الأزمة كما الحلول تدار “بالمقلوب” وعن قصد! | بقلم البروفسور مارون خاطر والبروفسور نيكول بَلّوز بايكر
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
يُظهِرُ شريطُ الأحداثِ السياسيَّة والاقتصاديَّة أنَّ ما تتسبّبُ به الإدارة السيِّئة والمُلتبسة للأزمة والحُلول هو دون أدنى شك أكثرُ خطرًا على مُستقبلِ لبنان وحدوده وحقوقه وهويّته وصورته من الأزمة نفسها. إنَّ قَطع الشك بِيَقين العِلم يجعلُنا نَستَثبّتُ أن ما نعيشه لا يُمكن أن يكون إلا مُعاكسة مُتَعَمَّدة للمنطق لا يقف وراءها أغبياء بُلهٌ، بل أدهياءٌ مَنَاكيدُ يضربون الحِجَّة والعِلم والأمل والوَجَع عُرض الحائط ليديروا البلد والأزمة والحلول “بالمقلوب” وَعَن قَصد. التخبطُّ والعشوائيَّة نتيجةٌ مباشرة وطبيعيَّة لقرار مُسبَق بإقصاء البُعد الاستراتيجي في التخطيط كما في التنفيذ ولاستمرار غياب المحاسبة، لا بل لتغييبها عمدًا.
“بالمقلوب” وبامتياز، لم تتَّخِذ حكومة سعد الحريري أية تدابير تنظيميَّة ولم تَفرِض أيَ قيود على رأس المال في الاسابيع الأولى للثورة فَتَكَرَّسَت الاستنسابيَّة سبيلًا لخروج الأموال أمامَ أعين من تُناط بِهِم الرَّقابة كي لا نقول بمساعدتهم. “بالمقلوب” أيضًا اتَّخَذَت حكومة حَسَّان دياب قرارًا تاريخيًا بالتخلُّف عن سداد ما استَحَقَّ من ديونٍ سياديَّة لتُنفِق أضعاف أضعاف ما لم يُدفع على تمويل التهريب والفساد والسَرِقة والفُجور. لم تُكَلِّف الحكومة نفسها عناء مُفاوضة الدائنين ولم يُلاحِق الدائنون الدولة مِمَّا يوجب السؤال عن هويَّتِهِم. استمرَّت مناقضة المنطق فصولًا، فأعلنت الحكومة نفسها خطة “المصارف الخَمسة” القائمة على أنقاض القطاع المصرفي بعد سَحقِهِ والهادفة إلى تغيير وجه لبنان وصورته. بعد ذلك تقدّم وزير ماليتها بمشروع موازنة مُخجِل. أما بما يختَصّ بالسياسة النقديَّة، فبدلًا من العمل على تعزيز استقلاليَّة المصرف المركزي وسدّ الفجوات التشريعيَّة في قانون النَّقد والتسليف الذي شَرَّعَ تمويل الدولة بموافقة الحريصين أنفسهم، تحوّلَ الجهد إلى “فولكلور قضائي” هَزلي ” بالمقلوب” ضَرَبَ ما تبقَّى من هَيبة الدَّولة.
أخذ عَصفُ تَفجير بيروت العاشِق وأتى بالمُشتاق وقد لاقاه التعطيل على باب السراي فَتَحَوَّلَ العزمُ إلى المكاتب والأقبية بانتظار “الطبطبة”. بعد تعطيل التحقيق في تفجير عاصمة لبنان ووجهه، عاد النشاط مشروطًا بإقرار موازنة أتت “بالمقلوب” وعن جدارة. ففي الوَقتِ الذي يُسَجّلُ الاقتصاد نموًّا سلبيًا، غابت السياسات الماليَّة وارتكز تخفيض العجز على زيادة الرسوم في مقاربةٍ دفتريةٍ غير قابلة للتحقيق وتُناقض النظريات الاقتصاديَّة الأساسيَّة التي تُدَرَّس في السنة الجامعيَّة الأولى. في الحقيقة لا نَعلَم إلى أيّ مدرسة فكرية في الاقتصاد ينتمي مَن يَرسم مستقبل بلدنا الاقتصادي. هل هم من أتباع المدرسة “الكينزية” أم يُقلِّدون المدرسة “النيوكلاسيكية” أم لديهم مدرستهم الخاصة ونظرياتهم التي تُغني البشرية وتجعلهم من مستحقي “نوبل الاقتصاد”؟
في الأثناء، كان مشروع قانون الكابيتال كونترول يَختَبِر السقطة تلوَ الأخرى؛ كيف لا وهو مُصَمَّمٌ “بالمقلوب”. فبدلًا من أن يكون “ذكيًا” ومُحَفِّزًا للقطاعات الإنتاجيَّة كما اقترحناه في دراساتنا السابقة، يمنع الكابيتال كونترول “المقلوب” خروج الأموال بطريقة عبثيَّة لا ترتكز إلى تحليل ميزان المدفوعات.
“بالمقلوب” أيضًا، أعلَنَ صُندوق النَّقد الدَولي التوصّلَ إلى اتفاقٍ شفهي مع لبنان قَبلَ المُصادَقَة على خُطَّة تعافٍ اقتصاديَّة وقَبلَ إقرار أيٍّ من الإصلاحات المَطلوبة. أذعَنَ لبنان لشروط الصندوق قبل أن يَشرَحَ خصوصية البلد الجيوسياسيَّة والاقتصاديَّة المُعَقَّدة ليكون التفاوض نَفسُهُ “بالمقلوب”. فإن كان لبنان قادرًا على الالتزام بما يُمليه الصندوق لكُنّا أسَّسنا صندوقًا لبنانيَّا لدعم الدُّوَل المُتَعثّرة. حتَّمَت نظرية “العَين البَصيرة واليَد القَصيرة” استعمال الـ “مقلوب” لأهدافٍ تجميليَّة “ترقيعيَّة” تُحاكي الشَّكل وتتغاضى عن المضمون. فَلِخَفض عجز الموازنة، ارتأى جهابذة الاقتصاد والمال زيادة الرسوم بدلًا من التوجّه إلى قطاعات الإنتاج وحَصر النفقات في خطوةٍ فَنّية إبداعيَّة بهلوانيَّة “بالمقلوب” لن تُفلِحَ في رَفع الايرادات في زَمَن التهرُّب والركود. نُشدِّد في هذا الإطار على أنَّ المطلوب هيئات ناظمة تُزَخّم الشراكة بين القطاعين العام والخاص بما يَضمَن تأمين البُنية التَّحتية للاستثمار وتَحفيز الحَوكَمَة.
دَفَعَ تَحقيق النجاحات الباهرة مُبدعي الرؤية الاستراتيجيَّة للاقتصاد الى العمل على توحيد سعر الصرف. المقاربة هنا ليست فقط “بالمقلوب” بل تُنافي العِلم والمَنطق. فمن جهةٍ، لا يُمكن الكلام عن توحيد سعر صرف قَبل الاتفاق على نظام صرف وقبل ضبط الحدود وحَصر التدفقات النقديَّة بهدف تقدير حاجة الاقتصاد للعملة الصعبة في التعاملات الداخلية الناتجة من دولرة الاقتصاد وفي التعاملات الخارجيَّة. مِن جهةٍ ثانية، ليس توحيد سعر الصرف شعارًا “ببَّغائيًّا” أو قرارًا باعتماد سعر جديد لا قُدرة للمصرف المركزي وللاقتصاد بالدفاع عنه بل نتيجةٌ لإصلاح الاقتصاد الذي إن طابَ، طابَ النَّقد.
في الموازاة، بدأت طلاسم خُطَّة التعافي الاقتصاديَّة “السريَّة للغاية” تَسلُكُ طريقها إلى العَلَن عبر كلامٍ عن إفلاس الدَّولة والمركزي وعن استخدام الذَهَب ورؤوس أموال المصارف لِرَدم الفجوة. كلامُ ليلٍ لم يَمحه النَّهار رُغمَ نَفيِهِ إذ شَكَّلَ مؤشراً استباقياً دلَّ على أن ما يتم التَكَتُّم عنه ليس “خطة تعافٍ” بل “مسارُ تَعَفُّن” يُقارب المُشكلة والحَلّ “بالمقلوب”. في رُبع السَّاعة الأخير للجلسة الأخيرة للحكومة، أبصَرَ مُخَطَّط توزيع الخسائر المُريب النور غاسلًا أيادي الدولة والمركزي من دَمِ الخسائر بما يُشبِهُ المصادقة على حُكم إعدام المصارف الصادر عن حكومة دياب مع وقَف التنفيذ. ورَّطت السياسة والجَشَع المصارف فَعَبَثَت بأموالنا وأذَلّت، ولا زالت تُذِلُّ، أصحاب الحَقّ وهي تستحق عن ذلك أشدّ العقاب. إلّا أن إعدام المصارف وبَعثَرَة قواعِدِها البيانيَّة يعني إعدام أي فرصة حقيقية للنهوض بالاقتصاد في بلدٍ اعتاد أن تغيب فيه الدولة وأن يَرفَعهُ القِطاع الخاص. فَهِمَ أصحابُ الشأنِ والحِنكةِ إعادة هيكلة المصارف “بالمقلوب” فانكبّوا على تنظيم جَنازة القطاع وكأنهم وكلاء تفليسة لا أصحاب قرار.
أعلن موظفو القطاع العام الإضراب المفتوح لأسابيع عديدة قبل أن تَتَحَرَّك سلطة التَّصريف والتَّشكيل و”بالمقلوب” طبعًا طارحةً رَبطَ زيادة أُجور القطاع العام برفع “الدولار الجمركي” في مشهدٍ مُضحكٍ مُبكٍ يَعكِسُ مدى السَّطحيَّة لا بل مدى الجَهل أو التَجَاهُل. فعلى الرُغمِ من أن المطالب مُحِقّة في مكان، إلّا أن الحَلَّ المُستدام لمشاكل القطاع العام لا يمكن أن يكون عبر زيادة الأجور بل عبر إعادة هَيكلة هذا القطاع المُتخَم وغير المُنتِج والغارق في الزبائنيَّة والطائفيَّة. في مُطلق الأحوال، ليس “رفع الدولار الجُمرُكي” في الوضع الرَّاهنِ إلّا تكريسٌ لِمَنطق علاج النتائج دون الأسباب واستمرارٌ لمقاربة المشكلات “بالمقلوب” كما دومًا. أيَسمَحُ لنا قادةُ الفِكر الاقتصادي أن نسألهم عن المَنطق الذي ارتَكَزَ عليه طرحُهُم زيادة الرسوم على الاستيراد في الوقت الذي ينخفض الاستيراد نفسه كمًّا ونوعًا بفعل الإنكماش الاقتصادي؟ ألا تَعلَمون يا مصادر التَّنوُّر والتَّكَتُّم أن كل زيادة للإيرادات عبر زيادة الرسوم تبقى دفتريَّة وغير حقيقيَّة حينما يُسَجِّل الاقتصاد نموًّا سلبيًا وعندما يكون عَدَم الالتزام والتهرّب الضَّريبيَين هما القاعدة؟ ألا تَخشوَن أن تُعاملُكُم البُلدان التي سَتَفرِضون رسومًا جديدةً على صادراتها بِالمِثل؟ هل فاتَكُم أن الاستثناءات بما خصَّ الدولار الجمركي سَتُكَرّس أسواقًا سودًا جديدة وسَتُغرِق الأسواق بأصنافٍ محددة وستجعل التهريب يزدهر؟ أعَلمتم لماذا نَرَاكم “بالمقلوب”؟ إنَّ هذا الطَّرح استكمالٌ للانصياع الكُلي لشروط صندوق النَّقد لناحية تَخفيض عجز الموازنة والميزان التجاري “بالمقلوب” عبر خَفض الاستيراد بدلًا من زيادة التصدير. إلّا أنَّ أخطر ما فيه هو أنه يَخدُم محاولات تغيير وجه لبنان وعَزلِهِ اقتصاديًا وهنا نسأل: إذا كنتم لا تعلمون، فهل صندوق النَّقد لا يعلم وبات هو أيضاً “بالمقلوب” كما أنتم؟ هل استغنى الصندوق عن مبدَإِ “النُّمو المُستدام” وبات يَهتَم حصرًا بما يؤَمِّن له سَداد أمواله؟
ما يَصُحُّ في الكابيتال كونترول والموازنة وخُطط التعافي وتَوحيد سعر الصرف والدولار الجمركي يَصُحُّ أيضاً في رَفع السريَّة المصرفيَّة. فمحاربة الفساد وتَتَبُّع الفاسدين ليس بحاجة إلى المزيد من القوانين بل إلى استقلالية القضاء وإبعاده عن المُتَحَكّمين بأمر البِلاد والعِباد. عندما يَنصَبُّ الجهد على إقرار قوانين جديدة واعتبارِها انجازات فيما المطلوب تطبيق ما هو مُقَرّ، تكون المقاربة “بالمقلوب” كما دومًا إلى أن يقضي الله أمرًا. ليسَت الحاجة إلى طاولة اقتصاديَّة وماليَّة موسَّعة بل إلى “عقدٍ وطني” يُرسي استقرارًا سياسيًا حقيقيًا يجعل من النهوض الاقتصادي أحد نتائجه الطبيعيَّة.
لا، ليست مُعاكَسَة المَنطِق والنظريات الاقتصاديَّة وَليدَة المصادفة وليسَ من يَحكمونَ بَلدَنا جُهلاء!
لا يُمكن أن تكونَ إدارة الأزمات والحُلول “بالمقلوب” إلّا فعلَ قصد يُنَفِّذُهُ مُتَمَرِّسون في ألاعيب السياسة وأصحابُ باعٍ طويل في الزبائنيَّة والتَّعطيل والمُماحكة والتسويف.
السلطة التي لا تَحتَرِم كرامة عاصمتها ودماء أهلها لن تُنجِزَ حلولًا بل مناوراتٍ تَشتري الوَقت وتَهدُرُ العُمر.
“العُصفوريَّة الجُهنَّمية” ليست إلّا نتيجةٌ لِحُكم “قطعة السما” … “بالمقلوب” … وعن قَصد!