ازمة لبنانالاحدث

… أَمَّا السياسيون فمعظَمُهُم إِلى النسيان | بقلم هنري زغيب

واحد من بيت “بو سياسة” انزعج خاطرُه من مقالي السابق في “النهار”: “مجد لبنان بمبدعيه لا بسياسييه” (الجمعة 18 نيسان). وأَرسل مع صديق مشترَك يُبْلغُني أَنني “مقهور من الأَضواء التي، إِعلاميًّا وشعبيًّا، تتركَّز دومًا على السياسيين، فيما المثقَّفون يَبقُون في الظلّ، ويَظَلُّون ثانويين أَمام شهرة السياسيين وتنقُّلهم ونشاطهم وأَهميتهم”.
لم أَشأْ أَن أُجيب هذا الـ”واحد” بواسطة الصديق المشترك، بل أُوجِّه إِليه كلامي بالمباشِر.
يا هذا: إِذا وقف أَحدُهم عند الشاطئ ونظَر إِلى البعيد، يرى صفحة البحر مزدهرةً بالفقاقيع الهوائية متبهرجةً، زائغةً بالأَلوان تتماوج عليها أَشعةُ الشمس، فَتَتَمَهْرَج بحضور ساطع، وتعلو مع الموجة، تعلو حتى تسيطر على المشهد وتُمكن رؤْيتُها من أَقصى البعيد. ولكنْ…
بعد وقت محدَّد، شو بيصير؟؟؟ مع اقتراب الموج من الشاطئ، تنخفضُ الموجة العالية بكلِّ ما عليها من بهرجة ملوَّنة بفقاقيع الزبد، وتأْتي لتتكسَّر تحت قدَمَي الواقف على الرمل، ويغُور الزبد كلُّه بين الرمل والحصى.
خذ شَفَّةً من فنجان قهوتكَ، ومجَّةً من سيكارتكَ، واتبعني.
إِذًا: جميعُ بهرجات الأَلوان المسيطرة على المشهد تنهار مع الموجة وحضورها الساطع. وهكذا السياسيون: حضورُهم ساطع حين هُم في السُلطة: أَضواء إِعلامية، مرافقون، أَزلام، تَصَدُّر الصف الأَول في حفلات ومناسبات (أَحيانًا “برعايتهم”).. لكنّ هذا “المجد” كلَّه يبقى رُكُوبًا عاليًا متشاوفًا على ظهْر الموجة، حتى إِذا خرجوا من السُلطة هبطَت بهم موجتُهم إِلى حصى الغياب ورمال النسيان، وانطفأَت عنهم الأَضواء، وما عاد يُحسَب لهم حسابٌ في الصف الأَول، ويصبحُ واحدهم “حضرة السياسي السابق”.
خذ شَفَّةً أُخرى واتبَعني: الملايينُ يسمعون حتى اليوم “إِيام فخر الدين” و”جبال الصوان” وأَيَّ رائعة أُخرى من عالَم الأَخوين رحباني مع المفرَدَة فيروز، وليس مَن يذكُر أَو يتذكَّر السياسيين الْكانوا متصدِّرين الحضور في تلك الأُمسيات البعلبكية.
بعد؟ طيِّب. خُذْ هذه: عبدالحليم كركلَّا يُنتج روائع فنية منذ 53 سنة. جميعُ مَن حضَرُوها يذكرونها في أَعلى صفحات ذاكرتهم، ولا واحد منهم يذكُر مَن كان السياسيون الذين تصدَّروا المقاعد عند عرضها. معظم أُولئك السياسيين يحمل اليوم لقب “السابق”، إِنما عبد الحليم كركلَّا لن يصبح أَبدًا “الفنان السابق”، وكُبْرَيات صحف العالم ما زالت تشْهد لعمله. فالعمل الإِبداعي يبقى، حتى بعد غياب أَصحابه، لأَنه عقْدُ لؤْلؤ ثابتٌ في العمق، لا يتأَثر بموجةٍ متحركة تعلو فوق على سطح البحر، ولا بأُخرى تهبط وتتكسَّر عند الشاطئ تحت الأَقدام. أَمَّا حضور “بيت بو سياسة” فلا أَكثر من موجٍ بـفقاقيع زبدٍ، زائلٍ بكل ما فيه من أَضواء مُوَقَّتة في حينها، وسطوع آنيٍّ زائف، وبهرجةٍ شعبيةٍ زائلةٍ برغم عجقتها، تمامًا كحبوب البوشار: تبدأُ بالفقاقيع وتنتهي زائلةً بدون فقاقيعها. ليش؟ لأَن مجدَ لبنان هو بمبدعيه لا بسياسييه، ولأَن المبدعين خالدُون على الزمان، ومعظم السياسيين إِلى عتمة النسيان، وقليلُهم جديرٌ بأَن يبقى في ذاكرة الوطن.
يا هذا: تعيِّرني أَني “مقهور من الأَضواء تتركَّز على السياسيين، فيما المثقَّفون يبقُون في الظل، ويظلُّون ثانويين أَمام أَهمية السياسيين”؟ عال… خُذ هذه إِذًا: الملايين اليوم يعرفون أَعمال موزار، ولا أَحد يعرف مَن كان سياسيًّا أَيامَ موزار… والملايين اليوم يعرفون روائع فيكتور هوغو، ولا أَحد يَذكُر أَركان الحكم أَيام هوغو أَو حتى يبالي بهم، لأَنَّ التركيز هو على نَصّ هوغو الخالد.
“الخالد”… أَكتب هذه الكلمة، وأَتَخَيَّلُك بعد خروجكَ من حلَبة السياسة، فأَراكَ ثانويًّا مُهَمَّشًا منسيًّا، وأَنظُر إِلى الطاولة أَمامكَ، فأَجد قهوتكَ باردة وسيكارتكَ مطفأَة… أَشْعِلْها إِذا شئْت.. قَـدَّاحتُكَ المذهَّبة إِلى يمينك.
نشر المقال في”النهار أولاً.

هنري زغيب، كاتب وشاعر لبناني

شاعر وكاتب لبنانـيّ، له عدد كبير من المؤَلفات شِعرًا ونثرًا وسِيَرًا أَدبية وثقافية، وعدد آخر من المترجَـمات عن الفرنسية والإِنكليزية، وناشط ضالع في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية منذ 1972. مؤَسس "مركز التراث اللبناني" لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية، ورئيس تحرير مـجلة "مرايا التراث" الصادرة فيها. درّس في عدة جامعات في الولايات المتحدة منها جامعة جورج واشنطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى