ازمة لبنانالاحدث

التحرك من أجل لبنان في باريس | بقلم د. بولا الخوري

تحت عنوان “بذور الأمل” وباختيار موضوع البيئة كمحور رئيسي للنشاطات، أقام تجمع “التحرك من أجل لبنان” نشاطه الثاني في 26-1-2025 في مركز الثقافي والفني “لابل فيلواز” في الدائرة العشرين الباريسية، بعد أول حفل له في تشرين الأول الماضي. كان الحفل كالعادة متعدد النشاطات، وجمع بين الإنتاج اللبناني من المآكل المشروبات الروحية والغازية الى الأعمال والمنشورات الفنية والغناء التراثي عدا الأفلام والمحاضرات.

هذا اللقاء المميّز بين التجمع اللبناني والمركز الثقافي الفرنسي أضاف بعداً تاريخياً وفريداً لهذه العلاقة الطويلة والمتغيّرة بين البلدين. يتميّز التجمع أولاً عن الأشكال السابقة للتضامن مع لبنان في فرنسا بأنه لا يعكس بين منظميه وجمهوره الإنتماءات السياسية، الحزبية والطائفية كما كان الحال في التحركات السابقة، التي كانت تعبّر عما يسميّه اللبنانيون توحدهم على حب لبنان في بلاد المهجر، حين يجمعهم هذا البلد “التعددي، المنفتح على العالم والمأسوف عليه.” أي عبارة عن كتلة من المشاعر العاطفية والتضامنية التي لا تتعدى طموح إبقاء فكرة لبنان القديمة حاضرة في أذهان هؤلاء المهاجرين وأذهان الفرنسيين المتضامنين معهم، خاصة من الأجيال السابقة التي عرفت لبنان في أيام عزه.

أما “لابل فيلواز” حيث نظّم الحفل، فهو مركز ثقافي فريد من نوعه منذ جرى تأسيسه غداة كومونة باريس عام 1877، كتعاونية باريسية حملت أفكار رائدة وسابقة لعصرها أطلقها عمّال حول فكرة “من المُنتِج الى المستهلك”، فضلاً عن جامعة للتعليم الشعبي ومكتبة عامة حوّت آنذاك 4000 كتاب. عام 2005 أطلق ثلاث رواد ثقافيين آتين من عالم المسرح الحيّ والإنتاج الفني والإعلام مشروع إعادة إحياء المكان، بعد توقفه عن العمل لأكثر من نصف قرن، كمركز مستقّل للنشاطات الفنية غير التقليدية والبديلة عن الثقافة السائدة.

تشكّل التجمع قبل أشهر من نخبة من الباحثين والفنانين والكتّاب والمخرجين الذين التقوا للعمل على تحسيس الرأي العام في فرنسا بوضع لبنان تحت القصف والاجتياح الإسرائيليين، فضلاً عن جمع التبرعات لمساعدة المتضررين والنازحين. لكن من غاياته أيضاً تغيير الصورة في أذهان الفرنسيين عن الحرب على لبنان والتي تختصر في الإعلام السائد الى نظرة مبسّطة ومجحفة عنوانها: الحرب بين حزب الله وإسرائيل. كما يساهم فيه فرنسيون أغلبهم من جيل الشباب الذين عرفوا لبنان في وضعه الحالي، حيث سكنوه لفترات متفاوتة وأحبّوا العلاقة بأهله ونمط العيش فيه، وبينهم متخصصون بشؤونه وفي مجالات متعددة من البيئة والآداب والفنون الى العلوم والهندسة.

إن اختيار موضوع النشاط من أجل القضايا البيئية والناشطين في خدمتها في لبنان كعنوان محوري لمختلف أنشطة هذا اللقاء الثاني بدا واضحاً في كل مرفق من الحفل، وبالأخص في لقاء الطاولة المستديرة التي جمعت اختصاصيين فرنسيين ولبنانيين حول أثر حرب إسرائيل على لبنان وفلسطين وسياساتها في تكثيف الإنتاجية بشكل عام، على الثروة البيئية من الشجر والمزروعات والمياه والتربة كما أنماط العمارة التقليدية المتناسبة مع المناخ. كما جرى استعراض نشاطات المجتمع الأهلي والجمعيات العاملة على حفظ البيئة في فلسطين، والتي يشارك فيها إسرائيليون معارضون لسياسة دولتهم الاستعمارية والمخرّبة للبيئة.
وعبّرت الأفلام القصيرة والطويلة التي تم عرضها أيضاً عن هذه الغاية، عدا عن الجمالية التي تظهرها للطبيعة في لبنان. فالأفلام القصيرة كانت عبارة عن تسجيلات حيّة للقاءات مع لبنانيين من مختلف المناطق اللبنانية يروون ذكريات طفولتهم عن شجرة أمام منزلهم في القرية أو في المدينة اختفت فيما بعد بفعل العمارة أو التدمير، أو اكتشفوها بفعل النزوح وأصبحت في رسوخ جذورها في الأرض رمزاً لهم ولهن.

