ازمة لبنانالاحدث

الاقتصاد الموازي في لبنان ومضاره | بقلم د. رنا منصور

وفقًا للإحصاءات الرسميّة فقد شكّل الاقتصاد الموازي أو الاقتصاد غير الشرعي حوالى 70% من مجمل الاقتصاد اللبنانيّ في سنة 2019. ثم تراجعت هذه النسبة لتصل إلى 20% بسبب تدنيّ قيمة العملة الوطنيّة وانخفاض قيمة الضرائب والرسوم. ومع بداية سنة 2023، تمّ اعتماد سعر صرف موازٍ يعكس السعر الحقيقيّ للدولار في السوق، ممّا أعاد قيمة الضرائب إلى مستوياتها السابقة قبل انهيار العملة الوطنيّة. ومع زيادة بعض الضرائب بشكل عشوائيّ ودون دراسة كافية، إرتفعت نسبة الاقتصاد الموازي مجدّداً لتتخطى 70%.
ما هو الاقتصاد الموازي؟
يُعرّف الاقتصاد الموازي بأنّه مجموعة من الأنشطة الاقتصاديّة التي لا تُسجّل رسميّاً ضمن حسابات الناتج المحليّ الإجماليّ. وهذه الأنشطة يمكن أن تكون:
– غير مشروعة: أي أنّها تنتهك القوانين النافذة في البلاد.
– مشروعة من الناحية الشكليّة: لكن تُمارَس خارج نطاق الرقابة الرسميّة لتجنّب الإلتزامات الضريبيّة والرقابيّة.
يهدف التهرب من التسجيل الرسميّ إلى التملّص من الإلتزامات القانونيّة مثل دفع الضرائب والرسوم، أو نتيجة لظروف بيروقراطيّة معقّدة وحواجز إداريّة تدفع بعض الأفراد والمؤسسات إلى العمل خارج النظام الرسميّ.
أشكال الاقتصاد الموازي
تتنوّع أشكال الاقتصاد الموازي في لبنان بين:
– التهرب الضريبيّ والجمركيّ: التهرّب من دفع الرسوم والضرائب والقيمة المضافة.
– التهرّب من تسجيل الموظفين والعمال في الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ أو تسجيل جزء من معاشهم.
– المؤسّسات غير الشرعيّة: مؤسّسات تعمل خارج النطاق القانونيّ بشكل كامل.
– مؤسّسات مسجّلة بإسم لبنانيّين لكن تُدار فعلياًّ من قِبل كيانات أجنبيّة.
– التلاعب في عمليّات الإستيراد: إستخدام فواتير استيراد مخفّضة للسلع والبضائع.
– تسجيل استيراد بضاعة ومواد أوليّة بإسم وهميّ وإخراجها من الموانئ بطرق مشبوهة.
– المعابر غير الشرعية: إستغلال معابر غير رسميّة، وغالباً ما تكون حكراً على بعض الأحزاب أو الجهات السياسيّة وبغطاء من بعض الجهات الأمنيّة.
– التجارة الإلكترونيّة غير المعلنة: الإعلانات التجاريّة على وسائل التواصل الاجتماعيّ التي تُمارَس دون دفع الضرائب المستحقة.
الأسباب الدافعة لانتشار الاقتصاد الموازي
يُمكن تلخيص بعض الأسباب التي أدت إلى انتشار الاقتصاد الموازي في لبنان بالنقاط التالية:
– الضغوط الضريبيّة والبيروقراطيّة: إرتفاع معدّلات الضرائب وتعقيد الإجراءات الإداريّة يدفع البعض إلى تجنّب النظام الرسميّ.
– إنخفاض قيمة العملة: فقد أدى تراجع قيمة الليرة اللبنانيّة إلى تغيّير أُسس تقيّيم الضرائب والرسوم، ممّا أثّر على جدوى العمل ضمن النظام الرسميّ.
– الإضطرابات السياسيّة والاقتصاديّة: إنّ عدم الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ عزّز من عدم ثقة المستثمرين وأصحاب المشاريع في النظام الرسميّ.
– ضعف الرقابة والشفافيّة: وجود ثغرات في أنظمة المراقبة الجمركيّة والضريبيّة وسوء إدارة بعض القطاعات الحكوميّة.
– تأثير العوامل الإقليميّة: إنّ التدخلات الخارجيّة وتداخل السياسات الإقليميّة ساهمت في خلق بيئة اقتصاديّة غير مستقرّة.
المتضررون من الاقتصاد غير الشرعيّ
يؤثر الاقتصاد الموازي على قطاعات وفئات عديدة داخل المجتمع، أبرزها:
– خزينة الدولة والقطاع العام: فقدان الدولة لإيرادات ضروريّة لتمويل الخدمات العامة والمشاريع التنمويّة.
– الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ: إنخفاض الإيرادات ممّا يؤثّر على قدرة الصندوق في توفير خدماته للمواطنين.
– المؤسسات الشرعيّة: وجود منافسة غير متساوية مع المؤسّسات العاملة خارج النظام الرسميّ تؤدي إلى إغلاقها وتسريح العمال.
– المستثمرون ورجال الأعمال: تجميد الإستثمارات الجديدة وخفض حجم الأعمال نتيجة لارتفاع التكاليف بالمقارنة مع الأسعار غير الرسميّة.
– المستهلكون: تعرّض المواطنين لبضائع مزيّفة أو غير مطابقة للمعايّير بسبب تضارب الأسعار والضمانات.
التأثيرات السلبيّة للاقتصاد الموازي
من أبرز الآثار السلبيّة للاقتصاد الموازي:
– تشويه المنافسة: يخلق بيئة سوقيّة غير عادلة حيث يتمتّع العاملون خارج النظام الرسميّ بمرونة أكبر لا تُتاح للمؤسسات الشرعيّة.
– تأثير سلبيّ على الاقتصاد الوطنيّ: إنخفاض رقم الأعمال المحليّة والتصدير يؤدي إلى تراجع النمو الاقتصاديّ.
– زيادة العمالة غير القانونيّة: يؤدي الإنتشار الواسع للأنشطة غير الرسميّة إلى زيادة العمالة غير المسجلة وتفاقم المشاكل الاجتماعيّة.
– تدهور صورة المنتجات اللبنانيّة: وجود بضائع مزيّفة يشوّه سمعة العلامات التجاريّة اللبنانيّة ويُضعف ثقة المستهلكين.
– صعوبة وضع السياسات الاقتصاديّة: تعاني الدولة من ضعف البيانات الرسميّة ممّا يجعل وضع سياسات اقتصاديّة دقيقة أمراً معقّداً.
حلول ومقترحات لمكافحة الاقتصاد الموازي
على الرغم من أنّ معالجة الاقتصاد الموازي تمثّل تحديّاً كبيراً، إلا أنّ هناك مقترحات عديدة يمكن أن تسهم في الحد من انتشاره، منها:
– قرار سياسي موحّد: ضرورة توحيد الجهود بين مختلف الجهات السياسيّة والإداريّة لمحاربة الاقتصاد غير الشرعيّ بشكل فعّال.
– إقفال المؤسسات غير الشرعيّة: إتّخاذ إجراءات صارمة لإغلاق الكيانات التي لا تلتزم بالأنظمة الرسميّة.
– تعزيز الرقابة: تكثيف الرقابة من قبل وزارة الداخليّة والجهات المختصة على البلديّات والمعابر الجمركيّة.
– إصلاح النظام الضريبيّ: تبسيط إجراءات الجباية وتحسين نُظم التحصيل بحيث تكون عادلة وشفافة، مع إعادة النظر في معدّلات الضرائب لتكون محفّزة للنشاط الرسميّ.
– تطوير الصندوق الوطني للضمان الاجتماعيّ: تحديث آليات عمل الصندوق لضمان تقديم خدماته بكفاءة وتحقيق استدامة ماليّة.
– إعتماد نظام جمركيّ عصريّ: تطبيق نظم حديثة للجمارك تشمل مقارنة أسعار الإستيراد مع الأسواق العالميّة وإلزام المورّدين بتقديم الفواتير الأصليّة والمصدّقة.
– مكافحة الفساد: تطهير القطاع العام والبلديات والسلك الأمنيّ من الممارسات الفاسدة التي تُسهم في تيسير عمل الاقتصاد الموازي.
– تشجيع المؤسسات الشرعيّة: منح حوافز ضريبيّة واستثماريّة للمؤسسات التي تلتزم بالإجراءات الرسميّة، مع رفع الحواجز أمام دخول كل مواطن لبنانيّ إلى النظام الرسميّ.
– تبني سياسات تنمويّة شاملة: العمل على استراتيجيات طويلة الأمد لتعزيز الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ، ممّا يقلّل من الدوافع التي تقود البعض للعمل خارج النظام.
نظرة مستقبليّة
إنّ الاقتصاد الموازي لا يمثّل مجرد مشكلة ماليّة، بل هو مؤشّر على ضعف الثقة في النظامَيْن الاقتصاديّ والسياسيّ. ولتحقيق تحوّل حقيقيّ يجب:
– عمل الحكومة على استعادة ثقة المواطنين والمستثمرين من خلال إصلاحات جذريّة.
– تحسين بيئة الأعمال، وتحديث البنية التحتيّة الإداريّة والرقابيّة، وتوفير بدائل حقيقيّة للأعباء الضريبيّة المفرطة.
كما أنّ التوجه نحو الاقتصاد الرقميّ وتحديث نظم الدفع والتجارة الإلكترونيّة قد يُساهم في زيادة الشفافيّة ومراقبة الأنشطة الاقتصاديّة بشكل أدق.
إنّ معالجة الاقتصاد الموازيّ تتطلب رؤية شاملة وإرادة سياسية قويّة للتغلّب على العقبات التي فرضتها سنوات من الإضطرابات الاقتصاديّة والسياسيّة، ممّا يفتح المجال لتحقيق نمو اقتصاديّ مستدام وشامل يعود بالنفع على كافة فئات المجتمع اللبنانيّ.
يظل التصديّ للاقتصاد الموازي تحدّياً حقيقيّاً يستدعي تعاوناً فاعلاً بين جميع الأطراف المعنيّة في الدولة، من جهة الحكومة والجهات الرقابيّة، ومن جهة المؤسسات الخاصة والمواطنين. إنّ التحوّل نحو اقتصاد رسميّ شفاف وعادل هو الطريق الأساسيّ لاستعادة الإستقرار الاقتصاديّ وتحقيق التنمية المستدامة في لبنان.

د. رنا هاني منصور

د. رنا هاني منصور دكتوراه في العلوم الاقتصادية- بنوك وتمويل أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية، كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال- الفرع الأول أمينة سر جمعية الخبراء الماليين عضو في اللجنة العلمية للجمعية اللبنانية لتقدم العلوم عضو في اللجنة الإستشارية لمجلة جويدي للإبتكار والتنمية والإستثمار لها أكثر من 150 مقال في العديد من المواضيع المالية، الاقتصادية، السياسية والاجتماعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى