مسعود الاشقر (بوسي) كان يأتي من الأشرفية لأكتب له الكثير من العبارات على اليافطات.
وبعد 13 تشرين 1990، كنت من أواخر من غادر المنصورية بلباس عامل اسمنت، حيث كنا أنصار، نساعد الجيش بالطعام والأعمال اللوجستية والمكتبية، كالطباعة على الآلة الكاتبة، وقد ساعدتني هويتي اني من الطائفة الشيعية بالمرور على الحواجز السورية وحلفائها، من جسر الباشا وصولا حتى مار مخايل حيث كنت أتبع صوت الآذان لأني لم أكن على معرفة بطرقات بيروت، وبما اني لست قادرًا على العودة إلى جبيل خوفًا ان تعتقلني القوات اللبنانية، اضطررت للعودة الى الشمال، حيث كان العونيين مطاردين وملاحقين من كل القوى اللبنانية وغير اللبنانية، فكان الجيش السوري، والدولة الرسمية اللبنانية تطاردهم، والقوات اللبنانية تطاردهم، والاحزاب اللبنانية من تقدمي وقومي وامل وبعث وفرسان الحمر، وحتى الامم المتحدة لم تقف إنسانيًا مع العونية،
وبعد أن عدت الى القرية في الشمال “اشتغلت” بأي شيء بالقرية كي لا أخرج منها، وكنت وحيدًا، حيث بقي إخوتي الصغار عند جدتي في جبيل، وقد عشت أحلك وأصعب حياة يمكن لكائن حي أن يعيشها، ثم انتقلت للعمل في دار الفاروق للطباعة والنشر، كما قلت لكم كانت مهاراتي كبيرة للغاية بالرسم والخط، وقد تكلّف الأستاذ صاحب الدار بتعليمي على الكومبيوتر، مع نهاية عام 1991 التقيت بالصدفة مع طلال خزعل وهذا الإسم لاول مرة أذكره، وهو كان يتعاطف مع العونيين، وكان لديه محل صغير في ساحة الكورة (ساحة النجمة قرب التل في طرابلس) وكان يتردد عليه الكثير من العونيين من عكار وأيضًا بعض الطرابلسيين الذين كانوا ينتموا الى الحالة العونية، وقررنا إستعادة نشاطنا العوني، وغالبية ما كان كتب في تلك الحقبة، على الجدران في الزاهرية وغالبية الشوارع المحيطة بها (عون راجع) كنت انا اكتبه، وكي نستطيع ان نصور ونوزع بعض مناشير العونية افتتح طلال خزعل، مكتبة اسماها كوبي طلال، وبعد كتابة عون راج على جدران حي الامريكان، اصبحت اللقاءات والاجتماعات شبه مستحيلة، مما اضطرني للعودة إلى العيرونية وأن لا أغادرها، وعادت الأمور تضيق بالخناق فلا يوجد أمامي إلا ان أعيش على ما تنبته الأرض، او ما يتوفر من بعض الأعمال حيث كنت أخط على بعض ابواب المحلات بدل إيجار زهيد، وكان الصمت رفيقي دائما، وذات يوم تدخّل القدر، حيث شاهدني أخط على احد بواب المحلات، شخص من زغرتا لديه محمصة قهوة على ما اذكر اسمه حميد او بن حميد، فطلب مني أن أصمم له شعار وان أخط له على مؤسسته، وأخبرته أني أبحث عن عمل، فقال لي اصعد معي وذهبنا الى زغرتا الى شخص من آل كعوي، وقال له شغّل هالشاب معك وأكرمه، وبالفعل عملت مع الأستاذ سمير كعوي وهو كان بغاية الأخلاق والكرم واللطف والظرف والمرح.
وتغيرت حياتي نحو الأفضل، وكنت أقوم باقتطاع بعض المال وأرسله إلى أخوتي في جبيل، ولكن هذا الحال لم يستمر طويلاً، وأيضًا تدخّل القدر، حتى طرق بابي ليلاً وإذا بشخص من حركة التوحيد الإسلامي، يخبرني بأن السوريين قادمين لاعتقالي، وقد سمع هذا الحديث من أحد كان موجودا داخل مركز على مفرق الفوار، وقال لي هناك سيارة مرسيدس تنتظرك امام دكانة الشيخ اسماعيل، وبالفعل انا خارج مرت بقربي ثلاث سيارات عسكرية سورية، وصلت الى سيارة المرسيدس التي اوصلتني هذه السيارة الى منطقة التل، ومن هناك توجهت نحو بيروت، لم أشَأ ان أرعب اخوتي الصغار وعائلتي، علي فهم لا يعرفون شيئًا بالسياسة، وقد وصلت ليلاً إلى منطقة حي الابيض حيث كانت تسكن خالتي، وبسبب الوقت المتأخر لم أعرف أين منزل خالتي، فقضيت ليلتي جالسا فوق خزان للمياه التي كانت توضع على جوانب الطرقات، وفي اليوم التالي ذهبت الى شقيقة والدتي وقضيت أسبوعا هناك قبل ان أتوجه الى فردان لاسكن مع خالي الذي هو رفيقي وصديقي، وبعد ان استقريت ببيروت وبدأت انتج بعض المصاريف، كنت اتوجه الى منطقة جديدة المتن حيث كنا نلتقي ببعضنا العونيين، وتتذكرون في تلك الاثناء انتشرت ظاهرة عرفت بالزمور العوني، وقد ابتدعها شخص من ال ابو جودة.
وايضا تدخّل القدر ذات يوم عندما كنت استعد لركوب الحافلة من اول شارع الحمراء الى فردان، حيث اغلق احد الركاب الباب على يدي التي اصيبت برضوض، والذي اغلق الباب اصر ان يأخذني إلى مستشفى الجامعة الأمريكية حيث كان يعمل هناك ممرًضا، وهو من عائلة أبو دياب من الجاهلية، وهو اول مرة يركب الحافلة، كون سيارته بالصيانة على الكولا، وبعد ان اطمئن انه لا يوجد اي كسر، طلب مني ان ازوره بعد أسبوع، حيث جلسنا في مطعم مستشفى الجامعة، وعندما سألني عن عملي قلت له اني أساعد خالي، فقال لي ان لديه مصبغة خلف سبينس قد استأجرها، وهو يعمل بها بعد الدوام، وكانت هذه المصبغة تقع في ذات المبنى الذي يقطنه السيد توفيق سلطان، كما انها ليست بعيدة عن منزل رائد الصحافة الاستاذ محمد امين دوغان الذي تعرفت عليه، وأيضًا مقابل المصبغة كان هناك رجل الأعمال الأستاذ نجيب زهر.
والذي يتابع مقالاتي وحتى الرفاق العونيين القدماء، كانوا دائما يسالوني من الذي انقذك من البوريفاج، وبالفعل انا نشرت اكثر من عشرين مقال حول نضالي العوني وكنت دائما أذكر قصة اعتقالي بالبوريفاج، وانه هناك رجل اعمال انقذني.
وايضا من لعبة القدر، ان أبو دياب صاحب المصبغة، كان يحرص ان يرسلني لإيصال ملابس الاستاذ نجيب زهر، وبدوره الاستاذ نجيب زهر كان لماحًا ذكًيا، فكان يمازحني قائلا، شكلك ملوكي والملك لو لبس خيش بضل ملك، فكنت أضحك قائلا الله يساعدني، ولكن أحيانًا كثيرة كنت أرسل بعض الإشارات التي كان يلتقطها، وللأمانة حاول مرات عديدة ان يساعدني وكنت ارفض، حتى انه عرض ان يشتري لي المصبغة قائلا شو رايك نكون شراكة، فكنت اضحك.
وذات يوم أغلقت المصبغة، وتوجهت الى الرملة البيضاء لاشرب فنجان قهوة اسبرسو من الفانات التي كانت تصطف على الكورنيش، وبينما انا ارتشف قهوتي جلس بقربي شاب لبناني واخذ يحدثني، اين تعمل ومن اين وبسياق الحديث اخبرته اني من بلاد جبيل واسمي ناجي أمهز، فما كان منه الا ان ضربني بشيء اعتقد انه كعب مسدس لاستيقظ وانا في مركز الاستخبارات السورية (البوريفاج).
مر أسبوع في ذاك المعتقل، أسبوع لا توصف أيامه، وذات يوم فتح باب الزنزانة، لأجد امامي ضابط سوري اخرجني الى غرفة يجلس فيها ثلاثة رجال، ومن كثرة الضرب كنت أعاني من دوخة، فعرفت فقط من الوجوه وبعد تركيز وجه الأستاذ نجيب زهر، واعتقدت أحدهم أنه عمي حسين رحمه الله، فكان هذا الرجل يشبهه تمامًا، وقف هذا الرجل وكان عريضًا قصير القامة وجهه كبير شعره خفيف وله شوارب، اجلسني قرب المحقق، وسألني أنت من أين فقلت له من جبيل، فصرخ بي قائلا انت من البقاع وقال للمحقق أكتب أنه من البقاع، وتقدم مني نجيب زهر ممسكا بيدي، واخرجني برفقة الضابط الكبير من البوريفاج، واوصلتني سيارة الى قرب مندرين(فردان)، وبعدها توجهت الى حيث يسكن خالي.
وبقي ابو دياب يهتم بأدويتي، واخبرني القصة انه بعد غيابي يومين ذهب ليسأل عني فقال له خالي ربما عدت الى جبيل، وان نجيب زهر سأله عني، وهو الذي بحث وعلم اني موقوف في البوريفاج.
وبعد ان اصبحت بصحة جيدة توجهت الى الاستاذ نجيب زهر لأشكره، فأشار علي أن أغادر المنطقة وتمنى علي أن لا أخبر أحد بما فعله، وتكرّم علي، ورافقني الى الباب وقبل ان ادخل المصعد، رفع يده مبتسمًا وقال ألم أخبرك أنك ملك، وطلب من سائقه أن يوصلني إلى الضابط السوري الكبير كي أشكره، والذي كان مركزه آخر الشارع الذي تتواجد به المصبغة، وهناك استقبلني الضابط وحدثني كثيرًا بالسياسة وأهداني كتاب اسمه سيرة مناضل عن الرئيس حافظ الاسد، وقال لي حرفيا، نحن نحترمكم أنتم العونيين، لكن السياسة مختلفة كثيرًا والأيام ستكشف لكم الكثير.
وبالفعل كبرنا وفهمنا الكثير بالسياسة، وشاهدنا بأم العين والجسد الحي، كيف تضيع التضحيات، فالثورة يفجرها مجانين بعشق أوطانهم فيموت فيها الشرفاء ويستفيد منها الجبناء.
لذلك لا تستغربوا عندما اكتب انا او غيري عذرا حافظ الاسد، فما يحصل اليوم في وطننا، يكشف الكثير، هو تحذير كي لا يقع غيرنا بما وقعنا فيه، وبخاصة ان التجربة العونية كانت اكثر التجارب وطنية في تاريخ لبنان، واليوم أين أصبحت.
ويوما ما سأكتب كل شيء وسيكون اعظم كتاب او ربما سيناريو لمسلسل لبناني يجسد الواقع بمختلف توجهاته، فانا الذي عاصرت النخبة الحاكمة وعايشت الحروب، ورجال الدولة.
أما ما اكتبه الان هو رد جزء صغير من الجميل للمرحوم الكبير نجيب زهر، كي يكون شاهدًا إلى الأبد على وطنية حقيقية، وكرمه وحسن خلقه ورفعة مكانه، وكثرة خيره، فهو كان ينفق ويعلم ويربي ويطبب ويجبر الخواطر، دون ان يسمع أحد عن لسانه كلمة واحدة، رحمة الله عليه.