من الأفلام الطويلة المميزة “تلة الحيّات” لمخرجة جويل أبو شبكة وهي التي أقامت لسنوات في المهجر، وعادت لتقيم مع زوجها في منزله والأراضي المحيطة به في البقاع. وتلة الحيّات هو أسم القرية التي يسكناها، ويعملان على إقام مشروع زراعة مستدامة فيها. وتحاول جويل على مدى الفيلم هي وزوجها وصديق متخصص في الحيّات في لبنان أن يجدوا ما بقي منها. ويحدوهم السؤال عن سبب تسمية القرية بتلة الحيّات، وعن أثر المبيدات الحشرية التي يستخدمها جيرانهم على مصيرها. الفيلم غني بالمعلومات عن أنواع الحيّات التي تعيش في لبنان وفائدتها للبيئة وكون ثلاثة أنواع مسمّة فقط من أصل حوالي 250، بينما يجري قتلها بلا تمييز، كما تتخلله نقاشات مثيرة عن مضار المبيدات الحشرية على التنوع البيئي وبدائلها الطبيعية.

يتتبع فيلم ربيكا طوق “نهر أبو علي” مسار هذا النهر من مدينة طرابلس، عبوراً بوادي قنوبين ومنطقة جبل الأرز، ويبلغ ذروته عند القرنة السوداء، أكبر مصدر للمياه في المنطقة. وترافق المخرجة بكاميرتها شابة متسلقة للقرنة تعرف أدق تفاصيلها وتعمل على الحفاظ عليها وعلى جماليتها إزاء مخاطر الاستخدام البشري العشوائي لها، وهي المكللة بالثلوج على مدار السنة.

والفيلم يحكي قصة هذا النهر من خلال ذكريات ونشاطات لبنانيون ولبنانيات متصلة بالحفاظ عليه وبمعرفة فوائده للثروة الطبيعية المحيطة به وكيفية استثمارها بشكل بيئي. أنها قصة منابع المياه في لبنان، الذي بالرغم من أزمة ندرة المياه الحالية فيه بسبب الفساد، يبقى البلد الأول بغناه بالثروة المائية في العالم العربي.

أما فيلم “الأفق” فيرافق شادي إبن حمانا الذي يروي قصته من الطفولة حيث تعلم صيد الطيور من أبيه وراح يتباهي من عمر السادسة بكونه صياداً ماهراً. شيئاً وشيئاً ومن خلال مراقبة الطيور في السماء بدأ يحبها ويأبى أن يقتلها من خلال الصيد. ونكتشف في الفيلم أن لبنان من أكبر الممرات العالمية لهجرة الطيور، ونرافق شادي الذي أصبح دليلاً سياحياً واسع المعارف عبر الجبال يخبرنا عن أنواع الطيور واسمائها وفوائدها لبيئتنا.

بالرغم من الطابع الوثائقي لكل الأفلام التي تم عرضها لا يملّ المشاهد للحظة، لأنها أيضاً تحكي قصص أفراد مقتنعين ومتحمسين لما يفعلونه، عدا التصوير المتميّز بفنية عالية. ويدهشنا إلتزام هؤلاء الناشطين واتساع معارفهم ونسبة وعيهم للقضايا البيئية المطروحة اليوم في كل أنحاء العالم كقضايا مصيرية لبقاء النوع البشري، في بلد يتهيأ لنا أنه خارج العالم والتاريخ، يقف عند حدود الحروب المتتالية وقصص الفساد والإنهيارات الاقتصادية. هذا ما ينطبق أيضاً على الأعمال الفنية والتصويرية بكافة أشكالها، من رسم في لوحات أو على القماش، الى القصص المصّورة والنصوص الأدبية، الى الحرف المصنوعة بجمالية فريدة، عدا الفرق الغنائية التي تعمل على حفظ التراث أو تغنيه بجديدها.

د. بولا الخوري باحثة وصحافية في علم الاجتماع

د. بولا الخوري، باحثة مشاركة في مركز التحليل والتدخل الاجتماعي CADIS في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس EHESS - CNRS. لدى الخوري خبرة لأكثر من 20 عاماً كعالمة اجتماع وصحافية، حيث تساهم في تعميم نظريات العلوم الاجتماعية في الصحافة بغية جعلها بمتناول الجمهور غير الأكاديمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى