ازمة لبنانالاحدث
“البُؤْسُوفُوبيا” في بُؤَساء الدولة لا في لبنان الوطَن | بقلم هنري زغيب
في تغريدة “تويتْرية” للأَميركي ستيف هانْكي Hanke (م.1942، أُستاذُ الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونْز هوبْكنْز – بالْتيمور، وسابقًا مستشارٌ اقتصادي في فريق الرئيس رونالد ريغان)، جاءَ أَنَّ “لبنان ثالثُ بلدٍ بائسٍ في العالَم، والأَولُ عربيًّا”.. ووردَت تغريدتُهُ هذه في نشْرَتِه عن “البُؤْس السنَوي العالَمي” استنادًا إِلى مؤَشِّرات لديه خاصة عن لبنان (دون إِحصاءَات ولا أَرقام رسمية)، بينها نسْبةُ البطالة ومؤَشِّر التضخُّم المالي وعجزُ الحكومة عن إِيجاد الحلول..
تلقَّفَ الخبَرَ عندنا أَهلُ الإِعلامِ، مقرُوئِه والمسمُوع والمرئي ومدمنو شبكات التواصل الإِلكتروني، وانفَلَشُوا يَتَغَرغَرونَهُ ويُطَنْطِنُون به في نشَراتهم وتغريداتهم ورسائلهم النصية، حتى يُعْلِموا مَن لم يعْلَم بَعدُ أَنَّ لبنان أَكثرُ بلدٍ بائسٍ في محيطه العربي والثالثُ في الأُوقيانوس العالَمي..
هيك؟؟ من تغريدة “تويتْرية”، ولَو ذات صدقيَّة علْمية، ننْشُرُ إِعدامَ لبنان بالـ”بُؤْسُوفُوبيا“؟ وهل هذا هو لبنان؟
أَبدًا، مش صحيح! ليس هذا هو لبنان في العالَم بل هذه هي دولتُهُ الفاشلة بحكَّامها، العقيمةُ بسُلطتها، وليس هذا لبنان الوطن..
لبنان بائس يعني كلّ شعبه بائس؟؟ مش صحيح.. ها شعبُه أَكبرُ من أَن يقع في الـ”بُؤْسُوفُوبيا”: حرَمَتْه الدولة من كهربائها فارتجلَ بدائلَ الطاقة الشمسية والمولِّدات.. سرقَت الدولة وَدَائعه فارتجلَ وسائلَ صَرْفيَّةً أُخرى..
انهارت ليرتُهُ فما انهار بَكَّاءً بل انصرف إِلى ما يجعله يعيش حياته على قياسه: لا المطاعمُ أَفلسَت، ولا شركاتُ الطيَران افتقدَت مقاعده.. لا رئيس جمهورية فيه ولا حكومة فعلية ومع ذلك يَمضي في حياته اليومية، لا جامعاتُه نضَبَت عن تخريج متفوِّقين، ولا ضائقاتُه المالية وأَزماتُه الاقتصادية المتعدِّدةُ الأَنياب خنَقَتْهُ، ولا انهارت حياتُه الثقافية: معارضُ الكتُب متتالية، معارضُ الرسم والنحت متوالية، المسارحُ تستقبلُ روَّادها بكثافة، دُورُ النشر تُصْدر الكتب تباعًا، وكلُّ ما يجري – بسبب الدولة وطُغمةِ سُلطتِها الجلَّادة – لم يُوْقف النتاج الإِبداعي والعلْمي والأَكاديمي في كلِّ حقل..
ما يشيرُ إِلى البؤْس لدى جُزءٍ من شعب في لبنان، لا يتعمَّم على كلِّ شعبه.. وهو يحصل، مُوَقَّتًا أَو طويلًا، في أَيِّ بلدٍ من العالَم.. وعلى عقْل هذا الـ”أَيِّ بلَدٍ” أَن يكون كشَعب لبنان الموسوم بِحُبّ الحياة ليكون عصيًّا على الانهيار تحت الـ”بُؤْسُوفُوبيا”..
أَذكُرُ العقل اللبناني، وأَقولها بفخرٍ وكبَرٍ واعتزازٍ وأَنَفةٍ وإيمانٍ بعقل شعبنا الذي تنهار سُلطتُه فلا ينهار، وتَتَفسَّخ دولتُه فلا يَتَفَسَّخ، ويبقى مُواصلًا شَقَّ مستقبله في عنادٍ وطيد..
نعم: أَقولُها في إِيمانٍ بشعبنا، وأَستثْني منه العميانيين الببَّغاويين الأَغناميين المنقادين غَبَائيًّا إِلى زُعمائهم السياسيين، يَخْنعُون أَمامهم ويُعيدُون انتخابَهم كَمَنْ يُقَبِّل يدَ جلَّاده طائعًا منساقًا منصاعًا ولو دعا عليها بالكسْر.
نعم: أَقولُها في ثقةٍ بشعبنا، ولا يجوزُ تعميمُ بؤْسِ بعضِه على كلِّه، ولا اتِّباعيةِ البعض فيه على الكُلّ.. الأَزمات عابرةٌ مهما طالت سُمومُ غَيمِها الأَسْوَد.. لذا أَتناول ما في شعبنا الأَصيل من عراقةِ لبنان التاريخ والحضارة والتَفَوُّق والإِبداع، لأَشعر في ذاتي وفي ذاتِ شعبنا الخلَّاقة: بالكبَر لا بالتكبُّر، بالثقة لا بالتواضُع الكذَّاب، بالتَفوُّق لا بالفوقية.. هكذا أَتغلَّب على كلِّ ما يهاجمنا من محاولات تثْبيط العزائم وتخويف النفوس وتَـيْـئِـيس الآمال وتَيْبِيس الطموحات ونشْر ذبذبات النقّ السلبيّ وخُنوع الانهزام وتوزيع الإِحباط وتهديد النفوس الضعيفة، وأَطرُد من بالي الـمُصابين في شعبنا بِجَلْد الذات كلَّما طالَعَنا واحدٌ بنظريةٍ إِحصائية، أَو طلَع على بال أَحد أَن يحطِّم نفسيَّة شعبنا اللبناني.. يكفينا ما نواجهُهُ من سياسيينا الذين يَتَذَاءَبُون ويَتَثَعْلَبُون ويَتَدايَكُون ويَتَماحَكُون، ومصيرُهُم الغَوغائيُّ الديماغُوجيُّ، غدًا أَو بعده، هو الغَرَقُ في العار، وفي كُرْهِ الشعب إِياهُم وغَضَبِه ولَعنَتِه عليهم..
لبنانُ الوطن أَقوى من الآنيَّات العابرة مهما طالَت، وشعبُ لبنان أَقوى من سُلطتِه التي تَخانَعَتْ فَهَشَّمَت دولتَهُ..
ودِدنا أَن نُعْلِمَ البروفسور هانْكي أَنَّ تغريدتَه “التويتْرية” تعني بؤْس السُلطة فقط في لبنان ولا تعني بؤْس الوطن.. فشعبُنا، منذ عقودٍ وعصورٍ، يكابد كي يَحفَظَ لبنان وطنًا كان دومًا نبْضَ التاريخ وسوف يبقى على الدوام عنوانًا ساطعًا على الصفحة الأُولى من كتاب التاريخ.
نشر المقال في “النهار”