أَيُها الرئيس الجديد | بقلم هـنـري زغـيـب
أَكتُب إِليه، ولا أَحدٌ يعرفُ بعدُ من سيكون. لكنَّ رسالتي إِليه ساطعةٌ أَيًّا يكُن.
أَيها الرئيس الجديد: أَخلعُ عني، في مخاطبتك، لقَب الفخامة، ففخامتكَ تكون في شخصيتكَ الحازمة لا في لقبكَ المتناسل من العَثْمَنَة أَيام كانت “فخامَتلو” و”دولَتْلو” و”سعادَتْلو” وسواها أَلقابًا فضفاضةً تُشْرى للجاه ولا قيمة فعليّةً لها.
فيا أَيها الرئيس الجديد: في الدستور أَنْ بعد انتخابكَ ستشكِّل حكومةً تُجري لها استشاراتٍ مُلزمةً تقرِّر لكَ رئيسَها. وأَيًّا يكُن رئيس الحكومة، فَلْيُركِّز وَلْتُركِّزْ معه على وزارة ما زالت حتى اليوم يتيمةً مشرَّدةً تُوسَمُ ثانوية وغير رئيسة ولا أَساسية، تُعتَبَر تسكيرةَ كوتا طائفية أَو مذهبية أَو سياسية أَو محاصصاتية تعطى لِـمن يبكِّل الجاكيت صاغرًا خانعًا أَمام زعيمه الذي جاء به إِليها.
إِنها وزارة الثقافة أَيها الرئيسُ الجديد. وهي حتى اليوم، عدا استثناءاتٍ قليلة جدًّا، أُعطِيَتْ حقيبَتُها مَن يجيئُها أُمِّيَّ ثقافةٍ، حين نعتبر أَن الأُمِّيّ ليس مَن يجهل القراءة والكتابة.
وهي وزارة رئيسة سيادية أَساسية أَيها الرئيسُ الجديد، تعتزُّ بها أَنت، ويعتزُّ بها عهدُكَ فَيَخْلُدُ في التاريخ.
كيف تعتز بها أَنتَ؟ خُذْ هذه القصة. ذات يوم سئِل شارل ديغول وكان رئيس فرنسا: “لماذا في اجتماع مجلس الوزراء، وأَنتَ على رأْس الطاولة، تُجْلسُ عن يمينِكَ لا رئيسَ الحكومة بل وزيرَ الثقافة أَندريه مالرو”؟ فأَجاب ديغول بأُبَّهتِه: “مش صحيح أَنني أُجلِس مالرو عن يميني. إِني أَنا مَن يَجلس عن يساره”. هكذا كان ديغول يعرف معنى أَنْ يكون وزير الثقالة عَلَمًا ثقافيًّا مبدعًا قبل تولِّيه حقيبةَ الثقافة.
هذا عن اعتزازكَ أَنتَ بوزارة الثقافة. أَما كيف يعتزُّ عهدكَ بإِنجازات الثقافة فيه، فخُذْ هذه القصة الثانية:
سنة 1869، لدى إِنجاز العمل الجبار في شق قناة السويس، فكَّر حاكم مصر يومها الخديوي إِسماعيل بحدَث ثقافيّ من مستوى هذا الإِنجاز، رافضًا آراء مستشاريه باستدعاء شعراء يمدحونه ومغنِّين وراقصين يطبِّلون له، فكَلَّف المؤَلِّف الموسيقي الإِيطالي جيوزيبي فيردي وضعَ عمل يخلِّد هذه المناسبة. وهكذا كان: وضَع فيردي أُوبرا “عايدة”. واليوم، لا تُذكَر أوبرا عايدة، أَينما يتم عرضُها بأَيِّ لغة في العالم، إِلَّا ويُذكَر أَن الفضل فيها يعود إِلى الحاكم إِسماعيل باشا الذي باتت علامةَ نورٍ خالدةً في عهده.
تريد بعد أَنوارًا لعهدكَ أَيها الرئيس الجديد؟ خُذْ هذه القصة بَعد: نادرون جدًّا مَن يعرفون كم شارعًا شقَّ الملك الشمس لويس الرابع عشر في باريس، ولا كم مرسومًا مَلَكيًّا أَصدر. لكنَّ الملايين في العالم يعرفون أَن لويس الرابع عشر فتَح قصر فرساي للموسيقيين والمسرحيين والفنانين فقدموا أَعمالًا لهم خالدة ما زالت تَذكُر حتى اليوم فضلَه على ولادتها.
وهكذا أَنت أَيها الرئيسُ الجديد: لن يَذْكُر التاريخ غدًا كم حكومةً شكَّلْتَ ولا كم نائبًا أَو وزيرًا كان على عهدكَ، ولا غرقَكَ في عنعنات السياسيين وتجاذباتهم ومواقفهم وأَحزابهم وتكتلاتهم وَوُحُولِهِم الزائلة مثلهم ومعهم ككل ما يقوم به “بيت بو سياسة” في كل عهد.
لكنَّ التاريخ، أَيها الرئيس الجديد، سيَذكُر لكَ آثارًا إِبداعيةً صدرَت على عهدكَ وتبقى إِلى كل عهدٍ بعدكَ علامةَ نورٍ لكَ بأَنك جعلتَ من وزارة الثقافة منتجةً فاعلةً مثْمرةً لخزينة الدولة حين يتولَّاها في عهدكَ وعهد رئيس حكومتكَ مَن يكون من أَهل الثقافة والإِبداع، فلا يكون وزيرَ عمل بل وزيرَ فعل: وزيرُ العمل الثقافي ينفِّذ ما يُحَضَّر من أَعمال في الوزارة، أَما وزيرُ الفعل الثقافي فيَخلُق هو الأَفكارَ الخلَّاقة والأَعمالَ المبدعة والنشاطَ الثقافي الذي يجعل من وزارة الثقافة ورشةَ عملٍ يوميةً تُعيد إِلى لبنان حضورَه الثقافيَّ في الشرق والعالم، ويكون لكَ أَنتَ الفضل في تحقيق أَفعال ثقافية تُخلِّد إِنجازاتُها عهدكَ، فتَخْلُدُ أَنتَ بأَعمال لا يذكرها التاريخ إِلَّا منتسبةً إِلى عهدكَ.
أَما إِذا اكتفيتَ بالشأْن السياسي فقط، فسَوف تكون رقمًا إِضافيًّا في قائمة الرؤَساء، ولن يبقى من عهدكَ سوى… صورة على حيط.
ينشر المقال بالتزامن مع النهار