إتفاق الإطار لتَرسيم الحدود بين المَصلحة والحقِّ بقلم البروفسور بيار الخوري
إلى أين سيأخذنا إتفاق الإطار حول ترسيم الحدود؟
منذ خمسة عشر شهراً (تموز/يوليو 2019) كَتَبتُ في “أسواق العرب “: “بشكلٍ مُفاجئ حطّ الموفد الأميركي ديفيد ساترفيلد في بيروت حاملاً معه مُبادرةً لحلّ النزاع بين لبنان وإسرائيل على المُربّعات النفطية الجنوبية في مُقابل ترسيمٍ كاملٍ للحدود. لسان حال ساترفيلد وكأنه كان يقول أنتم في قعر الأزمة الإقتصادية، تُريدون مال النفط والغاز ولا مَخرَجَ لكم غيره. حسناً هاتوا الترسيم وخذوا الإستخراج. ربما أراد ساترفيلد الإشارة أيضاً إلى ما حصل في اليابسة الشقيقة بعد اكتشاف النفط والغاز في بحرها”. (أسواق العرب – كيف سينجو لبنان في لحظة فقدان المناعة).
بالتاكيد آنذاك كانت قلّة من اللبنانيين وصَلَت الى مرحلة “وعي الوبال” الذي ستجره علينا الأزمة الإقتصادية المُتفاقمة. على العكس من ذلك، كنا لا نزال نعيش حفلات الهرج والمرج حول الموازنة والخلافات على تخفيض الإنفاق هنا وتأجيله هناك، لتخفيض العجز في الموازنة نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي، والذي لم نَجنِ منه سوى تلاعبٍ بالأرقام في محاولةٍ للتذاكي على المجتمع الدولي وعلى المؤسسات الدولية وعلى مُنظّمي مؤتمر “سيدر”، وكأنهم أغبياء غير واعين، ولا مصدر لمعلوماتهم سوى ما كانت الطبقة السياسية تخدع به نفسها واللبنانيين على مدى عقود طويلة.
كان “القاتل الإقتصادي” يضحك في سرِّه كُلَّما جاءته أرقامٌ من بيروت عن الإتفاق على موازنةٍ يبلغ العجز، المُؤسَّس على الأوهام والمُخادعة، فيها سبعة او ثمانية في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. يضحك، طبعاً، لا فرحاً بإنجاز هؤلاء المسؤولين اللبنانيين، بل لكونهم قد اختاروا عن وعيٍ، أو بدونه، تعميق أزماتهم الإقتصادية، والوصول الى قعرِ جديد أعمق من القعر الذي سبقه.
حسناً، الواقع أن ذلك لم يَضر الأميركي يوماً، علماً أنه ربما يكون قد تسبّب بضررٍ للأوروبي الخائف على ذلك البلد الفرنكوفوني، والذي جنّ جنون مفوضه لشؤون “مؤتمر سيدر”، الوزير بيار ذوكان وبعده وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، حين لم يُصدِّق كيف يتصرّف هؤلاء، وكيف لا يَعون حجم الهاوية التي ينزلقون بإرادتهم الكاملة أو بقوة تناقضاتهم نحوها.
أيضاً، لم يكن في ذلك يوماً ضير ل”اسرائيل” التي كان يتملّكها الحبور ويغمرها الفرح كلما غرق لبنان أكثر.
وبغض النظر عما تحمله اللحظة، التي أعلن فيها رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، عن التوصّل الى اتفاقِ إطارٍ حول ترسيم الحدود البرية والبحرية، من معانٍ حاول أن يُصبِغَ عليها الرجل (وهو من أعقل السياسيين اللبنانيين) نكهةَ الإنتصار، فإنه كان يُدرك تماماً أنه لا يُمكن لبلدٍ وصلَ إلى هذا الدرك من الإنهيارِ الإقتصادي وانعدامِ الأفق أن يخرجَ مُنتصراً في تلك المفاوضات الطويلة والشاقة مع الذئاب الكاسرة. بل إنه لم يكن مسموحاً لهذا الرجل – الذي بنى تاريخه على الدمج والمصالحة بين مثلث المجتمع الدولي، نظام الطوائف ونظام مقاومة إسرائيل، حتى ان يستخدم تعبير “العدو الصهيوني”.
أردفتُ في المقالة ذاتها قائلاً: “بين الأمن الوطني والإقتصاد تناقضٌ صارخٌ في لحظةٍ جوهرية من إعادة تشكيل الشرق الاوسط”. وتذكرتُ ذلك، يوم استمعتُ الي المؤتمر الصحافي لوزير الخارجيه الأسبق، المهندس جبران باسيل، (منذ ثلاثة أسابيع) وهو يُدخِلُ مُصطَلَحاً جديداً، لم نتعوّد عليه كثيراً في لبنان، وهو تعبير التمييز بين الحقّ والمَصلحة.
هذا التمييز بالضبط هو ما سيقود المَرحلة اللبنانية المُقبلة بغض النظر عمَّن سيقوم به، جبران أو غيره. كلّ ما سنراه من الآن فصاعداً سيُعبّر عن النزوع الى الخضوع لمَنطق المصلحة على حساب مَنطق الحقّ، أكان هذا الحقُّ حقيقياً أو مُفتَرَضاً.
رابط المقال اضغط هنا