ازمة لبنانالاحدث

الأحزابُ اللبنانية أمامَ تحدّي إعادةِ تَجديدِ نفسها | بقلم د. بيار الخوري

تشكيلُ الحكومة اللبنانية الجديدة بشخصياتٍ غير حزبية بشكلٍ مباشر، رُغمَ أنَّ نصفها سُمّي من قبلِ الأحزاب السياسية التي لم تُستَبعَد عن التشكيل، يَضعُ الأحزابَ السياسية كافةً أمام تحدٍّ جديد يَفرُضُ عليها إعادةَ تقييمِ دورها ومكانتها في المشهد السياسي. فبعدما كانت مُعتادة على الإمساك المباشر بالقرار التنفيذي، تجدُ نفسها اليوم خارج التركيبة الحكومية، وإن كانت لا تزال تمتلُك نفوذًا غير مباشر عبر الشخصيات التي دعمتها. هذا الواقع يفتحُ البابَ أمام سيناريواتٍ عدة تُحدِّدُ المسارَ الذي ستتبعه الأحزاب في المرحلة المقبلة، بين التكيُّفِ الإيجابي مع الواقع الجديد أو البحثِ عن طُرُقٍ للالتفافِ عليه أو حتى مواجهته.

قد يكونُ هذا التحوُّل فرصةً للأحزاب لإعادةِ النظر في بُنيتها الداخلية ونهجِها السياسي بعدما استهلكتها الصراعاتُ الطائفية والولاءات الإقليمية. يمكنُ أن يشملَ ذلك إعادة بناء كوادرها على أسسِ الكفاءة بدل الولاء، وتطوير برامج سياسية واضحة تستجيب لحاجات اللبنانيين بدل الارتهان لمنطق المحاصصة. إذا اختارَ بعضُ الأحزاب هذا المسار، فقد نشهدُ تحوّلًا تدريجيًا نحو مشهدٍ سياسي أكثر نضجًا، حيث تعتمدُ الأحزاب على قوة برامجها لا على قدرتها في تقاسم السلطة ونهب الدولة.

لكن في المقابل، قد تلجأُ الأحزاب إلى التأثير غير المباشر عبر نفوذها داخل المؤسّسات الرسمية والبرلمان، حيث تستخدمُ أدواتها التقليدية في الضغط السياسي وتحريك شبكاتها في الإدارة العامة لفرضِ أجندتها. ورُغم أنها قد تكون مُستَبعَدة من الحكومة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، إلّا أنَّ قدرتها على توجيه القرارات عبر القنوات الخلفية قد تجعلها لا تزال فاعلة في المشهد السياسي، وإن كان ذلك بطرق أقل وضوحًا. وفي حال شعرَ بعضُ القوى السياسية بأنَّ هذا النموذج يُهدّدُ نفوذه في المدى الطويل، فقد لا يتردّد في اللجوءِ إلى عرقلةِ عملِ الحكومة من خلال البرلمان أو عبر افتعالِ أزماتٍ سياسية وأمنية تهدفُ إلى إفشالِ التجربة برمّتها وإعادة البلاد إلى حالة الجمود السياسي.

السيناريو الآخر الذي قد تلجأ إليه الأحزاب هو انتظارُ إخفاقِ الحكومة لاستغلاله في استعادة شرعيتها السياسية. فإذا عجزت الحكومة عن تحقيق نتائج ملموسة، ستعملُ الأحزاب على تحميلها مسؤولية استمرار الأزمات، مُتناسيةً أنها كانت جُزءًا أساسيًا في خلق الأزمة منذ البداية. بهذا الشكل، قد تتمكّن القوى التقليدية من إعادة تقديم نفسها كبديلٍ قادرٍ على “تصحيح المسار”، ما قد يؤدّي إلى إعادة إنتاج المنظومة ذاتها في أيِّ انتخاباتٍ مقبلة.

وفي ظل هذا الواقع الجديد، قد لا تكون الأحزاب والتحالفات نفسها مُحَصَّنة من التغيير الداخلي، إذ من المُحتَمل أن يشهدَ بعضُ القوى السياسية انقسامات داخلية بين تياراتٍ ترغبُ في التكيُّفِ مع الواقع الجديد وأخرى تسعى إلى الحفاظِ على النهجِ التقليدي. وقد يؤدّي هذا الصراع الداخلي إلى إعادةِ تشكيلِ بعض الأحزاب، أو حتى ولادة تحالفاتٍ جديدة تُغيِّرُ طبيعة التوازنات السياسية في لبنان.

إنَّ مدى تحقّق أيٍّ من هذه السيناريوهات يرتبطُ بعوامل عديدة، أبرزها قدرة الحكومة على تقديم إنجازات حقيقية، ومدى قدرة الأحزاب على ضبط صراعاتها الداخلية، فضلًا عن موقف الشارع اللبناني الذي باتَ أكثر وعيًا بتأثير القوى السياسية التقليدية في مستقبل البلاد. فإذا تمكّنت الحكومة من تحقيقِ نتائج إيجابية، قد تجدُ الأحزابُ نفسها مُضطَرّةً إلى تبنّي نهجٍ أكثر إصلاحية لمواكبة التحوّلات. أما إذا فشلت، فستستغلُّ القوى التقليدية هذا الفشل لاستعادةِ زمامِ الأمور وإعادة فَرضِ نفسها كلاعبٍ أساسي في المشهد السياسي.

يبقى السؤال الأهم: هل سيتمكّن لبنان من كَسرِ الحلقة المُفرغة التي جعلت الأحزاب تُكرّرُ سياساتها الفاشلة بدون محاسبة، أم أنَّ هذه الحكومة ستكون مجرّد محطة مؤقتة قبل أن تعودَ الأحزاب إلى قبضتها التقليدية على السلطة؟ التحدّياتُ كبيرة، لكنَّ الخياراتَ لا تزالُ مفتوحة، والمستقبل السياسي للبلاد سيعتمدُ على قدرة القوى الجديدة على إحداثِ تغييرٍ حقيقي يمنعُ إعادةَ إنتاجِ الأزمة ذاتها.

ينشر المقال بالتزامن مع أسواق العرب .

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى