اجتماعالاحدث

عودَة العاشق أراغون بعد 40 عامًا (2 من 3) | بقلم هنري زغيب

في الجزء الأَول من هذه الثلاثية، مهَّدتُ بنبذة عن الشاعر لويس أراغون (1897-1982) وحبيبتِه إِلْسَا تريوليه (1897-1970)، وذكرتُ أَن منشورات “غاليمار” في باريس أَعادت قبل أُسبوعين طباعةَ ثلاثٍ من مجموعاته الشعرية.

في هذا الجزء الثاني من الثلاثية أَعرض لهذه المجموعات الثلاث، وهي : “الغُرَف”، “الـمُلاحَق الـمُلاحِق”، و”الوَداع وقصائد أُخرى”.

فماذا عنها؟ وما أَهميتها في مسيرة أراغون؟

 

1. الغُرَف

حين صدرَت هذه المجموعة مرة أُولى سنة 1969 كانت تحمل عنوان “الغُرَف – قصائد الزمن الذي لا ينقضي”، وتعالج مواضيع غاليةً على قلب أَراغون، أَبرزها: “حُب إِلْسَا”، “الخوف من موت الحبيبة”. 

كان أَراغون بدأَ بكتابتها سنة 1968 والإِهداء “إِلى إِلْسَا” (التي توفيت في السنة التالية). من هنا شرحَ أَنها مجموعة قصائد تغني الحب وأَن “كل شيء ينقضي إِلَّا زمن الحب الذي توهَّج ويظل يتوهَّج حتى الرمق الأَخير، الرمق الأَخير: هذه العبارة القريبة الرهيبة” (كما قال الشاعر في مقدمة المجموعة).

بعد صدور المجموعة قال أَراغون: “كانت هذه آخر هدية قدَّمتُها لإِلْسَا كي أَعترف لها أَنْ لم تكن مشرقةً جميعُ أَيامنا معًا، ومنها ذاك اليوم الذي غابت فيه عني إِلى الأَبد”.

وفي كلمة عنها كتب: “يا إِلْسَا، جميع الغُرَف التي أَذكرها في هذه المجموعة، هي تلك التي عرفناها معًا. إِنها غُرَف الماضي، متشابهةٌ لكن كل واحدة منها منفردة في ذاتها”. وكأَن الشاعر كان يحدس بقرب غياب حبيبته، فاستدرك الوداع في أَبيات من النثر الجمالي الجميل (وهو غير الشعر)، في مقاطع غير متناسقة، بغير تسلسل في الأفكار والفقرات، وفْق ما يذكره عن تلك الغُرَف التي عاشا فيها معًا متنقِّلَين طيلة حياتهما الزوجية. وذكَر: “كتبتُ هذه المجموعة عن حبِّنا قبل أَن يفوت أَوان الكتابة عنه”.  

2. الـمُلاحَق الـمُلاحِق

هي من مجموعات أَراغون الرئيسة في مسيرته الشعرية. صدرَت سنة 1931، وكانت في عُرف النقاد نشيدًا سياسيًّا يعلن إِيمان الشاعر بالتزامه السياسي، وبدايات انتمائه إِلى حب إِلْسَا في قصائد شكَّلت مشهدًا شعريًّا رائعًا في تمجيد ملهِمة الشاعر ووضْعها في مرتبة عليا تليق بما كان يراه فيها.

هذه المجموعة هي آخر ما أَصدره أَراغون إِبان انتمائه إِلى الحركة السوريالية، وقصيدته “الجبهة الحمراء” التي حذف منها بروتون بعض المقاطع عند نشْرها، سبَّبَت القطيعة النهائية بين الشاعرَين وطلاق أَراغون من السوريالية.

قصائد المجموعة لا تتّبع النُظُم العروضية التقليدية، كما في مجموعات الشاعر السابقة، بل تنفلت إِلى سياق حر، في أُسلوب سجّل فجرًا طليعيًّا جديدًا في الشعر الفرنسي الحديث. ففي قصيدة “الجبهة الحمراء” مثلًا، أَورد مقطعًا نثريًّا بحتًا تخلَّل المقاطع الشعرية. من هنا أَن تقطيع القصائد جاء وفق انسياب الجملة لا وفق نهاية البيت التقليدي في النظْم الكلاسيكي، وهو ما عاد فاستعمله لاحقًا كذلك في قصائد المقاومة. 

علامة هذه المجموعة أنَها صدرت قبيل انفصال أَراغون عن السوريالية، كتبها في السنة “الحزينة والسوداء” (1931)، من هنا ما جاء فيها من جو قاتم لكثرة أَزمات تلك السنة المشؤُومة في حياة الشاعر. وهو، وإِن ندِم لاحقًا على مبالغاته في بعض قصائدها (كما قصيدة “الجبهة الحمراء”)، إِلَّا أَنه يعتبرها علامة مهمة في مسيرته الشعرية.

ومما شرح عنها الشاعر لاحقًا سنة 1967 أَن الكتابة “فعلُ إِنقاذ من التمزُّق الداخلي، وفعل رفْض المفروض، وفعل تمزُّق اللغة، وفعل الهرب من الانتحار وهي حالة الشاعر الـمُلاحِق الأَول لأَنه الـمُلاحَق الأَول”. وقال إِن “مَن يكتب يتعرّى، فتَظهر جراحه ونُدُوبه وقُوَّته وضعفه وروحه ومشاعره”.    

مجموع قصائد هذه المجموعة يشكِّل نوعًا من اعترافات الشاعر في دفتر يومياته، بالمعنى الحميم للكلمة وبمعناها العام العلني. فهو هنا في بدايات تمتماته الغزلية إِلى إِلْسَا، وتمتزج فيها أَجواء الغنائيات والمناسبات في حياته، لتشكِّل خليطًا يبدو غريبًا للمرة الأُولى لكنه يُثبِت أَن الشعر في هذه المجموعة كان فعلًا عند مفصل مهم من سيرته الشخصية ومسيرته الشعرية.

3. الوَداع وقصائد أخرى

هي آخر مجموعة على حياة الشاعر. صدرَت سنة 1979، وتضمُّ قصائد منذ سنة 1958 حتى تاريخ صدورها، كانت متفرقة في الصحف والمجلات.   

عنوانها مأْخوذ من سوناتا بيتهوفن للبيانو بعنوان “الوداع” (وضعها بيتهوفن سنة 1810). وفيها يثير أَراغون وداعَه حبيبتَه وملهمتَه إِلْسَا، أَراده “وداع إِلْسَا التي غابت، والحياة التي غابت معها، والعالَم الذي انطفأَ في قلبي بغيابها”. ويستذْكر أَراغون فيها تلك الأَيام الصاخبة التي عاشاها معًا بكل ما فيها من جمالات رائعة. وفي المجموعة أَيضًا تحية إِلى الشاعر الأَلماني هولْدِرْلِن (1770-1843)، وتحيات وفاء إِلى أَصدقائه “رفاق الدرب” الرسامين: مارك شاغال (1887-1985) وبابلو بيكاسو (1881-1973)، وبول كْلي (1879-1940) وأَندريه ماسُّون (1896-1987).

يرى النقاد أَن هذه المجموعة “أَجملُ ما صدر لأَراغون، بما فيها من تأْثير رومانسي وتأَثُّر ليريكي يبلغ مداه الأَقصى في قصائد رائعة يتمازج فيها الحزن على الغياب والنداءُ إِلى المجهول الآتي”.

سوى أَنها، في مسيرة الشاعر، بين أَنضج وأَجمل ما كتبَه على الإِطلاق، في حميميةٍ كأَنه يودِّع بها هذا العالَم.

غلاف”الوداع”

الجزء الثالث (والأَخير) من هذه الثلاثية: أَراغون في بعلبك.

ينشر بالتزامن مع “النهار”

هنري زغيب، كاتب وشاعر لبناني

شاعر وكاتب لبنانـيّ، له عدد كبير من المؤَلفات شِعرًا ونثرًا وسِيَرًا أَدبية وثقافية، وعدد آخر من المترجَـمات عن الفرنسية والإِنكليزية، وناشط ضالع في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية منذ 1972. مؤَسس "مركز التراث اللبناني" لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية، ورئيس تحرير مـجلة "مرايا التراث" الصادرة فيها. درّس في عدة جامعات في الولايات المتحدة منها جامعة جورج واشنطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى