في طريق عودتي بالطائرة الى بيروت قبل سنوات شاهدت أحد الأفلام اللبنانية التي تقترحها شركة الطيران على الشاشة الصغيرة أمام المسافر. وهو فيلم فكاهي تحت عنوان “نسوان، ليش لأ؟” إلتبس علي هذا العنوان في البدء وظننته واحداً من تلك الأفلام التي لا تعد ولا تحصى والتي تروّج لمفاهيم نمطية عن النساء: الثرثرة، “تخريب البيوت” والتحايل. لكن حضوري للمقطع الدعائي عنه غيّر رأيي وجعلني أحضره كاملاً وباستمتاع.
يحكي الفيلم قصة رجل ذكوري جداً دخل السجن لفترة وحين أقترب موعد خروجه قرر اصدقاءه تدبير مقلب له يقوم على الإيحاء له بأن النساء أخذن السلطة في المجتمع أثناء مدة سجنه، بدءاً من زوجته في المنزل الى الشرطة وعالم الأعمال و”نساء السياسة”، الخ. تتوالى المواقف المضحكة في الفيلم حول ما يتعرض له هذا الرجل في عالم تحكمه النساء. وتكمن براعته بإكتفائه بوضع الرجل ببساطة مكان المرأة في كل لحظة من لحظات حياته اليومية.
ففي المنزل مثلاً يترك الرجل المرأة في غرفة الجلوس مع صديقاتها ليتحدثن بأمور توحي بالجدية فيما يتفرغ هو لتحضير القهوة والضيافة. أو تكفي نظرة مواربة ومصحوبة بحركة خفيفة من الرأس توجهها المرأة لزوجها حتى يغادر الغرفة ويترك النساء لوحدهن ليناقشن بأمور تخص العمل أو السياسة أو مجرد المسامرة والضحك.
لكن ما انطبع في رأسي بقوة هو مشهد موفّق إخراجاً وتمثيلاً حيث يبدو لنا الرجل في إحدى الأمسيات واقفاً في مكان عام بانتظار صديقه الذي تأخر عن الموعد. يتصل به مراراً وهو يتلفت حوله بحذر، فيما يشدّد عليه أن الليل بدأ بالهبوط والعتمة تحل شيئاً فشيئاً، والنساء المارّات بدأن النظر اليه بريبة. وعلى ما أذكر تقترب منه شرطية لتسأله عن سبب وجوده وحيداً هناك في هذا الوقت المتأخر وإذا ما كان بحاجة لأي مساعدة أو لمرافقته الى المنزل.
ما يبرع فيه هذا المشهد هو تصوير الحركات الجسدية للرجل: وقوفه بجسد مستقيم منتصب، رجليه ملتصقتين ببعضهما البعض، حركة عينيه ترصد ما يحيط به ببطء وحذر فيما يتكلم بصوت خافت، بما يتناقض كلياً مع حركات الرجال في المجال العام والتي تتميز بالخطوات الواسعة وحركات اليدين الرحبة والكلام والضحك بصوت عالٍ.
لكن حين هبط الظلام وبقي هناك منتظراً بدأت النساء المارّات بالتطلع فيه بحشرية، بتجوال أنظارهن على طول جسده مع التوقف عند مستوى صدره أو قفاه، بالابتسام له بإغواء، بالتحرش اللفظي أو بالإقتراب منه ومراودته عن نفسه. أي أن الفيلم أعاد تصوير ما تتعرض له المرأة في المجال العام خاصة في الليل، دون أن يلفت ذلك نظر أحد أو استغرابه. لا بل مع احتمال أن يعلّق البعض بالقول: “ما عليها إلا أن لا تخرج وحيدة!”
تشبه فكرة هذا الفيلم ما بدأت العلوم الاجتماعية الحديثة تتجه إليه أكثر فأكثر، أي التحول من دراسة البنى والمؤسسات والقيم الاجتماعية بشكل مجرّد ونظري، وتحليلها من خلال حالات واقعية، إلى دراسة السلوك وتعبيراته في التصرف والكلام والملبس والمظهر، باعتبارها خير دليل على قيم المجتمع وبنيته ومؤسساته. أي دراسة العام إنطلاقاً من الخاص أو دراسة التفصيل لفهم الكل.
اقتربت علوم الهندسة المعمارية والتنظيم المُدني والجغرافيا البشرية من العلوم الإجتماعية أيضاً لفهم التصميم العام للأمكنة العامة وما تتيحه من مجال للإختلاط أو للإقصاء بين فئات المجتمع المختلفة. مثلأ ما توفره لذوي الاحتياجات الخاصة والفقراء والمهمشين والعمال الأجانب، لكن أيضاً للنساء وكبار السن والأطفال. وبهذا تمكنت من مجرد مراقبة المشهد ودراسته التفصيلية أن تفهم أمور أكثر تعقيداً كالنظرة الاجتماعية لهؤلاء على سبيل المثال.
كما اهتمت بالمواصلات وأماكن الترفيه واللعب واللقاءات وتوفرها لفئات دون أخرى أو لجنس دون آخر. وبدأ يتضح من هذه الدراسات أن الشوارع والمباني والمواصلات وحتى الإضاءة في المدن جرى تصميمها دون الإلتفات للفروق بين الجنسين، بل إنها صنعت بشكل يسهّل عمل الرجال وتحركهم ولقاءاتهم المهنية أو الترفيهية.
في مقابلة معه يقول الجغرافي الفرنسي إيف رايبو الذي أصدر قبل أعوام كتاباً بعنوان “المدينة صمّمت للرجال ومن قبل الرجال”: “تستبطن المرأة منذ نعومة أظافرها أنها في خطر في الشارع. وقد بيّنت دراساتنا أن النساء يتحركن أقل من الرجال في المجال العام، لا يتوقفن طويلاً في الشارع حتى لا يُنظر اليهن كبائعات الهوى، بل يبقين في حركة دائمة لكن ليس بسرعة (حتى لا يظهر خوفهن) أو ببطء (حتى لا يبدو إنهن يبحثن عن مغامرة ما). ويضيف أن الرجل لا يفكر بشيء من ذلك، فيما تعتبر هذه استراتيجيات مدروسة بدقة من قبل المرأة كلما خرجت من منزلها.
تعيش مدننا العربية حالة فوضى تاريخية وانعدام للتنظيم المُدني ، وما يزيد الطين بلة في العقود الأخيرة هو الحروب الداخلية التي تتنقل من بلد لآخر وتتخذ من المدن الكبرى والعواصم مسرحاً لها. وهي حروب تعزز سمات الذكورية الأكثر عنفاً واحتلالها للمجال العام (استخدام السلاح، القتل، التباهي بأعمال العنف وقهر الآخر، استضعاف النساء وحتى الرجال الذين لا يساهمون بالحرب). وهكذا فإن الحيز المتاح للنساء والأطفال والرجال المغايرين يتقلص بقوة.
أما تجارب الإعمار التي تليها، كما حصل في لبنان مثلاً، فتقضي على ما ورثته هذه المدن من مجالات تقليدية تتيح الاختلاط، كالساحات العامة والحدائق والأسواق القديمة. تجدر الإشارة بهذا الصدد إلى دراسة منى فواز المتوفرة على الشبكة الإلكترونية عن المساحات المشتركة في بيروت.
ومع العلم أن المراحل التي تعقب الحروب هي حسب المهندسين المعماريين فرصة لإعادة بناء المدن حسب آخر ما تم اكتشافه أو اختباره في المجال المعماري أو التنظيم المُدني والإجتماعي، فغالباً ما تؤدي سياسات الإعمار الى التركيز على المجالات التي تسهّل فرص الإستثمار المحلي والعالمي ومصالح أصحاب الثروات. وهي تفشل لأنها مخصّصة لفئة معينة ومبنية على الإقصاء الاجتماعي نفسه. والمعلوم أن الإقتصاد لا يستقيم ما لم يلبي حاجات المجتمع بأكمله بغض النظر عن مستويات دخل المستهلكين أو لونهم أو جنسهم.
لم تتوان النساء العربيات عن ارتياد الشوارع يوماً، حتى لو اضطرن للإحتشام أو لبس الحجاب أو الجلابية. وهن أطلقن التظاهرات من أجل الدفاع عن حقوقهن أو شاركن بها لدعم قضايا اجتماعية ووطنية (كما يحصل اليوم في السودان والجزائر). بل حتى أثناء الحروب، حيث يكون وجودهن في الخارج أحياناً أسهل من وجود الرجال غير المسلّحين، لأن التعدي على المرأة بنظر المقاتل الذكوري هو ضعف.
حتى هذه النظرة التقليدية تستخدمها النساء لتؤمّن حرية حركتها ونشاطها الاقتصادي في المجال العام دون إزعاج أو مخاطرة.
مع ذلك، وفي لقاءاتي مع نساء رائدات أعمال في لبنان، ومنهن من صغار الحرفيات، اكتشفت معانتهن من غياب المواصلات وصعوبة التحرك في المدينة أو الوصول إليها من مناطق أخرى، حيث يتاح للرجل أن يتنقل في أوقات مختلفة من اليوم ودون التفكير مثلاً بخطر استخدام سيارات الأجرة. وبهذا الصدد مثلاً يمكن للسلطات العامة أن تشجع عمل النساء في قطاع المواصلات أو حضور واضح للنساء الشرطيات في الشوارع خاصة في الليل.
قرأت قبل سنوات كتاباً يؤرخ للعلاقات بين الجنسين في لبنان وسوريا منذ مطلع القرن الماضي حتى منتصفه، فتروي الكاتبة الأميركية كيف أن النساء اللواتي أتين من القرى الى المدينة بين الأربعينات والستينات بدأن شيئاً فشيئاً بتأكيد وجودهن في الشارع، بما أثار عدوانية الرجال أو تحرشهم أو النظر اليهن بنظرة مهينة تنطلق من اعتبار أن مكان المرأة الشريفة هو المنزل. لكن النساء ثابرن ودافعن عن وجودهن وتجولهن في الشوارع أو ذهابهن الى السينما. ذكرني ذلك بما كانت تخبرنا أياه والدتي وخالاتي عن تلك المرحلة وكيفية تصديهن للرجال المتحرشين وإيقافهم عند حدهم بالكلام أو بمجرد النظرة التحذيرية أو حتى أحياناً بالضرب بالحذاء.
وقد أتاحت هاتي النساء الرائدات لمثيلاتهن من الأجيال اللاحقة حرية الحركة والعمل في المدينة. لكن حتى اليوم ما زال كل ذلك يحدث بمبادرة خاصة من النساء وبدون أي تسهيل من السلطات العامة.
الدراسات قليلة عن المدن العربية وعمارتها وأنماط حركة المواطنين فيها كما استخدامهم لمجالاتها في ظروف وحقبات مختلفة. وما هو متوفر عن هذه المدن هو باللغات الأجنبية وغير مترجم للأسف. لا بد من التنويه هنا بدراسة صدرت عن معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت عن استدامة المدن، وبمقالة كتبها رائد شرف عن “المساحات العامة في بيروت: هندسة المجتمع المسالم الغائبة.”
إن ندرة هذه الدراسات تصبح فاضحة إذا حصرنا الأمر بتأثير التنظيم المُدني على إقصاء النساء والحد من نشاطهن الاقتصادي في وقت تحتاج العائلات العربية أكثر فأكثر لعمل المرأة.
يلعب الإختيار الواعي من قبل السكان لممثليهم على المستوى المحلي، خاصة حين يعجزون عن التأثير على رأس القمة السياسية، دوراً حاسماً بهذا الاتجاه. وتقدّم الانتخابات البلدية الأخيرة في بيروت مثالاً سلبياً على ذلك، على الأقل حين نشاهد فتيات نازحات بعمر الطفولة يمارسن الشحاذة في شوارع المدينة دون أن تحرك البلدية ساكناً!
يبدو أن الفكرة البديهية التي لم يستبطنها المواطنون في مجتمعاتنا حتى اليوم هي أن المجال العام هو ملك للسكان بأغلبيتهم وليس لحفنة من المستثمرين. وإذ يسهم المواطنون في إعطاء المدن سماتها الحيوية فهم أول المعنيين بخططها وتصاميمها. هذا ما يحدث اليوم في أماكن عديدة من العالم.
تطرح بلدية باريس مثلاً على مواطنيها استفتاءات على المشاريع التي تبغي إطلاقها في المدينة ومن ضمنها المعمارية من حيث الأولوية والميزانية وتأثيرها على حياة السكان ومصالحهم. وتجمعهم أخيراً في لقاءات لمناقشتها قبل التنفيذ.
بالمقابل، رغم الدعم الذي تقدمه المنظمات غير الحكومية أو منظمات الأمم المتحدة في سياساتها ومساعداتها وإرشاداتها باتجاه البلديات في المدن العربية، فالقليل من هذه المدن يلجأ الى الإفادة منها. فيما يضع البعض الآخر العصي في الدواليب خدمة لمصالح مرتبطة بالسلطات السياسية والإقتصادية ومصالحها. في لبنان مثلاً تبرز بين البلديات المتجاوبة مع هذه المبادرات تلك التي ترأسها نساء لأنهن يعرفن بالتجربة مدى حيوية المجال العام لهن.
للإشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا