ازمة لبنانالاحدث

الجغرافيا في مُوَاجَهَةِ السياسة في لبنان: سلام والتَحَسُّب للإشاراتِ المُتقاطِعة | بقلم د. بيار الخوري

في لحظةٍ مُشبَعة بالإشارات المُتقاطعة، جاء تصريحُ رئيس الحكومة اللبنانية نوّاف سلام حول نهايةِ ثُلاثية “الجيش والشعب والمقاومة” كحدثٍ لافت لا يُمكنُ فصله عن السياق الإقليمي المشتعل. ليس فقط لأنه يُشكّلُ قطيعةً مع شعارٍ سيطر على المشهد السياسي اللبناني منذ العام 2006، بل لأنه جاء في توقيتٍ دقيق، تزامن مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب واشتداد المواجهة في غزة، وتحرُّكٍ قوي في كواليس الملف النووي الإيراني.

تصريحُ سلام بدا كخطابٍ استباقي قلق في توقيته، يتماهى مع الرغبة في تعزيز صورة الدولة اللبنانية كمصدرٍ حصري للشرعية الأمنية. لكنه أيضًا يُشكلُ تحوّلًا لغويًا يحملُ في طيّاته نيّةً لفكِّ ارتباطٍ رسمي لبناني بأيِّ سلاحٍ لا يخضعُ للدولة. هذه الرسالة، التي لا يُمكنُ فصلها عن المناخ الدولي الضاغط، قد تكون مُوَجّهة لطمأنة الخارج أكثر مما هي للاستهلاك الداخلي، خصوصًا أنَّ سلام يُدركُ حساسية اللحظة السياسية، وأنَّ مشروعَ تغيير الخرائط لا زال في أول الطريق.

لكن لعلّ ما يجعل تصريح نواف سلام مختلفًا ليس مضمونه الذي بات هو المألوف في الأشهر الاخيرة، بل كونه أول إعلان رسمي مباشر عن نهاية ثُلاثية “الجيش والشعب والمقاومة”، وهي الصيغة التي شكّلت لعقدين من الزمن مظلّةً رمزية للثُنائية الأمنية. هذا الإعلان يتجاوز ما ورد في خطاب القسم أو البيان الوزاري حول حصرية السلاح بيد الدولة، لأنهما بقيا ضمن الإطار المبدئي، بينما تصريح سلام يُنهي صراحةً توازُنًا لغويًا  بدا لزمن طويل عصيًّا على الكسر.

في هذه اللحظة بالذات، يصبح تصريح سلام مشهديًا في بُعدِهِ الرمزي، فهو لا يقول فقط أنَّ السلاحَ يجب أن يكون بيد الدولة، بل يذهب أبعد ليقول إنَّ الزمن الذي بُرِّرَ فيه وجود سلاح خارج الدولة قد انتهى. وهنا، يتقاطعُ موقفه ليس فقط مع التحوّل الدولي والعربي تجاه لبنان، بل أيضًا مع رغبةٍ دفينة لدى جُزءٍ كبير من الداخل اللبناني بالخروج من منطق الثنائية الامنية.

لا يُمكنُ فصلُ هذا التصريح عن السياق الإقليمي المتفجّر. فتصريحُ رئيس الحكومة اللبنانية لم يأتِ كردِّ فعلٍ على صواريخ أُطلِقت من الجنوب، بل جاء قبلها بيومٍ كامل، وكأنه قراءةٌ استباقية للمشهد، أو محاولة لتحييد لبنان قبل أن يتورّطَ مجددًّا في حروب ومفاوضات المنطقة. سلام، بخلفيته الديبلوماسية، يُدركُ أنَّ النار في غزة قابلة للاشتعال على أكثر من جبهة، وأنَّ المفاوضات النووية الإيرانية التي تتحرك بهدوء خلف الستار، قد تُترجَمُ ضغوطها على الأرض بتصعيدٍ على الحدود، وأنَّ الاستفزازَ الإسرائيلي اليومي في لبنان يستجدي ردود فعل تسمح لإسرائيل بالمزيد من الاعتداء.

في اليوم التالي لتصريحه، أُطلِقَت صواريخ من الجنوب (ليس بالضرورة “حزب الله”)، كما لو أن الجغرافيا تردّ على السياسة. لكن التوقيت يؤكد أنَّ الرئيس سلام لم يَكُن يُعلّقُ على حدثٍ، بل يتحسَّب له، ويُعلنُ مُسبقًا موقع لبنان الرسمي: ليس في غزة، ولا في طهران، ولا هدية مجانية لإسرائيل.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى