أكتبُ عن زمنٍ سيتذكّره الكبار فقط …
أكتب عن زمنِ الطفولة … طفولتنا نحن.
عن زمن أحلامنا الوردية التي كانت حقائبنا الصغيرة تحتويها.
عن مدرسة “الأخوة المريميين” في حلب أو “الفرير” التي قامت بتربيتنا قبل أن تقوم بتعليمنا.
عن أساتذة انتقلوا الى الباري – ليرحمهم – وما زالت أطيافهم تجوبُ فينا مع ابتسامة نرسمها على شفاهنا كلما ذكرناهم.
كنت صغيراً، وكما تحب خالتي أن تُطلق عليّ تسمية القرد الصغير الشقي، أحمل حقيبتي المدرسية، والتي كنتُ أعتقد أنها تحتوي على كل كتب العالم على قَدر ما كانت محشوة بالكتب والدفاتر والأقلام الملونة والمساطر وعدة الكتابة، وأذكر لون حقيبتي العسلي الغامق، وكم كانت تجعل كتفي يميل نتيجة وزنها الثقيل بالنسبة لصبي لم يتجاوز الثامنة.
كنت مع بقية الصبيان نمرح في باص المدرسة رقم “4”، وكنا نشتري من السائق خشب السوس الذي لا يفارق فمنا الصغير، حيث كنّا نمضغه مستمتعين.
خلال أسفاري المتعددة في العالم كانت تصادفني مدارس يخرج منها الصغار، ولكنني لم أجد فيهم طفولتي ولا أصدقائي … فهل هؤلاء الأطفال يعرفون لعبة “الجحشة الطويلة” أو “البلبل الصياح” أو “الأكلال”، وهل لديهم راهب يوزع لهم السكاكر مثل هذا قديس مدرستنا “فرير جورج”؟
كان من عادات مدرستنا أن تأخذ لنا صورة تذكارية للطلاب والأساتذة لكل صف، وعندما أتفرج على هذه الصور، أشاهد رفاقي وكأنهم ينطقون، ولكأن صورهم تحكي مسيرة طفولتنا، وأكلمهم ويجيبونني بلهفة وسرور، وعندما أسألهم عن أحوالهم، تأتي الإجابة الغالبة بأنهم هاجروا.
هل يعلم أطفال المدارس في الغرب، أننا كنّا مثلهم، نضحك ونلهو ونبكي ثم نضحك دون أن نعرف أن المستقبل سيكون قاسياً على أغلبنا فنهاجر؟
هل سيفهمون كيف أن هناك أزمات في العالم ومنها سورية، ستقتل أحلام من هم مثلهم، هذا إن لم تقتلهم؟
بصورنا الصبيانية، تعودُ بي الذكريات فأسمع ضجيج ملاعبنا وصدى أصواتنا وهمهماتها ولكأن رفاقي سيخرجون من الصورة ليتابعوا شقاواتهم.
أسأل أصدقائي الذي عرفتهم في المدرسة، عن البعض الذين غابت أخبارهم، وقد تخرجوا من جامعة حلب، أطباء ومهندسين وأدباء وغيرها، لكن أغلبهم الآن في غربتهم – التي أجبرتهم الظروف عليها – يعيشون على هامش الحياة يعملون بِمِهنٍ ووظائف لم يصدّقوا في يوم من الأيام أنهم سيقومون بها، لا لشيء إلا لأجل لقمة العيش في الغربة.
صفوفنا الدراسية والطباشير التي ترسم على اللوح أحلامنا وآمالنا.
صنابير المياه التي نركض اليها بمجرد انتهاء الحصة، لنشرب منها ولم أستمتع في حياتي كلها بمثل مائها.
في المدرسة الكبيرة جداً ولكنها صغيرة أمام أقدامنا، كنا نشتري الأطعمة من السجق والجبنة والفلافل، من محلين “جورج” و “جودت”، ولا ننسى الكازوز بمختلف ألوانه، ولكن الأحب إليَّ هو “الكازوز الأحمر” لأنه برأي ورأي غالب الصبية الصغار أنه يزيد الدم فينا.
هكذا كانت أحلامنا التي كبرنا عليها ودرسنا وأسسنا عائلاتنا وأنجبنا أولادنا … ثم قطعت هذه الأزمة السورية أحلامنا وجعلت الكثيرين منا يضعون أحلامهم داخل حقائب السفر … ويهاجروا.
كنا مثلكم يا أطفال المدارس في العالم، بأحلامٍ وردية وطفولة بسيطة … ولكن هناك من أراد سرقة أحلامنا وتحطيم نموذج عيشنا وأراد أن يعلِّمنا أن أحمد ومحمد يجب أن يتعالوا على جورج وانطوان، لا بل أن يقتلوهم لأنهم كفرة … لكن الطفولة في حمودة وجوجو وطوني تأبى ذلك. فقرّروا الهجرة لتبقى أحلامهم سليمة.
هذه أحلامنا وشقاواتنا و”طاباتنا” التي نلعب بها.
آه من أحلامنا … ومن ذكريات طفولتنا ومن الأرصفة في أزقتنا ومن مزاريب المياه على أسطحنا.
آهٍ .. وكفى
اللهم اشهد اني بلغت