ازمة لبنانالاحدث

أبعد من الدَّين: موديز تعرض دراما الانهيار اللبناني| بقلم د. بيار الخوري

تقرير موديز الأخير عن لبنان لا يُقدّم مجرد تصنيف جامد عند درجة “C”، بل يفتح نافذة على واقع أعمق بكثير، البلد لم يعد يواجه أزمة مالية فقط، بل أزمة وجودية تمس كل جوانب حياته السياسية والاجتماعية والبيئية. خلف كل استنتاج يختبئ الكثير من الفوضى والتآكل والشلل، لدرجة أن المشهد لم يعد يدور حول مجرد خفض العجز أو إعادة هيكلة الدين، بل يدور حول الدولة نفسها.

كي نفهم مدى حراجة الوضع، نحتاج أولًا أن نتوقف عند مفهوم الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، أو ما يُعرف بـ ESG. هذه ليست مجرد عناوين، بل إطار تحليلي حقيقي تقيس من خلاله وكالات التصنيف، مثل موديز، قدرة الدول على إدارة مواردها، حماية بيئتها، رعاية مجتمعها، وضمان عمل مؤسساتها بكفاءة. عندما تنهار هذه الركائز، لا يعود الاقتصاد وحده في خطر، بل ينهار معه كل أساس يُفترض أنه يربط الناس بمواطنيتهم.

موديز تستخدم أداة تقنية اسمها مؤشر تأثير الائتمان (CIS)، وهو مقياس رقمي يوضح إلى أي مدى تُثقل عوامل ESG على التصنيف الائتماني. أن يحصل لبنان على أعلى درجة سلبية، CIS-5، يعني أن التصنيف المتدني ليس فقط بسبب الديون والأرقام، بل لأن البلاد واقعة تحت ضغط هائل من عوامل غير مالية: بيئة منهكة، مجتمع منقسم ومضطرب، ومؤسسات مشلولة.

عندما ندخل في تفاصيل التقرير، نكتشف بسرعة أن الأزمة اللبنانية تتجاوز لغة الارقام والنسب المئوية. نحن أمام دولة تعاني من فساد مزمن، شلل حكومي، غياب الشفافية، وانعدام ثقة تام بين الناس والسلطة. وهذا بحد ذاته يُقوّض أي محاولة إصلاحية، مهما كانت حسنة النية.

اجتماعيًا، بات لبنان مجتمعًا منهكًا: الفقر يبتلع الطبقة الوسطى، البطالة تدفع الشباب إلى الهجرة، والمظاهرات تملأ الساحات ثم تخبو بلا نتيجة. الأزمة هنا ليست فقط مالية، بل أزمة فقدان أمل. وكلما زادت هشاشة المجتمع، تراجعت قدرة الدولة على الصمود في وجه أي صدمة جديدة.

بيئيًا، لا تبدو الصورة أفضل. تغيّر المناخ، إدارة المياه، أزمة الطاقة، كلها ملفات يفتقر لبنان إلى القدرة المؤسسية لمواجهتها. غياب الخطط، وضعف البنية التحتية، وعدم جاهزية الطوارئ يجعل أي كارثة طبيعية محتملة ضربة قاصمة إضافية.

أما من الناحية المالية، فالحكومة شبه عاجزة: عجز بالموازنة، دين عام يلتهم الناتج المحلي الإجمالي، وانهيار القدرة على الوصول إلى الأسواق. ما تبقى من الدولة يكاد يكون مشلولًا، لا يستطيع لا الإنفاق على الإصلاحات ولا حماية الفئات الأضعف.

عندما تُبقي موديز تصنيف لبنان عند “C”، فهي تقول لنا شيئًا أعمق مما يبدو: إن لبنان وصل إلى حافة القاع، وإن أي أمل بالصعود لا يعتمد فقط على ضبط الأرقام أو توقيع اتفاقات دولية، بل على تغيير عميق في بنية الحوكمة، وإعادة بناء المؤسسات، واستعادة الثقة.

في النهاية، ما تكشفه معايير ESG ومؤشر CIS هو أن أزمة لبنان ليست أزمة مال، بل أزمة دولة ضائعة ربما تحتاج إلى فك وتركيب من الجذور.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى