ازمة لبنانالاحدث

ألَم يَحِنْ الوقتُ لمُحاكَمَةِ الصَمت؟ | بقلم د. بيار الخوري

في زمَنٍ يَترنَّحُ فيه لبنان تحتَ وطأةِ الانهيار، تُحتَجَزُ أحلامُ المواطنين بين جدران المصارف، وتتبخّرُ مُدَّخراتُ العمر بين أنيابِ الفساد، فيما يقف القضاءُ عاجزًا عن مطاردة الجناة الحقيقيين. ثلاثون عامًا من النهبِ المُنَظَّم، ولم يُحاسَب سياسيٌّ واحد، ولم يُسجَن مصرفيٌّ إلّا تحت ضغط الفضائح (رياض سلامة)، لا تحت سيف القانون. وبينما تُختَزَلُ المحاسبة إلى مهزلةٍ إعلامية، يُواصِلُ الفاسدون تَسَيُّدَ المشهد، مُتَلذِّذين ببراءتهم المُزَيّفة، وكأنّ الدنيا تدور حولهم وفي فلكهم.

العجيبُ أنَّ القضاء ينشطُ فجأةً حين تُضيءُ مُنصِتًا “درج” و”ميغافون” زوايا الفساد المعتّمة، فيُسرِعُ إلى تبنّي تُهَمٍ غامضة، ويُحيلُ القضية إلى النيابة العامة. لا المقال هو التهمة، ولا التحقيق، بل تُهمة “تقويض الدولة” و”تدمير الثقة”، كستارٍ يُخفي خلفه خوف الطبقة السياسية والمالية من انكشاف عوراتها.

أما الحديث عن تمويل جورج سوروس، فحجّةٌ تُستَحضَرُ اليوم بعد سنواتٍ من دعمه لمنظمات المجتمع المدني. والسؤال الجوهري هنا: إذا كان سوروس هو شيطان هذه القصة، فمَن هو الشيطان الأكبر الذي دَمّرَ الاقتصاد اللبناني؟ مَن مَوَّلَ حيتان المصارف ومشاريع المحاصصة الفاسدة؟ مَن دَفَعَ ثمن صفقات السفن والوقود والاتصالات؟ ومَن رَسَمَ مُخطّط “بونزي” الذي ابتلعَ أموالَ اللبنانيين؟

الجوابُ مرٌّ كالعلقم: المواطنون هم مَن دفعوا الثمن، من مُدَّخراتهم وضرائبهم، فكانوا ضحايا ومجرمين في آنٍ واحد. لقد مَوَّلوا، بوعيٍ أو من دونه، جلّاديهم، وما زالوا يُدفَعون إلى هاوية التبعات بلا رحمة.

وفي خضمِّ هذه الفوضى، لا بُدَّ من التنبيه إلى خطرٍ أعظم: الأموال السياسية ليست حصانةً تُبرّرُ الفساد أو تُغمِضُ العيون عن اختلاسها. فكما يُطالَب الصحافيون بالشفافية، يجب أن تخضع جميع الجهات، بلا استثناء، للمُساءلة والتدقيق المالي. فالفاسدون لا يسرقون من خزائن الدولة فحسب، بل من أموالٍ مجهولةِ المصدر أيضًا. وأيُّ تمويلٍ مشبوه، بغضِّ النظر عن مصدره، هو خنجرٌ في خاصرةِ العدالة ومستقبل لبنان.

أما السخرية الكبرى، فهي أنَّ النظامَ القضائي، وبعد خمس سنوات من الصمت، يتحرّكُ فقط لمعاقبة مَن كشفَ الفساد، لا الفاسدين أنفسهم. إنها محكمة مقلوبة المعايير: يُعاقَبُ فيها الشهود قبل الجُناة، ويُحاكَم الصحافيون لأنهم تكلّموا حين فضّل الآخرون الصمت أو التواطؤ.

بعضُ القضاة يدافع عن امتيازاته بدل أن يُدافع عن الحق، في نظامٍ مُترهّلٍ يبرهن، يومًا بعد يوم، أنه أداةٌ للصمت… لا للعدالة.

إذا كانت الكلمة تُحاكَم، فربما حان الوقت لأن يُحاكَم الصمتُ أيضًا.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى