أضعنا مُجددًا فرصةً حقيقيةً للتغييرِ والمُساءلةِ والمحاسبَة | العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
السِّياسةُ فنٌ وحِنكَةٌ ودهاء، يُتقِنُها المُخضرَمون الفُطناء، هي مُعترَكٌ مُتتالي الجَولات، ليسَ فيها من يُحسنُ الفَوزَ دائما في جَميعِ المُنازلات، لا يفوزُ بمَعاركِها إلا من يتقنُ فنونِ المُراوغَةِ والدَّهاء، لذا يُنصحُ الهُواةِ بتَجنُّبِ الولوجِ إلى مُعتَرَكِها ما لم يكونوا مُزودين بالحدِّ الأدنى من أساليبِ المُراوغةِ والرياء، ولأنها تطحنُ برحاها الصَّادقين وأصحابِ المبادئِ والأخلاق، وتفذفُ بهم مكسوري الخاطِرِ خارجَ ساحَةِ المُنازلات، أسيادُها مُحترفون يبيعون ويَشترون وفقَ الظُّروفِ والمُعطيات، بعيدا عن القيمِ الوطنيَّة ومَعايير الانتماءِ والولاء.
نحن كشعبٍ لسنا لها، ولسنا مهيَّئينَ لخوضِ غمارها، دعونا نعترِفُ أننا هُزِما، نحن حَقا هُزمنا، ولم يعُد من موجِبٍ لإعلان هَزيمَتُنا.
كان علينا أن نعلمَ أننا لسنا اهلا للنَّجاحِ لأننا مَهزومون من الأساس. في الواقع نحن لم نُهزَم اليوم ولا البارِحَةَ ولا منذُ عِدَّةِ سنوات. نحن كعَربٍ مهزومين منذ قُرون، وكلبنانين مَهزومين منذ عُقود، وكأفرادَ منذ الولادَةِ نحن مَحكومينَ بالهَزيمَة.
نحن مهزومين منذ أن ارتضينا قيامَ دولةِ ما عُرفَ بلبنان الكبيرِ على أساس طائفي ومَذهبي. نحن مهزومين منذ ان ارتضينا ولادة دولةَ لينان على أساسِ اتِّفاقٍ بين شَخصين (بشارة الخوري ورياض الصٌّلح) علما أن إخلاصهما للوطن أنقى من اخلاصِ جميع المسؤولين الحاليين الملوثِ بالفئويَّة.
نحن مهزومين منذ أن بايعنا كقبائل لمُستعمرٍ جديد للتَّخلُّصِ من مُحتلٍّ سابق، ومنذ أن بالغنا في وصفنا للمُستعمِرِ بالأم الحنون، بدلا من أن نتَّكِّلَ على أنفُسِنا في بناء وطننا، ومنذ أن غالينا في التَّركيزِ على القضايا العربيَّةِ إلى حدٍّ إهمالِ قضايانا الوطنيَّة. وها نحن نكررُ الكرَّة اليومَ بتغليبنا المسائل الاقليميَّة على الوطنيَّة. متناسين أننا تقاتلنا وتذابحنا ودمَّرنا بلدنا وطنا وكل منا يعتقد أنه على حق، بعضنا ظن أنه يُدافعُ عن القَضيّةِ الفلسطينيَّة، واستعانَ البعضُ الآخر بالعدو لدَفعِ جورِ الخصم “الشُّريك معه غي إدارةِ الوطن”، ونحن اليوم نعيد ونزيد ومن ماضينا لا نستفيد.
نحن مَهزومين لأننا فشِلنا في بناءِ دولةٍ مؤسَّساتيَّةٍ وَفقَ النًّصوصِ الدُّستوريَّة، ولأننا أدَرنا الدَّولةَ كما تُدارُ المَزارِعُ، وبدلا من إقامةٍ دولةٍ كونفدراليَّةٍ مركزيَّة سياسِيا لا مركَّزةٌ إداريَّا، أقمنا مزارعَ فِدراليَّة. نحن فَشِلنا في إدارَةِ نِظامِ الحُكمِ لأننا جوَّفنا نظامنا السيايي من مرتكزاته، فأبدلنا أسُسَ النِّظام البرلماني بأعرافٍ قبليَّةٍ عَشائريَّة، وأحلَلنا بدلا منها مفاهيمَ خُزعبلاتيَّةٍ ميثاقيَّةٍ حينا وتّوافُقيَّةٍِ حينا آخر، إلى أن خَلُصنا إلى شَراكَةٍ حَلبيَّةٍ هَمجيَّة.
نحن فَشِلنا، لأننا استَدَنا أكثرَ من قُدرَتَنا على الايفاء، إلى حدٍّ عَجزنا فيه عن إيفاءِ خدمَةِ المديونيَّة. والأنكى من كُل ذلك أن بعضَ المنظِّرينَ أوهمونا أن ديونُنا ستُمحى بتَسويَةٍ دوليَّةٍ للقضيَّةِ الفلسطينيِّة، إنما خِدمَةَ للعدو الاسرائيلي وصدَّقنا الخبريَّة.
نحن فشلنا لأننا صَرفنا ما استَدنا على الكماليَّاتِ وتناسينا الأساسيَّات، نعم لقد أهملنا القِطاعاتِ الانتاجِيَّة واستَعضنا عنها بقِطاعاتِ خَدماتيَّةِ رَيعيَّةٍ غير مُستقرَّة.
نحن كشغبٍ هُزمنا منذ ان سلمنا مصير البلد للاقطاعيين، وعندما اقتنعنا وأقنعنا انفُسَنا ان فينا من هم نبلاء وأشرافٌ، وانَّهُم من سُلالاتٍ نقيَّةٍ لا تنجُبُ إلا زُعماءَ ومَشايخَ وأفنديين ومَعصومينَ عن الخطيئة، وآخرين هم بحُكمِ الوراثةِ وضيعين من سُلالاتٍ أشبه بسُلالاتِ العبيد، لا ينجبونَ سِوى مُرابعينَ وحاشِيَةً وخدَّامين فُقراء مَساكين.
نحن هُزمنا عندما اقتَنعنا ان الزَّعيم هو النَّبيهُ الفَطنُ المُلهم الفقيهُ المُدرِك المُبدعُ، اما الباقون فقاصرون ومُقصِّرون بحق الزَّعيمِ مهما فعلوا وقدَّموا وضحوا. نحن هُزمنا عندما صدَّقنا ان ابن الزعيم يتعلَّم عنا ولِصالِحِنا، ويتكلَّم باسمنا وأن أباهُ مُتفرغٌ للدفاعِ عن مَصالِحنا وصونِ طَوائفنا ومذاهبنا. نحن هُزمنا عندما أذهلتنا العروشُ، فاعتقدنا ان مَكانةَ الأشخاصِ تقاسُ بفخامةِ القُصور، والسَيَّارتِ الفارِهَةِ، وأن الوَضاعةَ تكمن في لمنازلِ المُتواضِعَةِ مهما كانت دافئةً ومُحصَّنة، وأهملنا نظافةَ النُّفوسِ وصدق النوايا.
نحن هُزمنا عندما اعتدنا أن نُجدِّدَ البيعة للزَّعبمِ في كل المناسباتِ، ومن دون عناءِ التَّفكيرِ والتَّقييم، نحن هُزمنا عندما ارتضينا بفدراليَّةِ الطَّوائف، والتَّمايُزِ بين أتباعِ المذاهب، وعندما سكتنا عن إقرار قانون انتخاباتٍ يُفصَّلُ على قياساتِ مَصاطبِ زُعماءِ المناطق،نحن هُزمنا عندما سَكتنا على التَّعدِّياتِ التي طاولت الأملاك العامَّة، واختلاسِ المال العام، وإبرامِ الصَّفقاتِ المُعلَّبةِ، والتَّلزيماتِ المَشبوهةِ، وعندما سَلَّمنا أن الرَّشاوى والعطاءاتِ وتبادُلِ الخَدماتِ وإساءةِ استِغلالِ الصَّلاحيَّاتِ الوظيفيَّةِ …الخ أنها نت قبيلِ الأعرافِ واللَّياقاتِ الوَظيفيَّة الخَدماتِيَّة.
نحن هٌزمنا، بتكريسِ التَّوارثِ السِّياسي، وتقديس الزَّعيمِ، واعتبارِهِ مَعصوما منزه عن الخطايا، وفوقَ الشُّبُهات، وبمنأى عن المُساءلة.
نحن هٌزمنا مذ ارتضينا ان تُسلَّمَ مُقدِّراتُ البلد لميليشياتٍ دمَّرت وخرَّبت وهجَّرت وذبَّحَت على الهويَّة.
نحن كمواطنين هُزِمنا مُنذُ ان فهمنا الدين على أنه تزمُّتٌ وتَعنصُرٌ لطوائف ومَذاهِبَ، وتشدُّدٌ بالشَّكلياتِ على حِسابِ الجوهرِ، مُتناسينَ أن الخلقَ كلِّ الخلقِ هم عبادُ الله، وأن الأنبياءَ والرُّسلِ كُلِّ الرُّسلِ إنما بُعثوا لهَدي البشريَّةِ من الضَّلالِ وليُكملوا مكارِمَ الأخلاق، وكذلك هُزِمنا منذ أن تَخلينا عن دورنا في الحياة السِّياسِيَّةِ، وفرَّطنا في حُقوقِ المواطنيَّةِ، سواءَ السِّياسيَّةِ أو المدنيَّة، او اللصيقةِ بالشَّخصيَّة.
نحن مَعشَرَ الثوريينَ المُنتفضين الحِراكيين التَّغييريينَ، التَّجدًّديين، فشِلنا في القيامِ بثورةٍ وطنيَّةٍ نقيَّةٍ مُتماسِكَةٍ شريفةٍ فاعِلةٍ، وعليهِ خَسرنا ثقةَ المواطنينَ رغمَ مَقتِهِم للطَّبقةِ الحاكِمةِ ولكل أشكالِ التَّسلُّطِ والعُبوديَّة. ورغم ذلك سنخسرُ الانتخاباتَ النِّيابيَّةَ لتشرذُمنا بدافعِ الوصوليَّةِ والأنانيَّةِ المُفرِطة.
دَعونا نقر أن الخيارتِ القادِمَةِ ستكون خياراتهم، والقرارات قراراتُهم، والتَّوجُّهاتُ توجهاتُهم، بدءا بانتِخاب رئبس للجُمهورية، وتسميَةِ رؤساءِ الحُكومات، وتعيينِ الوزراء، ومن بعدِهِم القادَةُ والمدراءُ العامون والقُضاة الى آخر حاجِبٍ في الدَّولةِ، مع احترامنا للأشخاص وبمُعزل عن المراكزِ التي يشغلونها.
دعونا نُسلِمُ بهزيمتِنا لنُحِدَّ من خسائرنا، وندعُهم (أي للمُتحكمين بالسُّلطة) يستأثرون بجَميعِ المَقاعِدِ النِّيابيَّة، وليَتَحمِّلوا وِزرَ أعمالِهِم، ومواقِفِهم وأقوالهم وارتكاباتِهم الإجرامِيَّة. لن يطولَ الأمرُ طويلا، المَجاعةُ حالَّةٌ، الانفِجارُ الشَّعبيُّ آت لا مَحالَة.
دعوهُم يستأثرون بجميع مقاعد المجلس النيابي، وليسموا رئيسا للحُكومة ممن يُسايرَهم، وليختاروا الوزراء ممن يُدينون بالولاء لهم. ولكن رغم ذلك سيدفعون ثمن خياراتِهِم الخارِجيَّة، ومُماحكاتِهم ومناكفاتِهم الدَّاخليَّة، وفسادَهُم اللَّعين.
دعوهم ولو لمَرَّةٍ واحِدةٍ يتخبَّطونَ بالأزَماتِ التي تسببوا بها، ولا تمنحوهم بمُشاركتِكُم في الانتِخاباتِ ستارا من المشرعيَّة، وصك براءَةٍ عن كل سلوكيَّاتهم الاجراميَّة بحق الشَّعبِ والوطن.
وإن أصررتم على المُشاركةِ فستؤكدونَ أننا نحن فاشلون كشَعب وأفرادَ، وأننا سُلطويون، فئويون، فوضويون، شعبويون همجيون، غرائزيون، عاطفيون، غوغائيون، غير موضوعيين، ارتِجاليون، استِفراديون، أنانيون، نَعملُ بمنهجِيَّة رد الفعل، لا نُحسن الاستِعدادَ والتَّخطيطِ ولا التَّشارُكِيَّةَ في اتِّخاذ القَرار واختم بالقول: هنيئا لكم بفوزهم، لأنه بسبب كثرةِ المُرشحين الثوريين والمستقلين، وتعنت وإصرار مُعظمِهم على المُضي قُدُما بتراشيحِهم، فوَّتنا فرصَةً حقيقيَّة للتَّغيير والمساءلة والمحاسبة، وعملتم عن غير قصدٍ على تجديد البيعةَ لجلاديكم المُتربصين بكم، اولئك المُستغلين المُستعبدين الفاسدين الذين أفقروا وإذلوه، فيا عجبِي بكم يا دُعاة التَّغيير هل السِّياسةَ لا تزالُ تليقُ بكُم.