الافراط المتمادي في الإبادة الجماعية في غزة يفرض فكرة الموت كواقع يومي ،تتوارى خلفه الحياة تصبح إفتراضية وعقولنا أسيرة المشاهد المتدفقة لعشرات الجثامين كبارًا وصغارًا .
صورٌ ببشاعتها فوق الإحتمال ،نتلطى منها بغض النظر ، تداهمنا بهول الكارثة والتفنن في التدمير، بنسج رواياتٍ ملفقة عن قاطنيها،ومستشفياتها الى أن تطل أيدي الاطفال من تحت الركام أو عيونهم الجاحظة فوقه.
على مسافة صفر من القتل المستباح، نُعِدُ بالدقائق أيامنا ،أسرى أماكننا كأن قطارنا يعبر ونحن نلتصق بجدار المحطة الاولى.تعيدُنا مشاهدُ جثثِ الأطفال والعائلات المكومة أمامنا الى “صفر التكوين” في ذاكرتنا الملكومة.
تضمحل القدرة على ترجيح العقل في التعامل مع فكرة الموت ، قبل ذلك كنا نستعين بمفاهيم فلسفية عدة، نقارب الفكرة، نفجع بالفقدان قاربنا مرارًا الموت كممر لا بد منه في رحلة العبور.
كان متواضعًا أمام الإبادة، يتضاءل أثرُه أمام فكرة قتل الحياة قبل أن تولد.
أين يذهب الأطفال بأكفانهم ومنهم لم يولدوا بعد؟
قُطع عنهم الهواء داخل الزجاج العازل قبل أن يتنشقوا آثام هذا الكوكب المُدمَر ببيئته وحروبه وتوحش بشره.
تعانق الأحرفُ أسماءهم، نُعلقها بجناحين، نطلق عليهم الأوصاف والتسميات، “ملائكة السماء”.من قال إن السماء إستغنت عن طيورها، أو أنها إستبدلتهم ب”يوسف” وطوابير رفاقه؟.
يحيرنا هذا الموت المتدفق بأكثر مما تحتمل حياة واحدة.لطالما بقي الموت لغزًا طوعته الأديان، على تنوع رسالاتها، في زمن التبشير بالخلود بين جحيم العقاب والنعيم الموعود.
أشهد أني شهدتُ هذا الموت مرارًا، بأصفر الفوسفوري وأبيضه، شممت رائحته على جسدي حتى ثناياه الضيقة، بين لحمي وأظافري، شاهدت آثار حروقه مرة بعد مرة على الناجين القلة بعد كل مَقتَلة.
وأشهد أني بعد كل مقتلة أصبح اقل تقبلًا وأكثر هشاشة فيما آلة القتل تقوى وتتسع ،تقوى وتتسع …ككابوس يُطبق علينا حد الاختتاق.
أمامنا تواريخ لحروب ٍعلى مرِ أعمارنا،وُلد طفل قبل هذه الحرب ،بنينا منزلًا بين هذه المجزرة وتلك ، هُجرنا وهاجرنا ومازال الموت لصيقًا لم تنفع معه مُسكناتُ الإبتعاد…ليس بالذاكرة المثقلة بل بكل حكايانا المؤجلة عن تلك الوجوه الساكنة التي تأتينا في نهارات العتمة المصبوغة بلون الدم وغبار التدمير.
قبل زمن من الآن،كأنه اليوم ،هو تاريخ مكرر لأعمارنا ولحيوات من سبقونا وربما لأجيال لاحقة.
تبدو الحياة هنا مُسَخرة للموت كفعل يومي، يتجاوز الفكرة ليُكون واقعاً آخر يتماثل مع الحياة المعاشة لا بل يتلبسُها.
الخوف من الموت ليس قضية مطروحة وسط هذه الابادة،فهو يأتي خاطفاً ،ضبابياً بلا لون.تقبلنا للموت هو المعضلة.
في المُعاش كما في العالم الإفتراضي ،يُحلِقُ الموتى في فضائنا الفسيح،لهم منه في حاضرنا المساحة الأوسع.
لو جُمعت تلك اللوحات لأطفال غزة، قطعةً قطعة، لو جُمع حبرها نقطةً نقطة لبنينا بأجنحتهم مدارس وملاعب فوق طبقات الغيم،حيث لا تصلها النيران.