إنه اتفاق الضرورة حيث الضرورات تبيحُ المَحظورات | بقلم العميد د. عادل مشموشي
غريب أمرُ اللبنانيين في مقاربتهم للأمور، فهم دائماً إما صانعوا انتِصاراتٍ وهميَّةٍ “أبطالٌ مُظَفَّرون مَعصومون” وإما منتَقِدونَ حاقِدون إلى حدِّ التَّخوين والتَّجريمِ ونُكرانِ الجَميلِ ولو على حِسابِ الحقائق، هكذا يتعاطى اللبنانيون مع كُل المَسائلِ المَطروحةِ والمُستجداتِ ومع قضاياهم الوطنيَّة، للأسف يَفتقرُ الكثيرُ منا إلى روحيَّةِ النَّقدِ البناء، ولا يُجيدون سِوى توجيه الانتقاداتِ الحادَّةِ والعباراتِ اللاذعة، بعيداً عن الموضوعيَّة والتَّجرُّد، والأخطرُ من الإدلاءُ بمواقِفَ غيرِ مبنيَّةٍ على معطياتٍ صحيحة، وربما يعمدُ البعضُ إلى إطلاقِ التُّهمِ جِزافاً وفبركةُ وقائعَ غير موجودة، بغرضِ النَّيلِ ممن يكنون لهم الكراهِيَة؛ هذا ما نشهده اليومَ في المواقِفِ الرافضةِ لاتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي تم الاتفاق عليه برعايةٍ أميركية.
ذهب الكثيرون في انتقادهم لاتِّفاقِ التَّرسيمِ بعيداً إلى حدِّ التَّخوينِ، ورفعَ البعضُ سقوفَ النَّقدِ إلى حدِّ المُلاحَقَةِ بجرمِ الخيانةِ العُظمى؛ ومروحةُ توزيعِ التُّهَمِ كانت واسِعة، إذ لم تقتصر على رئيس الجُمهوريَّة المُشرفِ الأعلى على عمليَّةِ التَّفاوضِ مع الكيان الإسرائيلي، بحيث اتَّهموه أنه سعى إلى تحقيق مكاسبَ شخصيَّة تتمثلُ في تحقيقِ أيِّ انجازٍ صوري مزعوم ينهي به عهده ويتلطى خلفه، ولرفعِ العقوباتِ الأميركيَّةِ عن صهره، كما طاولت رئاستي مجلسِ النُّوابِ والحُكومةِ كمساهمين أساسيين في هذا الاتِّفاقِ إرضاءً لراعي المفاوضاتِ لتوقي العُقوباتِ التي تُهَدِّدُ الولاياتُ المُتَّحِدةُ بإنزالها بهم كما طاولَ التخمين رؤساء حكومات سابقين ومنهم الرئيس فؤاد السنيورة. ولم تسلم المقاومةُ ومُ{شِدها “السيد حسن نصر الله بحيثُ اتُّهِمَ بأنه يسعى لتَحقيقِ مآربَ إيرانيَّة تقتضي التَّساهلَ لبنانيَّاً لتيسيرِ عَمليَّةِ التَّفاوضِ النَّووي الدائرةِ بين أميركا وإيرانوالمُتعثِّرةِ لغايةِ الآن.
معظمُ الانتقاداتِ السَّابقةِ ظالِمةٌ، وبنيت على مُعطياتٍ غيرِ صَحيحَةٍ تارَةً، وعلى مغالاةٍ تارةً أخرى، وربما على سوء نوايا، لست بواردِ التَّوسُّعِ بها؛ وفي المُقابلِ ثمَّةَ من يُحاولُ التَّعظيمَ من شأنِ هذا الاتِّفاقِ وتصويرُهُ على شكلِ انتِصارٍ مظَّفرٍ، حقَّقَ فيه لبنان سلميَّاً ما لا يستطيعُ تحقيقُهُ بالسِّلاح، وأغربُ ما في الأمرِ أن بعضهم حاولَ تصويرَ نفسهُ وكأنه كان مُكتَشِفاً للغازِ في لبنان، أو أنه ورثه من أبيهِ وهو يقدِّمهُ هبةً للبنانيين، متغافلاً أن الغازَ ثروةٌ وطنيَّةٌ ربَّانيَّةٌ ومنذ الأزل وقد تأخروا كثيراً في بدءِ استِخراجها واستثمارها.
إنه اتَّفاقُ ما كان بالإمكان أكثر مما كان، أقولُ ذلك بكلِّ تجرُّدٍ وموضوعيَّةٍ، وهذا ما ينبغي أن يكونَ سقفُ انتقادِ هذا الاتِّفاق سلباً أم إيجابا، فيما لو أردنا أن نكون موضوعيين في نقدِنا له، لأن تقييمَ الاتِّفاق ينبغي أن يكونَ وفقَ الظُّروفِ والمُعطياتِ التي أملته والمُتوفِّرةُ عند إقراره.
لقد فاتَ المنتقدين تحليلُ ودراسةُ البيئتين الدَّاخليَّةِ والخارجيَّةِ التي من الطبيعي أن تبنى الخياراتُ وتُتَّخذُ القراراتُ على أساسها، وهنا نسألُ ما هي الخياراتُ المُتاحةُ أمام لبنان ليكون قرارهُ أفضلٌ مما هو عليه الآن؟ ولنبدأ بواقِعنا الدَّاخلي اللبناني، هل نبني على وِحدتنا الدَّاخليَّة وتماسُكِ مؤسَّساتنا الدستوريَّة، ووحدةِ الشَّعب اللبناني تجاه المسائل المصيريَّةِ والهامَّة؟ أم جيوشنا الجرَّارةُ وأساطيلنا البحريَّةِ والجويَّةِ القادرةُ على سحقِ جيشِ الكيانِ الإسرائيلي بساعات؟ أم على اقتصادنا المتين والمتعافي وأسواقتنا الناهضة؟ أم على مخزوننا الإحتياطيَّةِ الاستراتيجيَّةِ من الأسلِحةِ والموادِّ الأوليَّةِ والمحروقات والأدوية؟ أم على مُتشفياتِنا الخاليةِ من التَّجهيزاتِ الطُّبيَّة الضَّروريَّة؟ كُلُّ ما لدى لبنانَ مقاومةُ متواضِعةُ الإمكانيَّاتِ مقارنةً ما لدى العدوِّ الإسرائيلي، مهما عظَّمنا من شأنها، وجل ما تستطيعهُ مناوءةُ العدوِّ وعدم تركِه يرتاح إن قرَّرَ استخراجَ الغازِ من حقلِ كاريش.
والأهم من ذلك أن المنتقدين قد نسوا أيضاً أننا معزولون دوليَّاً، وغير مُرضى عنَّا عَرَبِيَّا، وأن الحربَ في أوكرانيا تفرضُ ثقلها على العالمِ أجمع، وروسيا غارقةٌ في المُستنقعِ الأوكراني وملهيَّةُ بجيشها المُتقهقر، وأوروبا تخشى البردَ القارسَ الذي أضحى على الأبواب وأنها بحاجةٍ ماسَّةِ إلى الطَّاقة، وبالتحديد للغازِ المتوسطي كبديل عن الغاز الروسي المحظورِ عليها أميركيَّا بغرضِ تركيعِ روسيا.
وغاب عن المنتقدين أن المُجتمع الغربي يُشجِّعُ إسرائيلَ على الإسراعِ في عمليَّةِ استِخراجِ الغازِ وضَخَّه إلى أوروبا، وأنه سيقفُ خلفها في حال حاولَ لبنان إعاقةَ ضَخِّ هذا الغاز، باعتبارهِ مصلحةً أسرائيليَّةً ـ غربيَّةً مُشتركة. وغاب عنهم أيضاً أن لبنان أقرَّ ضِمنا بتبنيه خط 23 كحد فاصل بين المياهِ الإقليميَّةِ اللبنانيَّةِ والمياهِ الإقليميَّةِ الفلسطينيَّةِ أن حقلَ كاريش خارجَ المياه الإقليميَّة اللبنانيَّة، وعليه، إن أيةَ صواريخَ أو أعمال عسكريَّة قد تطال التَّجهيزات المُستعملةِ في استخراجِ الغازِ من هذا الحقلِ ستكونُ بنظرِ الغربِ قبل إسرائيل بمثابةِ اعتداء وتحرُّش عسكري غير مبرر، وعندها سيكون الغرب كُلُّهُ متعاطفاً معها، وسيكونُ لبنان منكشفاً سياسيَّاً وعسكرياً أمام العدو، خاصَّةً بعد استنزافِ قدراتِ جيشنا تسليحاً ولوجستيَّاً وإلهائهِ بنزعاتِ الأزقَّةِ والأحياء بدلاً من تفرُّغِه للإستعدادِ لمواجهةِ العدو.
ومن السَّذاجةِ القولُ أن لبنان ليس لديه ما يَخسَرَهُ فيما لو نشبت الحربُ بينه وبين إسرائيل، وأن إسرائيلَ لا تحتملُ التَّبعاتِ الاقتصاديَّةِ للحربِ إن نشبت، إن لبنان واللبنانين ليس بمقدورهِم تحمُّلَ تدميرَ المزيدِ من بناه التَّحتيَّةِ والاقتِصاديَّة، ويُستفادُ من حروبنا السَّابقةُ مع إسرائيل أنه قلَّما ما لَحِقتِ بها خسائرَ ماديَّةٍ أو اقتصاديَّةٍ تذكر. فكيفَ الحالُ إن نشبت هذه الحربُ في ظروفِ غير مؤاتيةٍ للبنان على كافَّةِ المُستويات الدوليَّة والإقليميَّةِ والمحليَّة.
البعضُ يُغالي في تقديرهِ لقُدراتِ المُقاومة، ربَّما عن حُسن نيَّة، وربما عن جهل، ولكن لهذه المغالاةُ مخاطِرُها، هل من مصلَحةِ لبنانَ الزَّجَ بالمُقاوَمَةِ في حَربٍ غير مُتكافشةٍ ومَعروفَةِ النَّتائجِ مُسبقا، بدلاً من استِغلالِ قدراتِها حيثُ يجب وفي الوقتِ المناسب، على غرارِ ما حصَلَ في توجيهِ المُسيَّرتين فوقَ الحفارةِ الرابضةِ فوق حقل كاريش.
نعم إنه اتِّفاق “غرر”، اتِّفاقٌ على ترسيمِ حدودٍ بحريَّةٍ وليسَ ترسيماً قانونيَّاً يتوافقُ مع مبدادئ التَّرسيمِ التي تَنُصُّ عليها الاتِّفاقيَّاتُ الدَّولية، اتفاقٌ بني على مُقوِّماتِ عناصِرِ القوَّةِ ومواضِعِ الضَّعفِ لدى كلي الطَّرفينِ المُتفاوضين، وأخذَ بعينِ الاعتِبارِ الفرصِ المتاحةِ والتَّهديداتِ الماثلةِ في المحيطِ الخارجي دولياً وإقليميَّا، وعلينا ألاّ نُغفلَ انحيازَ راعي التَّفاوضِ والوسيطِ الذي كلَّفهِ إلى أحدِ أطرافِ التَّفاوضِ وهو الكيان الإسرائيلي.
هذا الاتِّفاقُ يكتنفهُ الكثيرُ من المساوئ التي ظهرَ بعضُها ولم يتظَّهر البعضُ الآخر، منها اضطرارُ لبنان لرسمِ هذه الحدود مع كيانٍ مُغتصبٍ لأرضِ عربيَّةٍ وليس مع صاحبِ الحقِ أي الفلسطينيين، بالإضافةِ إلى خسارتِه لمساحاتٍ من مياهه الإقليميَّةِ وجرفِه القاري، ومنطقتِه الاقتصاديَّة الخالصة، ولكن له أوجهَ إيجابيَّةٍ منها تمكُّنُ لبنان بموجبِ هذا الإتفاقِ استخراجَ الغاز من معظمِ حقولِهِ النَّفطيَّةِ فيما لو استثنينا حقل قانا والبلوك التاسع، اللذينَ وضعت على استخراج الغاز منهما بعضُ الضَّوابطِ المشبوهة، والتي كان على لبنان تجنُّبِها وعدم الموافقةِ عليها، وبهذا الإتِّفاقِ يكون كلاً من لبنان وإسرائيل تجنَّبَا إدخال المنشآت البتروليَّةِ في أيةِ صِراعاتِ عسكريَّة قد تحصلُ مُستقبلا. وربما تخفيفِ حالةِ الاحتقان على امنتدادِ الحُدودِ بينهما، وهذا ليس بسيء.
إننا ندعو الرافضين لهذا الاتِّفاقِ للتعقُّلِ وتبني منهجيِّةِ النَّقدِ البناء الذي يقومُ على التَّجرُّدِ والاحتكامِ إلى مُرتكزاتٍ صحيحة، وسيرون أن هذا الاتِّفاق ليس بتطبيعٍ، ولا إذعانٍ لِلعَدو، ولا ينطوي على اعتراف بملكيتِهِ للأراضي الفلسطينيَّة، إنه أشبهُ باتِّفاقِ هِدنَةٍ رَيثما تَتبدَّلُ الأوضاعُ لِصالِحِ الدُّولِ العَربِيَّةِ التي نحن جِزءاً لا يَتجَزَّأ منها، وإلاَّ عليهم إطلاع الرأي العام عما لديهم من إمكانات وخياراتِ وبدائل.