يا قطار لبنان…. أَخبِرنا حكاياتِك (3 من 3) | بقلم هنري زغيب
في الحلقة الأُولى من هذه الثلاثية، عرضْتُ للظروف التاريخية التي وُلِد فيها خطُّ السكة الحديدية في لبنان سنة 1895، وما كان له من تأْثير كبير على الوضع الاقتصادي.
وفي الحلقة الثانية تتبَّعتُ سير القطار صُعوداً إِلى بعبدا، عاليه، بحمدون، صوفر، ضهر البيدر، المريجات، وكيف لم يبقَ من هذا الخط أَثر للخطّ الحديدي ولا إِشغال للمحطات على الطريق.
في هذه الحلقة الثالثة الأَخيرة أَعرض للمحطة الرئيسة الأَخيرة في ريَّاق، وما كان لها من دور كبير لا كمحطة عادية بل كمرأب كبير للتصليح وقطَع الغيار.
سعدنايل – زحلة
بعد شتورة، يعود الخط الحديدي إِلى الظهور عابراً بلداتٍ ومراكزَ تجاريةً وأَبنيةً حديثة وصولاً إِلى سعدنايل، وفيها تحوَّلت المحطة اليوم متحفاً في الهواء الطلق، وحديقةً تجثمُ في وسَطها قاطرة ومقطورة لمشاهدة الزوار والسيَّاح. ويُكمل الخط مع بعض الفسحات العريضة عن جانبيه بين شتورة وزحلة المدينتَين الكُبْرَيَيْن في سهل البقاع، وفيهما تم توسيع طرقات السيارات، ومحوُ الخط الحديدي كليّاً. وفي معلقة زحلة تحوَّلَت محطة القطار إِلى مستشفى حكومي، ولم يبق منها سوى مضخَّة الماء القديمة.
أَخيراً…. ريَّاق
بعد ذاك يتجه القطار شرقاً عابراً سهل البقاع إِلى مفترق مدينة ريَّاق، وفيها محطة كبرى كان فيها المسافرون يبدِّلون القطار لمواصلة رحلتهم إِلى دمشق، ولا يعود القطار إِليها في حاجة إِلى الخط المسنَّن في الوسط بين الخطين الحديديين لأَن المسافة إِلى دمشق (60 كلم) لا تعود صعبة أَو صاعدة.
سنة 1902 كان المسافرون في محطة ريَّاق يبدِّلون القطار إِلى آخَرَ يتَّجه شمالاً إِلى بعلبك وهياكلها التاريخية. بعد أَربع سنوات تَمَّ تمديدُ هذا الخط شمالاً إِلى المدن السورية، خصوصاً حمص وحلب، ومنهما إِلى اسطنبول التركية التي ينطلق منها “قطار الشرق السريع” إِلى مدن أُوروبا.
في تلك الحقبة، كان عمَّال سكك الحديد يتعلَّمون الفرنسية كي يخاطبوا المهندسين الفرنسيين. وبلغت حذاقة العمال اللبنانيين أَن كان بإِمكان أَحدهم أَن يبدأَ عاملاً بسيطاً منظِّف المقطورات، ويبلغ في أَقل من 8 سنوات أَن يقود القطار. ذلك أَن سكة الحديد كانت لهم مدرسةً جِديةً ومورد رزقهم الوفير.
ريَّاق المرأب والصيانة
لأَن ريَّاق كانت محطة ترانزيت، ازدهرت المدينة بشكل سريع، وتنامى فيها بعد سنوات قليلة سوق تجاري. وهي، إِلى كونها محطة كبرى رئيسة، كانت أَكبر مرأب في لبنان لتصليح القطارات، فنشأَ فيها مصنعٌ لصبّ قطع الغيار، ومكان واسع لتصليح الأَعطال وإِجراء صيانة القطارات قبل مواصلة طريقها إِلى دمشق أَو قبل عودتها إِلى بيروت نزولاً حتى المحطة الأُم في مار مخايل.
خلال الثورة العربية (مع القائد سلطان باشا الأَطرش سنة 1916)، تمكَّن الضابط البريطاني توماس إِدوارد لورنس (الملقَّب “لورنس العرب” 1888-1935) مع حلفائه العرب من تفجير قطارات عثمانية على خط الحجاز، فكانت محطة ريَّاق تمدُها بقطَع الغيار.
ريَّاق الـمَقرّ
إِبان الحرب العالمية الثانية استقبلَت ريَّاق قاعدتَين جوّيتَين أَلمانية وفرنسية في فترتَين مختلفتَين، فتحوَّل مرأبُها الكبير إِلى مركز لتصليح الأَسلحة والطائرات الحربية. وحين دخل الجيش السوري إِلى لبنان سنة 1976 استخدم باحاتها قاعدة عسكرية إِلى أَن انسحب من لبنان سنة 2005.
مع السنوات ضاعت الآليات والمعدَّات وقطع الغيار من ريَّاق، لكن فيها حاليّاً 22 قاطرة ومقطورة (14 سويسرية و8 أَلمانية) ترقى إِلى مطلع القرن العشرين، كان الفرنسيون استَولوا عليها في الحرب العالمية الأُولى، وصادروها إِلى لبنان خلال فترة انتدابهم (1920-1943)، وهي اليوم متحف كبير للزوار والسياح.
تلك القطارات السويسرية مصنَّعة خصيصاً للخطّ الصعب الصاعد بين بيروت ودمشق، كما صرَّح الياس معلوف (مؤَسس جمعية “تران تران” وهو أَمضى 15 سنة باحثاً في تاريخ السكة الحديدية في لبنان).
هل تكون العودة قريبة؟
بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) 2021، يعود البحث اليوم جديّاً في إِعادة ترميم خط السكك الحديدية، امتداداً لخدمات المرفأ، فينطلق منه القطار حاملاً بضاعة ثقيلة إِلى خط يتمدَّد إِلى سوريا فتركيا فأُوروبا، ومن أُخرى إِلى سوريا فالعراق فدول شبه الجزيرة العربية.
وفي رأْي الخبراء أَن مرفأَ بيروت، موصولاً بالخط الحديدي إِلى دمشق، أَجدى وأَهمُّ من مرفأ حيفا إِذا أَسرعت السلطات اللبنانية بترميم السكة الحديدية فتعود إِلى مرفأ بيروت حيويتُه التي جعلَت من بيروت لؤْلؤةَ الشرق منذ القرن التاسع عشر.