ازمة لبنانالاحدث

أيُّها اللبنانيون، لم يَعُد لدَيكُم ما تَخسَرونه سوى … رَجُلَين | بقلم د. بيار الخوري

في ظلِّ الواقعِ اللبناني الراهن، يقفُ اللبنانيون أمامَ لحظةٍ تاريخية لا تقلُّ أهمّيةً عن أيِّ مُنعَطَفٍ كبيرٍ شهدته البلاد في العقود الماضية. مع انتخابِ العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية وتكليف القاضي نوّاف سلام تشكيل حكومة العهد الأولى، والإثنان من خارج النادي السياسي التقليدي، يَظهَرُ بصيصُ أملٍ جديد لإعادةِ صياغةِ النموذجِ السياسي والاقتصادي الذي انهارَ بشكلٍ مُدَوٍّ وأوصلَ لبنان إلى القاع. لكن هذا التوجُّه يُواجهُ تحدّياتٍ كبرى، أبرزها شبكة المصالح الطائفية والمالية المُتجذِّرة، والتي بُنِيَت على مدى عقود من الفسادِ والمُحاصصة بعد الحرب الأهلية، ثم تعزّزت خلال مرحلة ما بعد الوصاية السورية.

التجربةُ اللبنانية مع الطبقةِ الحاكمة أظهرت فشلًا ذريعًا في تقديمِ أيِّ حلولٍ مُستدامة لأزماتِ البلد المُتراكمة. لقد اختبرَ اللبنانيون كلَّ شيءٍ تقريبًا مع هذه الطبقة، من وعودِ الإصلاح إلى سياساتِ الترقيعِ التي أغرقت البلاد أكثر فأكثر. واليوم، باتَ واضحًا أنَّ النظامَ القديم لم يَعُد قابلًا للحياة، وأنَّ الاستمرارَ على هذا المسار سيؤدّي إلى مزيدٍ من الانهيار.

في هذا الإطار، لا بُدَّ من التوقُّفِ عندَ دورِ أبناء الطوائف المختلفة في مواجهة هذا التحدّي المصيري. لقد أثبتَ التاريخُ الحديث أنَّ الانسياقَ الأعمى وراء زعماء الطوائف، الذين استغلّوا الانتماءَ الديني لتحقيق مكاسبهم الشخصية، لم يُؤدِّ إلّا إلى مزيدٍ من التهميش والفقر والدمار لأبناءِ تلك الطوائف نفسها. مصلحةُ أبناءِ الطوائف اليوم تَكمُنُ في حمايةِ هذه الفرصة الجديدة، المُتمثّلة بقيادةٍ وطنيةٍ بعيدةٍ من الانقسامات الطائفية، لأنَّ نجاحَ هذين القائدين الجديدين يعني في جوهره مصلحةٌ وطنيةٌ جامعة تتجاوز الحسابات الضِّيقة. فاستمرارُ الانقياد وراءَ الزعامات الطائفية التقليدية يعني بقاء الطوائف نفسها رهينة للفساد، الفقر، وانعدام الأفق. أمّا الالتفافُ حول مشروعٍ تغييري جامع، فيتيحُ لكلِّ اللبنانيين، بمختلف انتماءاتهم، فرصةً حقيقية لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية اللتين طالما افتقدوهما.

تكليفُ رئيس حكومة من خارجِ منظومة الفساد والمحسوبية المتوارثة ليس مجرّد خطوةٍ رمزية، بل فرصة فعلية لإعادة رسم مستقبل لبنان. هذان القائدان الجديدان، اللذان يُمثّلان فرصةً للتغيير، يحتاجان إلى دعمٍ شعبي واسع وحقيقي. ذلك أنَّ الصراع معهما ليس صراعًا شخصيًا، بل هو مواجهة مع مصالح متشابكة تحميها الطبقة الحاكمة، مصالح تعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه خدمةً لامتيازاتها.

إنَّ المسؤولية الآن تقع على عاتقِ اللبنانيين للدفاع عن هذا التغيير، ليس فقط من أجلِ هذَين الرجلين، بل من أجل أنفسهم وأجيالهم المقبلة. اليوم، يُدركُ أبناء الطوائف أنهم أول المُتضرّرين من منظومة المحاصصة التي تقاسمت موارد الدولة على حسابهم، وعليهم أن يتحمّلوا مسؤوليتهم في كسر هذه الحلقة المُفرغة. إذا ضاعت هذه الفرصة، فإنهم سيبقون حبيسي واقعٍ يزدادُ بؤسًا، حيث لا مكانَ فيه لأحلامهم أو لمستقبل أبنائهم.

المعركة ليست سهلة، لكنها فرصةٌ نادرة لإعادة بناء لبنان على أُسُسٍ جديدة تُعيدُ له مكانته وتضعه على طريقِ النهوض الاقتصادي والاجتماعي. الدفاعُ عن هذين القائدين الجديدين هو دفاعٌ عن فرصةٍ أخيرة للنجاة. إنَّ الفشلَ في حمايةِ هذه الفرصة يعني العودة إلى نموذجٍ ثَبُتَ أنه ميتٌ سريريًا، ولا يُمكنُ إنعاشه بعد الآن. اللبنانيون، الذين لم يعد لديهم ما يخسرونه، يواجهون خيارًا مصيريًا: إما تحمُّل المسؤولية والمشاركة في بناء مستقبلهم، أو القبول بالانهيار الكامل، بكل ما يحمله من مخاطر.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى